في الثالث عشر من يونيو عام 1903، جلس العالمُ ساكنًا، لكنه لم يكن صامتًا، كانت قاعة الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم مزدانة بعبق المجد الحقيقي، إذ وقف الحاضرون على أقدامهم تحيةً لامرأة لم يعرفوا لها مثيلًا: ماري سكلودوفسكا كوري، العالمة التي أشعلت قلب الفيزياء باكتشافها لمفاهيم لم يكن العقل يتصورها من قبل، لم تكن كوري نجمة مسرح أو بطلة حروب، بل كانت رمزًا لعصر كان المجد فيه يُمنح لمن يفكك أسرار الطبيعة، لا لمن يجيد الوقوف أمام الكاميرات، حين صعدت ماري إلى منصة نوبل، لم يكن ذلك تتويجًا لشخصها فقط، بل انتصارًا للعلم، وللفكر الإنساني كله، وُلدت ماري في وارسو عام 1867، لكنها لم تُخلق لتبقى حبيسة حدود الدولة أو التقاليد، شقت طريقها إلى باريس حيث درست في جامعة السوربون، وهناك التقت بيار كوري، شريك حياتها العلمي والوجداني، في نهاية القرن التاسع عشر، كانت الفيزياء تترنح أمام اكتشافات جديدة: الإلكترون، الأشعة السينية، النشاط الإشعاعي، لكن ماري كوري كانت أول من جعل "الإشعاع" ليس مجرد ظاهرة، بل مجالًا علميًا مستقلًا، في عام 1898، أعلنت ماري وبيار اكتشاف عنصرين جديدين: البولونيوم والراديوم، لم يكن هذا مجرد اكتشاف كيميائي، بل قنبلة معرفية، لقد بينا أن الذرة، التي طالما اعتبرت غير قابلة للانقسام، تنبعث منها طاقة مستمرة، ما يعني أن الطاقة مختزنة في بنية المادة نفسها مفهوم سيشكل حجر الأساس للفيزياء النووية لاحقًا، إن تفسير ماري للنشاط الإشعاعي لم يكن فقط ثوريًا، بل جاء في وقت كانت الفيزياء بحاجة ماسة لإعادة تعريف مفاهيم مثل الطاقة، والكتلة، والثبات الذري، وبهذا، ساهمت في فتح الطريق أمام أينشتاين لتقديم معادلته الشهيرة Emc²، التي ربطت الكتلة بالطاقة بشكل لا يمكن فصله، في عام 1903، مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء لكل من هنري بيكريل وبيار وماري كوري، تكريمًا لأبحاثهم في النشاط الإشعاعي، كانت تلك المرة الأولى التي تُمنح فيها الجائزة لامرأة، وكانت الأكاديمية السويدية مترددة في البداية في إدراج اسم ماري، لولا إصرار بيار وتدخل عالم الرياضيات السويدي ماجنوس جوستا ميتاج-ليفلر، لربما محا التاريخ اسمها من السجل الرسمي، في القاعة، كان الحضور يضم علماء بارزين، من بينهم الفيزيائي السويدي سفين هدن، وبعض أعضاء اللجنة الدائمة لجائزة نوبل، كما حضرت زوجة نوبل السابقة عن بعد، في ظل قيود ذلك العصر، الوقوف أمام هؤلاء لم يكن بالنسبة لماري مجدًا شخصيًا، بل لحظة للدفاع عن الفكرة التي آمنت بها: أن العلم لا يُقيَّم بجنس صاحبه أو طبقته، بل بما يضيفه للإنسانية، بعد سنوات من العمل المضني، من فصل الراديوم عن خام البيتشبلند، إلى دراسة خصائصه العلاجية، حصلت ماري على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1911، كانت أول من نال جائزتين، وما زالت الوحيدة التي نالت نوبلين في علمين مختلفين، لم تكن تلك الجائزة مجرد إضافة إلى مسيرتها، بل تأكيدًا على أن الفيزياء والكيمياء لم تعودا علومًا منفصلة، بل متكاملة، لقد أعادت ماري تشكيل الطريقة التي يُفهم بها الترابط بين المادة والطاقة، بين البنية والتركيب، ما يثير التأمل في هذه اللحظة التاريخية ليس الجائزة فقط، بل من كان يصفق في القاعة، على مقاعد التكريم جلست النخبة الثقافية والعلمية والسياسية، لم يكن نجوم السينما أو لاعبو الكرة في الواجهة، كان من يحظى بالتصفيق هم أولئك الذين فككوا الغموض وفتحوا نوافذ جديدة على الكون، أينشتاين، الذي التقى بماري بعد ذلك، وصفها بأنها "روح نقية"، بينما كان يرى في تتويجها نصرًا للعلم الخالص، العلم الذي لا يسعى إلى مجد، بل يُمنح المجد، لقد حضرت ماري في زمن كانت فيه أوروبا تصفق للعلماء كما تصفق اليوم للمشاهير، بعد تتويجها، لقيت ماري كوري اهتمامًا عالميًا، لكنها واجهت أيضًا حملة تشويه إعلامية، خاصة بعد وفاة زوجها بيار، واتّهامها بعلاقة مع العالم بول لانجفان، لم تمنع هذه الحملات المجتمع العلمي من تقديرها، فقد تأسس معهد الراديوم في باريس بفضل جهودها، وبدأت تستخدم الراديوم في علاج الأورام، ما اعتبر النواة الأولى للعلاج الإشعاعي الحديث، لكن في المقابل، كانت ماري رمزًا لانحدار القيمة المعنوية للعلماء مع مرور الزمن، لم تعد قاعات التتويج تذكر، وصارت الأضواء مسلطة على من يملك سلطة، أو شهرة، أو ضجيجًا رقميًا، اليوم، يُمنح المجد غالبًا لمن يثير الجدل لا لمن يقدم برهانًا، لمن يتصدر العناوين لا من يحرر معادلة، أينشتاين، كوري، بوهر، دي بروغلي... جميعهم كانوا يومًا نجومًا عالميين بالمعنى الحقيقي، يجذبون الحشود لأنهم يمثلون قمة الإدراك الإنساني، المفارقة أن جائزة نوبل، التي كانت تُنقل بتفاصيلها عبر الصحف العالمية، أصبحت اليوم خبرًا ثانويًا في كثير من المنصات، فقد تحوّل المجد إلى عابرٍ سطحي، وفُصل عن العمق المعرفي، حين ننظر إلى صورة ماري كوري في قاعة نوبل، لا نرى مجرد فوز بجائزة، بل نرى امرأة حملت جسدها المُنهك ووقفت لتقول: أنا هنا لأن العلم لا يعترف إلا بالحقائق، في عروقها كان يسري الراديوم، وفي عقلها كانت تضيء معادلات لم تُكتب بعد، إن تتويج ماري كوري كان تتويجًا لعصر أشرق فيه العقل، واحترمت فيه الأمم من يضيف إلى الوجود قيمة، ربما سرقت الشهرة في عصرنا بريقها من مستحقيها، لكن إشعاع ماري كوري سيظل حيًا، لا يُمحى
و الصورة تمثل لحضة استلامها الجائزة نوبل للفيزياء حيث صعدت الى المنصة نلاحظ انحناء نخب المجتمع من العلماء و المثقفين احتراماً لها و لانجازها العلمي الذي غير مفاهيم الفيزياء و الكمياء .







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN