من يتأمل مسيرة موسى عليه السلام يلمح خيطًا إلهيًا دقيقًا يتحرك في الظل، يدبّر ويحفظ ويرسم المستقبل بعيدًا عن ضجيج الأحداث. فقد أخبر الإمام الصادق عليه السلام أن فرعون، حين بلغه أن زوال ملكه سيكون على يد مولود من بني إسرائيل، بالغ في القتل حتى تجاوز عدد الضحايا الآلاف، ومع ذلك عجز عن الاقتراب من الطفل الذي جعله الله حجّة على خلقه. وفي الآية ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾ يتجلى أول مشاهد هذا الحفظ، مشهد يبدأ قبل الولادة وينتهي عند مقام الرسالة، إذ إن الله كما يقول الإمام الصادق عليه السلام يحفظ من أراده حجّة منذ اللحظة الأولى، فيسوق إليه لطفه قبل أن يرى نور الحياة. جاء حمل أم موسى خفيًا بستره تعالى، فلم يشعر به أحد، وحين دنت ساعة الولادة حضرت القابلة التي جعل الله في قلبها مودّة للطفل، فلما رأته وقع حبه في قلبها كما روي عن الإمام الباقر عليه السلام: «وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبّه». كان هذا الحب سياجًا أوليًا أقامه الله حوله، فالمحبة في هذه اللحظات لم تكن عاطفة عابرة بل وسيلة نجاة تحفظه من أعين الجواسيس والجنود. وكانت أم موسى تسير بين نساء بني إسرائيل بخطوات هادئة لا تثير شكًا، كأنها تُساق بلطف خفي إلى اللحظة التي ستضع فيها الطفل في صندوق صغير وتلقيه في اليمّ. لم يكن هذا الفعل يأسًا، بل امتثالًا لتدبير لا تبلغه العقول، تسليمًا لله بعد أن أدّت ما تستطيع، وتركًا لبقية الطريق لتقدير لا يُضِلّ. وتتقدم أخت موسى في المشهد، تتبعه بعيون حذرة لا تلتفت إليها الأنظار، فتغدو جزءًا من شبكة الحفظ الإلهي، تتحرك بصمت، ترقب وتسدّد وتربط المراحل الصغيرة بعضها ببعض في سلسلة لا يفهمها إلا من يعلم أن العناية الإلهية لا تعمل بالمعجزات وحدها بل بالأسباب الهادئة التي تبدو عادية. ويصل الصندوق إلى قصر فرعون، فيلتقطه حرس الظالم الذي كان يبحث عن الطفل نفسه، لكن يد القدَر تقوده إلى أحضان آسيا بنت مزاحم، تلك المرأة الطاهرة التي جعل الله قلبها موطن الرحمة في بيت القسوة. إن وجود موسى في القصر لم يكن صدفة، بل رسالة بليغة: أن الله قادر على أن يجعل من قلب العدو مأوىً لوليّه، وأن التغيير العميق قد يبدأ من أعمق نقطة في داخل منظومة الفساد نفسها. وقد رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام أن للقائم المنتظر عجل الله فرجه شبهًا بموسى: خفاء مولده وغيبته ونجاته، في إشارة إلى أن السنن الإلهية التي تحكم مسار الحجج واحدة، وأن الخفاء ليس عجزًا، بل مرحلة إعداد يعقبها الظهور حين تتهيأ الأرض للعدل. وهكذا نرى أن قصة موسى ليست سردًا تاريخيًا، بل مرآة لسنن جارية في كل زمان، تكشف أن العمل الهادئ أطول عمرًا من الضوضاء، وأن الله يدبّر للحق عبر قلوب الناس وأفعالهم الصغيرة، وأن البيت الصالح هو نقطة البداية لكل إصلاح، وأن المجتمع حين يمتلك الوعي يصبح جزءًا من شبكة الحفظ الإلهي. وفي هذا كله دعوة إلى الثقة بالله حين تغيب الحلول الظاهرة، وإلى الإيمان بأن الغيب ليس غيابًا، بل استعداد لطلوع فجر جديد. بهذه الرؤية يتضح أن قصة موسى ليست مجرد حكاية نبي نجا من القتل، بل درس متكامل في كيفية صُنع الله للتاريخ عبر خطوات صامتة لا يشعر بها إلا من أيقن أن العدل يأتي على مهل، وأن نور الله لا ينطفئ مهما طال ليل الظلم.







وائل الوائلي
منذ 8 ساعات
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN