حسن الهاشمي
قبل الدلوف الى صلب الموضوع لابد من توضيح الفرق بين الأمر المولوي والأمر الارشادي، فالأمر المولوي هو الذي يستحق العبد اذا تركه العقاب، فاذا قال لك المولى: صل، فاذا لم تصل فتستحق العقاب، الأمر المولوي نتيجته، اما الطاعة فلها الثواب، واما المعصية فلها العقاب، أما الأمر الارشادي فاذا فعلته لي الثواب والاستفادة سواء في الدنيا أو في الآخرة، أما اذا تركته ليس فيه أي ضرر، نعم أفوّت على نفسي فائدة، ولكن ليس فيه عذاب ولا عقاب، مثلا تأتي رواية وتقول: كل الرمان صباحا على الريق، اذا اكلته كذلك فيه اثارها الطبيعية وتعود على جسمك بالمنفعة، هذا أمر ولكنه ليس مولويا؛ لأنه يمكن لي ان اتركه ولا عقاب لي على ذلك.
من الواضح إن النهي الموجه إلى آدم عليه السلام من الله سبحانه وتعالى بعدم الأكل من الشجرة المعينة لم يكن أمرا مولويا إلزاميا يستحق المخالف والعاصي له العقاب من المولى سبحانه وتعالى، بل هو أمر إرشادي تنزيهي، فمخالفة النهي (الأكل من الشجرة) إنما يعد معصية بالمعنى المصطلح إذا كان النهي مولويا صادرا عنه سبحانه بما هو مولى واجب الطاعة فيما يأمر، لا ما إذا كان النهي إرشاديا واردا بصورة النصح، والآثار التي حصلت لآدم نتيجة لهذه المخالفة إنما هي آثار طبيعية وضعية لمثل هذه المخالفة، لا أنها عقاب من الله سبحانه وتعالى له على ذلك، وهناك قرائن عديدة في الآيات الخاصة بقصة آدم عليه السلام تدل على أن النهي كان إرشاديا تنزيهيا لا يترتب على مخالفته غير الآثار الطبيعية الوضعية المترتبة على نفس وذات العمل، لا أنه مولوي إلزامي حتى يترتب عليه إضافة إلى الآثار الوضعية الطبيعية عقاب المخالفة والمؤاخذة على التجرؤ على أوامر المولى من قبل المكلفين، ومن هذه القرائن:
أولا: إن الأثر المترتب على المخالفة بقي على حاله بالرغم من توبة آدم عليه السلام وإنابته إلى الله مع أنه لو كان النهي نهيا تحريميا فيجب أن يرتفع الأثر بعد التوبة والإنابة، وهذا لم يحصل، فإذن هو دليل على أن الخروج من الجنة والتعرض للشقاء والتعب كان أثرا طبيعيا لنفس العمل لا انه عقاب من المولى سبحانه وتعالى على مخالفته، فالنهي كان من الله سبحانه وتعالى لآدم عليه السلام هو لأجل صيانة آدم عن هذه الآثار والعواقب، كما ينهى الطبيب مصابا بالسكر عن تناول المواد السكرية، فهذا التوجيه والإرشاد من الطبيب لهذا المصاب بداء السكر إنما هو لعلمه بما في تناول المواد السكرية من آثار سلبية على صحة وجسم الإنسان المصاب، فإذا ما التزم هذا المصاب بأقوال الطبيب فإن الآثار السلبية المترتبة على تناول المواد السكرية لمثله تنعدم لالتزامه بأوامر طبيبه، ولكنه إذا خالف أوامر الطبيب ولم يلتزم بتوجيهاته وإرشاداته فإنه بلا شك تلحقه تلك الآثار.
ثانيا: إن الآيات الواردة في سورة ( طه ) تكشف النقاب عن نوعية هذا النهي وتصرّح بأن النهي كان إرشاديا لصيانة آدم عما يترتب عليه من الآثار المكروهة، والعواقب غير المحمودة، قال سبحانه: (فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) طه:117 ـ 119. فإن قوله سبحانه : (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) صريح في أن أثر امتثال النهي هو البقاء في الجنة ونيل السعادة التي تتمثل في قوله: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى) وأن أثر المخالفة هو الخروج من الجنة والتعرض للشقاء الذي يتمثل في الحياة التي فيها الجوع والعري والظمأ وحر الشمس، كل ذلك يدل على أنه سبحانه لم يتخذ لدى النهي موقف الناهي الواجب الطاعة، بل كان ينهي بصورة الإرشاد والنصح والهداية، وأنه لو خالف لترتّب عليه الشقاء في الحياة والتعب والنصب فيها.
وبهذا يتضح قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) كنز العمال للمتقي الهندي: ١٠١٧٤. فالشرع إنما يحكم تأسيسا، وهو المرجع الأول فيما لا حكم فيه للعقل، ففي دائرة الأحكام والتكاليف الشرعية - وضعية كانت أو تكليفية - الإسلام يجب ما قبله، ويذهب بالآثار الشرعية المترتبة على الأفعال التي ارتكبها الشخص قبل إسلامه على التفصيل المذكور في الفقه، أما الآثار الوضعية الحقيقية فليست بتشريعية، ولا تنالها يد الإنشاء والاعتبار، فليست قابلة للمحو بالإسلام والتوبة.
وتعاني البشرية اليوم، من شرور المعاصي التي تعتبر من أخطر أمراض الإنسان وأسباب مآسيه.. وتبذل الأمم والشعوب والحكومات الآن جهوداً ضخمة لمكافحة الجريمة والرذيلة والانحراف ـ ولكن وفق تصورها الخاص بالجريمة ـ فتنفق الأموال الطائلة، وتجنّد القوى البشرية الكثيفة، وتؤسّس السجون وتقيم المحاكم، وتنشئ المعاهد لدراسة الجريمة وكيفية علاجها، وتسعى بأساليب علمية وفنية مختلفة في الإعلام والتربية والتوجيه، في محاولة منها لإصلاح الإنسان الشاذّ، وتصحيح سلوكه، حفظاً للأمن، ودفعاً للعدوان، وإصلاحاً لسلوك الأفراد والجماعات ـ حسب وعيها ومفهومهاـ ولكن دونما جدوى، فقد غدت الجريمة، أبرز ظاهرة وأعقد مشكلة في حياة الإنسان.
والسبب في ذلك يعود إلى فشل مناهج الإصلاح نفسها، وعجز طريقة العلاج التي لجأ الإنسان إليها، بعد خروجه على قاعدة القانون الإلهي في الحياة، وبعد أن دخلت وسائل مكافحة العصيان والجريمة، هي نفسها في دائرة العصيان والجريمة ـ في كثير من الأحيان ـ فكيف يكافح جريمة القتل والترويع والإرهاب وهو يشجع في الوقت نفسه على الزنا والقمار والربا والإسفاف.
فالمعصية المولوية والإرشادية إذا ما صدرت من انسان ما فإنه يترتب عليها آثار دنيوية، فيما تقتصر الآثار والعقوبات الأخروية على المعصية المولوية فقط، نعم يمكن تدارك الآثار بالتوبة والإنابة الخالصة إلى الله تعالى، بيد أن وبالها لا يمكن محوه وطمسه لاسيما في المعصية الإرشادية التي هي جزء لا يتجزأ من التبعات التكوينية لتلك المخالفة، وهي ظاهرة وشاخصة في النهي الإرشادي خاصة دون المولوي كما ذكرنا سابقا.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN