لمّا أرسلت الشمس خيوطها الأخيرة على بيوت المدينة، خيّم على دارٍ صغيرةٍ في طُهرها صمتٌ مهيب، كأنّ الزمن نفسه وقف على أعتاب تلك الغرفة مترقّباً نبضاً يتهادى نحو الأبدية.
في قلب الدار، حيث يفوح عبق النبوّة من الجدران، سارت السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بخطوات هادئة. لا وهنَ يظهر عليها، وإن حمل جسدُها آثاراً منكسرة؛ فقد كانت من الذين إذا انكسروا ازدادوا ضياءً.
نظرت حولها نظرة الوداع، ثم دعت ابنتيها ، وربّتت على رأسيهما بحنانٍ يشبه آخر ضوء قبل الغروب. وبصوتٍ كأنّه من عالمٍ غير هذا قالت لهما:
اذهبا يا قرتي عيني، اذهبا إلى بيوت الهاشميات.
كانت تشفق عليهما من مشهدٍ قد يعصف بطفولتهما، تودّ لو تصون قلبيهما من الصدمة كما تصون الورد من ريح الشتاء.
خلت الدار، وبقيت فاطمة وحدها إلا من أسماء بنت عميس، تلك المرأة الثابتة التي اختارت أن تكون شاهدة النور ساعة انطفائه جسداً.
وضعت الزهراء يدها على صدرها المتعب، ثم التفتت إلى أسماء وقالت:
يا أسماء، هاتِ ما بقي من حنوط أبي.
فقامت أسماء، فجاءت بالكافور المبارك، ووضعته بقرب رأسها.
توضّأت سيّدة النساء وضوء الموحّد العارف، الذي يتهيّأ لرحلة لا رجوع فيها. ثم طلبت ثيابها الطاهرة التي تصلّي فيها، وطيبها الذي كانت تضعه في يوم عيد. غير أنّ هذا اليوم لم يكن عيداً للأرض، إنما كان عيداً للسماء.
تمدّدت فاطمة على فراشها المفروش وسط الدار، مستقبلة القبلة، كأنّما تستقبل الموت لا كضيف ثقيل، بل كصديق طال انتظاره.
غطّت جسدها بثوبها، ثم قالت بصوت خافت ولكن ثابت: يا أسماء، انتظريني هنيئة، ثم ادعيني، فإن أجبتُكِ فذاك، وإلا فاعلمي أنّي قد لحقتُ بأبي.
جلسَت أسماء عند قدميها، تراقب السكينة التي أخذت تنزل على وجه الزهراء كندى الفجر.
وما هي إلّا لحظات، حتى تغيّر وجه فاطمة، ففتحت عينيها فجأة، وكأنّ حجاباً انكشف عن بصيرتها. حدّقت في زاويةٍ من الغرفة لا ترى أسماء منها شيئاً، ثم علت ابتسامتها بنورٍ سماويّ.
قالت بنبرةٍ تُشبه نداء الملائكة:
السلام على جبرئيل السلام على رسول الله اللهمّ مع رسولك، اللهمّ في رضوانك وجوارك ودارك دار السلام.
ثم أغمضت جفنيها لحظة، وعادت تفتحهما كأنها تسمع صوتاً قادماً من العالم الآخر:
يقول: يا بُنيّة أقدمي، فما أمامك خيرٌ لكِ.
تنفّست الزهراء أنفاسها الأخيرة قائلةً:
عجّل بي يا قابض الأرواح، ولا تعذّبني إليك ربّي لا إلى النار.
مدّت جسدها الطاهر تسليماً، وهدأتْ بسكون مهيب سكون لا يشبه الموت، بل ولادةً في عالم آخر.
نادت أسماء، فلم يجبها الصوت الذي لطالما ردّد ذكر الله بلا انقطاع. كشفت الثوب، فإذا وجهٌ مطمئنّ تغشاه هيبة الرضا.
ارتمت أسماء على الجسد الطاهر تقبّله وتبكي:
يا فاطمة، إذا قدمتِ على أبيكِ رسول الله، فاقرئيه عن أسماء السلام.
عاد الحسن والحسين إلى الدار وقد خيّمت عليها رهبة الفقد. لمّا رأيا أمّهما مسجّاة، تقدّم الحسن وراح يقبّل وجهها البارد وهو يبكي:
أمّاه كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني.
واقترب الحسين، يلثم قدميها ويقول بصوتٍ مكسور كقلب طفل:
أنا ابنك الحسين كلّميني قبل أن يتصدّع قلبي فأموت.
حاولت أسماء أن تمسك بكلماتها، لكن الدموع سبقتها:
يا ابنيّ رسول اللهعظم الله أجركما بوفاة أمكما.
خرج الطفلان يبكيان بكاءً يقطّع أوتار القلوب، حتى بلغ صوتهما أبواب المسجد. هرع الصحابة نحوهما، فلما سمعوا الخبر انكفأت المدينة في حزنٍ لم تشهد مثله منذ رحيل رسولها.
أما عليّ (عليه السلام)، فلما بلغه النبأ، سقط على الأرض وهو يتمتم:
بمن العزاء يا بنت محمد بمن العزاء.
في تلك الليلة، لم تبكِ المدينة بل خرّت ساجدة، تشهد رحيل ضوءٍ من بيت النبوّة.
رحلت فاطمة، لكنّ عبيرها ظلّ معلّقاً في هواء التاريخ، يروي أن الأرواح العظيمة لا تموت إنّما تصعد حيث يليق بها النور.







وائل الوائلي
منذ 42 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN