ربما تتساءل الآن ما الذي يجعل قطعة من الكربون النقي، مرتبة في بنية رباعية تكرارية ثلاثية الأبعاد، أن تصبح أحد أصلب المواد المعروفة للبشر الأمر ليس فقط في الكيمياء، بل في فيزياء الحالة الصلبة والبنية البلورية نفسها، حيث تلعب الروابط التساهمية الفائقة بين ذرات الكربون المتناظرة الدور الحاسم، ومن هنا يبدأ حديثنا عن الماس الصناعي، ذاك المنتج الذي أراد العلماء من خلاله تحدي الطبيعة نفسها وإعادة خلق ظروف الأرض الباطنية في مختبرات معاصرة حول العالم، نحن لا نتحدث هنا عن تقليد بصري للماس الطبيعي، بل عن إعادة بناء للتركيب الفيزيائي الدقيق، وهنا يبرز سؤال: كيف يُصنع الماس صناعياً لنبدأ من الأساس الفيزيائي.
أنت تعرف أن الضغط ودرجة الحرارة هما المحددان الأساسيان لتحول الكربون إلى ماس، وهذا ما تحققه التقنية الأولى وهي طريقة الضغط العالي والحرارة العالية (HPHT)، حيث تُوضع قطعة من الغرافيت، أو أحياناً هيدروكربونات، داخل خلايا ضغط صممت لتوليد أكثر من 5 غيغا باسكال من الضغط مع حرارة تفوق 1500 كلفن، هذه القيم ليست اعتباطية بل تم اشتقاقها من معادلات الحالة للكربون في أطواره الصلبة، وتحديدًا من دراسات على خطوط الطور، واحدة من أقدم الدراسات التجريبية التي أرست الأساس لهذا المسار تعود إلى ستانفورد موور وروس ميلز من مختبرات "جنرال إلكتريك" عام 1955، حيث نجحوا في تصنيع أول ماس صناعي حقيقي، وليس مجرد مادة شبيهة، بالاعتماد على خلية بلتونيك سداسية الرأس تخلق تلك الظروف الفيزيائية القاسية المطلوبة لتكوين البنية الماسية.
لكن التقنية الأخرى التي ربما ستشد انتباهك أكثر، خاصة إن كنت تميل إلى فيزياء البلازما والسطوح، هي تقنية ترسيب الأبخرة الكيميائي (CVD)، وفيها لا نحتاج لضغط هائل، بل نستخدم مزيجًا من غازات الكربون (عادة ميثان) والهيدروجين تحت ضغط منخفض، وتُعرّض لبلازما ناتجة عن مجال ميكروويفي موجه بدقة، فتتفكك الروابط داخل الميثان، وتترسب ذرات الكربون فوق ركيزة مسطحة، غالبًا من الماس الصناعي أو السيليكون، ما يعطي فرصة لبناء بلورات ماسية طبقة تلو أخرى، هذه العملية التي قد تبدو بطيئة تُدار بمعادلات نشر حراري وانتقال الكتلة، ولها جذور في تجارب جامعة طوكيو التقنية منذ الثمانينيات بقيادة البروفسور ماسايوكي كاوامورا، وقد طورتها لاحقًا مختبرات جامعة ولاية أريزونا تحت إشراف فيزيائي المواد المتقدمة الدكتور كريستوفر هيتون.
قد تسألني: أين يصنع هذا الماس الآن على نطاق تجاري والإجابة ستفاجئك، فالصين هي اللاعب الأول عالميًا في إنتاج الماس الصناعي، إذ تسيطر وحدها على ما يفوق 90 من السوق العالمية، تحديدًا عبر شركات مثل Zhengzhou Sino-Crystal Diamond التي تعمل بخطوط إنتاج CVD وHPHT واسعة النطاق، تليها الهند والولايات المتحدة، حيث تتصدر شركة Element Six التابعة لـ"دي بيرز" المشهد التقني في أوروبا والولايات المتحدة، كما توجد برامج بحث متقدمة في جامعة كامبريدج بالتعاون مع مختبرات IBM لتحسين الأداء الإلكتروني للماس الصناعي في التطبيقات الكمية
فيزيائيًا، من أهم خصائص الماس الصناعي والتي يجب أن تُفهم من منظار فيزيائي دقيق، هو فجوة الحزمة (band gap) العالية التي تبلغ حوالي 5.5 إلكترون فولت، مما يجعله مادة عازلة للكهرباء بشكل شبه كامل ولكن في الوقت نفسه قادرًا على تحمل حقول كهربائية عالية دون انهيار، بل والأدهى من ذلك، فإن نقاوته البلورية تسمح بإقحام شوائب مضبوطة بدقة مثل شوائب النتروجين المعروفة بمراكز NV (Nitrogen Vacancy centers)، والتي أصبحت الآن حجر الزاوية في أنظمة الحوسبة الكمية ومعالجات الاستشعار الكمومي، وهنا لا يمكن أن نغفل إسهام الدكتور ديفيد أويس في جامعة هارفارد الذي أشرف على أول تجارب تثبيت وتحكم في مركز NV أحادي داخل بلورة ماس صناعي عام 2013، وقد تطورت هذه التقنية اليوم لتُستخدم في المجسات الكمية الدقيقة في جامعة بازل وجامعة ستانفورد.
لنضع الأمور الآن في سياق أوسع، لا يقتصر دور الماس الصناعي على الجماليات أو التطبيقات البسيطة، بل هو اليوم في صميم أبحاث الإلكترونيات عالية القدرة، حيث بدأت معامل توشيبا وبوش في تطوير ترانزستورات من الماس تعمل بكفاءة تحت درجات حرارة تتجاوز 400 درجة مئوية، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بفضل الموصلية الحرارية الفائقة للماس والتي تصل إلى 2200 واط/متر.كلفن، وهي أعلى من أي مادة صلبة معروفة بما في ذلك النحاس.
والآن، ربما تتساءل ما إذا كانت هذه التكنولوجيا في متناول العالم النامي، ومن هنا تبرز مبادرات بارزة مثل مركز النانوفوتونيات في جامعة سنغافورة الوطنية، حيث يشرف البروفسور فينيت شاندرا على مشروع تحويل مخلفات الكربون الصناعي إلى ألماس منخفض التكلفة باستخدام ترددات ميكروية محلية الصنع، في حين تدير جامعة بغداد قسمًا ناشئًا لأبحاث المواد فائقة الصلابة بالتعاون مع معهد بحوث النانو بجامعة شيفيلد البريطانية
حين ننظر إلى الماس الصناعي، فإننا لا نرى مجرد مادة فائقة الصلابة، بل نرى الدليل الأوضح على قدرة الفيزياء على تجاوز حدود الطبيعة ذاتها، فأن نعيد بناء واحدة من أعقد البنى البلورية تحت شروط نولدها نحن في المختبر هو اعتراف ضمني بأن العلم لم يعد يكتفي بالملاحظة، بل أصبح يمارس الخلق، لا بالمعنى الفلسفي، بل بالمعنى الدقيق لصياغة المادة من قوانينها الأساسية، وهذا ما يمنح الماس الصناعي مكانته، ليس كمجرد منتج، بل كإنجاز تجريبي يعكس تراكمًا معرفيًا هائلًا في الديناميكا الحرارية، فيزياء المواد، ميكانيكا الكم، وهندسة الحقول. لذلك، حين تحمل شريحة من الماس الصناعي داخل معالج كمومي أو مستشعر دقيق، فأنت تحمل اختزالًا للعقل البشري وقدرته على تنظيم الذرات لا كما وجدت، بل كما يجب أن تكون. وفي هذا السياق، لا يُعد الماس الصناعي نهاية طموحنا، بل بدايته، بداية لعصر تتقاطع فيه حدود المادة مع حدود التصميم، وتندمج فيه الفكرة مع البنية في معادلة واحدة: الفيزياء تصنع المستقبل.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN