سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الثالث والثمانون: حين تختبر الفيزياء فرضياتها: هل يمكن تفسير الكون دون معرفة كل أسئلته؟
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
16/12/2025
التمييز بين عالم يُمكن فيه حدوث أشياء جديدة، وآخر ثابت تمامًا، لا يمثل إشكالًا كبيرًا في الفيزياء الكلاسيكية — إذ لا توجد مشكلة في مناقشة سيناريوهات بديلة لما كان سيحدث لو اختلفت نتائج مباريات كرة القدم، مثلًا.
أما في ميكانيكا الكم، فالأمر مختلف تمامًا وأكثر حساسية. لفهم السبب، يمكننا العودة إلى تجربة تمثيلية يُفترض فيها أن جمهورًا يطرح أسئلة على مجموعة من الممثلين. الحجة هنا أن الجمهور كان حرًا في اختيار الأسئلة، مما فرض على الممثلين تقديم استراتيجية تستجيب لجميع الخيارات، وهو ما لا يمكن حدوثه دون وجود وسيلة خفية للتواصل بينهم.
لكن من الناحية المنطقية، هذا الشرط صارم أكثر من اللازم. ما يُطلب منطقيًا هو فقط أن تكون إجابات الممثلين متوافقة مع الأسئلة التي طُرحت فعليًا، لا مع كل الأسئلة الممكنة.
يمكننا إذًا تفسير نجاحهم الظاهري بافتراض نوع من "التآمر" المسبق، حيث اتفقوا مسبقًا على إجابات، بحيث مهما كان السؤال المطروح، تظهر الإجابة كما لو كانت فورية.
هذا التآمر يبدو غير مرجّح، لكنه ليس أكثر غرابة من "التآمر" المطلوب في الشروط الابتدائية لكون حتمي، لكي تتوافق مواقع ذرات الكربون في حبر الصحيفة مع نتائج مباريات كرة القدم الفعلية — نوع من التوافق الدقيق الذي لا مفر منه إذا أردنا تفسير كل شيء ضمن عالم حتمي مغلق.
من الطرق الممكنة لتجاوز هذه المعضلات، النظر فيما إذا كان أي تفسير لميكانيكا الكم متسقًا مع النسبية الخاصة. لكن بما أن هذه التفسيرات صُممت للتعامل مع النسخة غير النسبية، يبقى السؤال: هل يمكن تعديلها لتصبح "متباينة لورنتز" بالكامل؟
هناك مبرهنة مشهورة في هذا السياق اقترحها لوسيان هاردي، نُشرت في Physical Review Letters 68, 9811، تُفيد بأن ذلك غير ممكن ضمن شروط معينة.
انظر أيضًا:
E.J. Squires و L. Hardy، Physics Letters A 168, 169 (1992).
وبالطبع، كل مبرهنة تعتمد على افتراضات. والدقة في تحليل هذه الافتراضات، وما إذا كانت معقولة أو لا، لا يزال محل نقاش علمي وفلسفي حي.
تبقى ميكانيكا الكم موضوعًا آسرًا. إنها تدهشنا بدقتها الشديدة، وبالقدر نفسه تُربكنا بمحدوديتها التفسيرية. وكما قال أينشتاين، رغم أنها ليست مكتملة، إلا أنها تُعطي تنبؤات صحيحة باستمرار.
السعي لفهم أعمق لن يتوقف. هناك اليوم عدد متزايد من الفيزيائيين، والرياضيين، والفلاسفة، ممن يكرّسون أنفسهم لهذا التحدي.
وكلما غصنا أكثر في هذه النظرية، كلما بدا أن علينا أن نُطلق عقولنا خارج حدود الزمان والمكان.
فكل محاولة لتفسيرها داخل هذه الحدود — ضمن ما يُسمى "الزمكان" — تؤدي بنا إلى مزيد من الأسئلة بدلًا من الإجابات.
وكأن الفيزياء، إن لم تتحرر من القيود التي فرضتها على ذاتها، ستظل حبيسة قوانين محلية، مقيدة، غير قادرة على الإحاطة بكامل الواقع.
يتبع في الجزء 84...







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN