في زمنٍ تتلاطم فيه أمواج الفتن، وتتصاعد فيه عواصف التضليل الإعلامي كالسيول الجارفة، يقف العراق الأبي أمام محنة حضارية تستهدف جذور هويته وثوابت وجوده. فكما تحتاج السفينة في عرض البحر المتلاطم إلى بحارة ماهرين يقودونها بحكمة وبصيرة، يحتاج مجتمعنا العراقي إلى نخبه المثقفة وكوادره الواعية لتكون منارات هداية في الليل الأليل .
إن ما يواجهه العراق اليوم ليس مجرد انتقادات عابرة أو اختلافات فكرية طبيعية، بل هجمة إعلامية منظمة تستهدف بدقة متناهية القيم الدينية الأصيلة والثوابت الثقافية الراسخة. هذه الهجمات تتخذ من التشويه المنهجي والتحريف المقصود أدوات لها، محاولة زعزعة الإيمان بالذات وبث روح الشك في نفوس الأجيال.
وتتركز هذه السهام المسمومة بشكل خاص على مكون أصيل قدم الكثير من التضحيات ، ذلك النهر العذب الذي يسقي أرض الرافدين منذ قرون، والذي يمثل عمقاً حضارياً وروحياً لا يمكن المساس به دون أن تهتز أركان المجتمع كله.
في هذه المعمعة الفكرية، تبرز أهمية النخب المثقفة كالنجوم في سماء حالكة الظلام. فهؤلاء المفكرون والأدباء والعلماء، بما يحملونه من بصيرة نافذة وحجة دامغة، هم الذين يملكون القدرة على تفكيك شبكات الأكاذيب وكشف زيف الادعاءات.
إنهم يحملون مشاعل العقل والمنطق في وجه ظلمات الجهل والتعصب، ويقومون بدور الطبيب الماهر الذي يشخص الداء ويصف الدواء. فبالبحث العلمي الدقيق والتحليل الموضوعي العميق، يستطيعون أن يعروا مخططات الأعداء ويفضحوا نواياهم الخبيثة أمام الرأي العام.
وفي خضم هذه التحديات، شهدنا مؤخراً نموذجاً رائعاً للمسؤولية الوطنية والضمير الحي، حين قامت شخصيات وطنية غيورة برفع شكوى موثقة إلى مفوضية الانتخابات ضد مرشحتين تجرأتا على تجاوز الخطوط الحمراء وإثارة الفتن في المجتمع.
هذه الخطوة الجريئة تُظهر أن الشعب العراقي الأصيل لا يزال يحتفظ بحراس أوفياء للقيم والمبادئ، رجالاً لا يساومون على ثوابتهم ولا يقبلون المساس بمقدساتهم. لقد أثبتوا بالأدلة الدامغة تورط هاتين المرشحتين في التحريض ضد أسس المجتمع العراقي وقيمه الأصيلة.
ولكن في المقابل، نجد في مشهدنا المعاصر طائفة من الهمج الرعاع الذين ينعقون مع كل ناعق، ويرقصون على أنغام كل مزمار. هؤلاء الذين باعوا ضمائرهم بثمن بخس، والذين اتخذوا من التطبيل للباطل حرفة، والذين يسبحون في بحار الجهل ويظنون أنهم يغوصون في أعماق المعرفة.
إنهم كالببغاوات التي تردد ما تسمع دون وعي أو فهم، يتلقفون الشائعات كما يتلقف الجائع فتات الخبز، ويبثونها في المجتمع كالسموم الزعاف. هؤلاء الذين فقدوا البوصلة الأخلاقية، وتاهوا في متاهات الضلال، وأصبحوا أدوات طيعة في أيدي أعداء الأمة.
إنهم يمثلون الوجه الآخر للعملة، الوجه المشوه الذي يحاول أن يطمس ملامح الوجه الأصيل. لكن التاريخ علمنا أن الزبد يذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
وفي معمعة هذا الصراع الحضاري، نتمسك بمبدأ أصيل من مبادئ الحكمة: "ما لا يُدرك كله لا يُترك جله". فحتى لو لم نستطع القضاء على كل مظاهر التضليل والتشويه، فإن واجبنا وتكليفنا الشرعي يحتم علينا أن نقاوم ونصارع ونقف صامدين في وجه كل محاولة للنيل من هويتنا وقيمنا.
إن المعركة الفكرية لا تحتمل الحياد أو الصمت، فالساكت عن الحق شيطان أخرس، والمتفرج على انتهاك الحرمات شريك في الجريمة. لذلك وجب على كل فرد واع في مجتمعنا أن يحمل راية الدفاع عن الحق والفضيلة.
إن المرحلة التي نمر بها تستدعي تضافر جهود جميع القوى الحية في المجتمع، من النخب المثقفة ، من رجال الدين إلى المفكرين والأدباء، من أجل بناء جبهة متماسكة في وجه عواصف التضليل والتشويه.
فالعراق الذي أنجب الحضارات وربى العلماء والحكماء، والذي كان منارة للعلم والمعرفة عبر التاريخ، لن يسمح لقوى الظلام أن تطفئ شعلة الحق التي تتوهج في قلوب أبنائه الأوفياء.
إنها معركة وجود، معركة هوية، معركة حضارة، والنصر فيها لن يكون إلا لمن تسلح بالعلم والإيمان والإرادة الصلبة التي لا تنكسر أمام العواصف مهما اشتدت وتلاطمت.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN