حسن الهاشمي
الاضرار الروحية التي تفتك بروح الانسان ربما تكون أشد فتكا من الأضرار الجسميّة التي تصيبه جراء تناوله لحم الخنزير، وهذا ما لا يدركه الانسان بشكل عام الا الانسان السوي فانه يحذر ويهرب من الاضرار الروحية هروبه من الأسد المفترس، قال علي بن الحسين عليهما السلام: (إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقائيس الفاسدة، ولا يصاب إلا بالتسليم، فمن سلم لنا سلم، ومن اهتدى بنا هدي، ومن دان بالقياس والرأي هلك، ومن وجد في نفسه شيئا مما نقوله أو نقضي به حرجا كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم وهو لا يعلم) بحار الأنوار العلامة المجلسي ج ٢ ص ٣٠٣.
ان دين الله لا يُدرك بالرأي المجرد أو العقل القاصر وحده، بل يُفهم من خلال الوحي والقرآن وسنة النبي (صلى الله عليه وآله) وتفسير الأئمة (عليهم السلام)، لأن العقل قد يخطئ أو يقصر عن إدراك بعض حقائق الغيب والتكاليف، وكذلك ان الشريعة مبنية على مصالح قد لا تظهر كلها للعقل البشري.
والمتمعن في كلام اهل البيت عليهم السلام يذعن انه ليس المقصود إلغاء العقل، بل المقصود أن العقل وحده غير كافٍ لفهم الدين كاملاً، بل يحتاج إلى النقل الصحيح (الوحي) مع عقلٍ منضبط، وكمثال على ذلك قد يرى بعض الناس أن بعض العبادات (كالصلاة أو الصوم) لا فائدة عقلية ظاهرة لها، لكن في نظر الشريعة لها مصالح عظيمة قد لا يُدركها العقل مباشرة، فالدين يُفهم بالعقل المؤمن الخاضع للنص، لا بالعقل المتعجرف الذي يرفض ما لا يدركه.
مما لا شك فيه ان حكم الشريعة يجب أن يكون صالحا واقعا لجميع الناس في جميع الأماكن، ولذلك وجب أن يكون التحريم عاما شاملا، ولا يجوز للمسلم رفض حكم الشريعة إذا لم تظهر له حكمته؛ لأن هذا يؤدي إلى أن يتخذ كل إنسان من عقله وعلمه القاصرين مقياسا متفاوتا عن مقياس غيره في قبول أحكام الشريعة ورفضها، بل عليه قبول الحكم الشرعي في التحليل والتحريم متى ثبت وجود النص؛ سواءً أفهم الحكمة في ذلك أم لم يفهمها؛ لأن الكثير من حِكم الأحكام من أول عهد الشريعة إلى هذا العصر ظل مجهولاً حتى اكتشفت الوسائل العلمية الحديثة هذه الحِكم، وذلك نظير المكلف تجاه القوانين الوضعية النافذة عليه، فإن على كل شخص طاعة القانون، سواء أكان مقتنعا بحكمته أم غير مقتنع بعد أن يصدر القانون عن مصدره التشريعي؛ لأن المفروض أن السلطات التشريعية التي تُصدر القانون قد درست ما يحيط بالموضوع من كافة النواحي المتعلقة بالفرد والجماعة والحاضر والمستقبل والنواحي المالية والخلقية والاجتماعية دراسة بصيرة، لان هذه الدراسة بطبيعة الحال تكون أوسع من بصيرة الفرد المكلف، الذي يقيس الأمور عادة بمقياس مصلحته وأهوائه ورغباته فقط.
وطالما نرى في وقتنا الحاضر أن لحم الخنزير موجود في أغلب أسواق العالم، وأكثر الناس يأكلونه ويتلذذون به حسب زعمهم؟! يقول بعض المستغربين لماذا حرّم الاسلام لحم الخنزير؟ إذ ليس فيه أي ضرر، فإذا تقولون بأن فيه نوعا من الميكروبات والمضار الجسيمة الأخرى، فإن العلم الحديث استطاع القضاء على جميع المضار المادية الموجودة فيه، فلماذا يحرّمه الاسلام؟! والحال انه أصبح خاليا من جميع المضار المادّية.
الجواب واضح جدا، إن الأشخاص الذين يدّعون هذا الادعاء فإنهم نظروا إلى هذه المسألة من بعد واحد، وتركوا البعد الآخر، فعلى الفرض إن لحم الخنزير خال من الأضرار المادية والبدنية، ولكن لا يمكن لنا أن ننكر الأضرار الروحية التي فيه، إن الخنزير حيوان مستهتر وقذر ولا يملك شيئا من الحياء والعفة، فالحيوان الذي فيه هذه الصفات، فإن لحمه أيضا يتصف بهذه المواصفات، لذا فالشخص الذي يأكل لحم الخنزير فإنه سينقل صفة الاستهتار والميوعة وحب الشهوات والحماقة من دون أي شك.
أضرار لحم الخنزير لا تقتصر على الأبعاد الصحية فحسب، بل يشير التراث الديني وخاصة في فكر أهل البيت (عليهم السلام) إلى أبعاد روحية وأخلاقية أيضاً، ومنها:
1ـ تأثير على الطبع والسلوك: الخنزير يوصف في الروايات بأنه فاقد للغيرة، وله طباع خبيثة كالكسل، القذارة، وسهولة الانقياد للشهوات، وأكل لحمه قد يُورث هذه الطباع في الإنسان، كما تشير الروايات إلى أن الطعام يؤثر على نقاء القلب وصفاء النفس.
2ـ تغذية الجسد بما لا يرضي الله: أكل المحرّمات كأكل لحم الخنزير يجعل الجسد ينمو من الحرام، وهذا يؤدي إلى حجب استجابة الدعاء وضعف التوفيق للطاعة.
3ـ الظلمة القلبية: بحسب بعض كلمات العلماء، فإن أكل الحرام يُورث الظلمة في القلب، ويقلل من القابلية على تقبّل الحقائق الإيمانية.
4ـ فقدان البركة في الرزق والعمر: العمل أو التجارة بما حرّمه الله، كأكل لحم الخنزير، يُذهب البركة من المال والنفس.
ورغم أن بعض هذه الآثار غير ملموسة ماديا، إلا أنها معتبرة في الفكر الإسلامي كأضرار باطنية لها أثر في الدنيا والآخرة، من جانب آخر نرى القرآن الكريم يصف اليهود بقساوة القلب والعناد وأنهم أكّالون للسحت، أي لا يتركون أكل الحرام أبدا، وفي هذا التعبير إنذار كبير للذين يأكلون الحرام، فإنهم سيكونون كاليهود المعاندين، وإنهم سوف يصدّون عن الحق وعن الدين وسيسعون في الأرض فسادا، دون أن يلتفتوا إلى ذلك، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) الحشر: 19. "نسوا الله": أي تركوا طاعته، وابتعدوا عن ذكره وأوامره، "فأنساهم أنفسهم": جزاءً لهم، حرمهم الله من معرفة مصالح أنفسهم، فغفلوا عن إصلاحها، وهلكوا، "الفاسقون": هم الخارجون عن طاعة الله.
من نسي الله سبحانه أنساه نفسه، حتى لا يعرفها، ولا يعرف حظّها من الخير، بل يجهل موقعه، ويظنّ أنه على شيء وهو في ضلال مبين، ومن يترك ذكر الله، يُحرم من نور البصيرة، ويصاب بالغفلة عن الله التي تؤدي الى ضياع هوية الإنسان الحقيقية، أما ذكر الله وحضور طاعته تحفظ الإنسان من الفسق والتيه والضياع، وهي دعوة للتوبة واليقظة وعدم الغفلة.
فللغذاء الحرام أضرار بدنية واجتماعية وسياسية واقتصادية واضحة للجميع، وهو أحد العوامل المهمة التي تدفع الانسان إلى ارتكاب المحرمات والذنوب والجرائم، وعلة التحريم هي للحد من الانتهاكات التي قد تبدر من الذين امتزجت أجسادهم بالغذاء المحرّم، وهي آثار وضعية تجبل عليها النفس من باب محاكاة المادة الأساسية في تكوين الإنسان المادي والروحي، وهذه المادة اذا كانت من حلال فما يبدر منها إلا الطيب، والعكس صحيح تماما لأولئك الذين أشربوا في بطونهم الحرام تراهم يتسكّعون في طرقات الجريمة والآثام، ويا لها من قسمة ضيزى أعاذنا الله تعالى من شرورها ومفاسدها الواضحة للعيان.