حسن الهاشمي
قلّما تجد انسانا يحوّل بوصلة الالتزام الوظيفي الى الالتزام الإنساني، قد يكون الالتزام الإنساني مقوما وحافظا ومرشدا وهاديا لركائز الالتزام الوظيفي، ولولاه لأضحت الوظيفة جامدة روتينية لا رونق فيها ولا حياة، انما الحياة بالمواقف وليست بالالتزام المجرد وان كان مطلوبا في الحالات الطبيعية، هكذا كان المنتسب في قسم الآليات السيد "مرتضى عزيز بحر عبد علي" وأثناء عودته مع وفد العتبة العباسية المقدسة من محافظة ميسان، إذ شاهد السائق في ساعات الفجر الأولى طفلا تائها في منطقة صحراوية، فبادر إلى إيقاف المركبة وأخذ الطفل، ثم تحمّل عناء الطريق للبحث عن ذويه في تلك المنطقة النائية التي تفتقر لوسائل الاتصال ومقوّمات البحث، وبعد جهد استمر لساعات تم العثور على عائلة الطفل التي أفادت بأن طفلها مفقود منذ أكثر من (7) ساعات، وبدورها فان العائلة عبّرت عن فرحتها البالغة بعد استلامه سالما غانما مظفرا، ولولا هذا المسعى من المنتسب الغيور ربما كانت حياة ذلك الطفل معرضة للخطر والهلاك في تلك الصحراء المقفرة.
انّ ما قام به المنتسب يعكس الأخلاق العالية والشعور الكبير بالمسؤولية الذي يتحلّى به معظم منتسبي العتبة العباسية المقدسة، وانّ هذا الموقف الإنساني يعكس التربية الأصيلة للسائق، مما حدى تكريمه من قبل ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة سماحة العلّامة السيد أحمد الصافي، تقديرا لموقفه الإنساني المتمثّل بإنقاذ طفل تائه في منطقة صحراوية بمحافظة ميسان وإعادته إلى ذويه، جاء التكريم أثناء استقبال سماحته للمنتسب بحضور رئيس قسم الآليات المهندس علاء عمار الجبوري يوم الأحد، 30 نوفمبر 2025 م. وأشاد سماحته بهذا الموقف الإنساني قائلًا: "إنّ هذا الفعل قد أدخل السرور على أهل الطفل المفقود، وهو عمل موفّق يُشكر عليه، ويستحق التقدير والثناء". وهكذا فان العتبة المقدسة تولي أهمية قصوى في إبراز هذه المواقف وتشجيع باقي المنتسبين على الاقتداء بها؛ لما تحمله من قيم نبيلة ورسائل إنسانية سامية.
هذه المواقف لم تأت اعتباطا وانما هي مبثوثة في قيمنا الدينية الخالدة وما فيها من أصالة في التعامل الإنساني والترابط الاجتماعي بما ينسجم مع الأخوة الإسلامية الصادقة، وأثرها في ترسيخ قيم الألفة والمودة بين أبناء المجتمع الإنساني، نجد تلك المواقف في قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة: 32. وعَنْ حُمْرَانَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (ومن أحياها) قَالَ: (نَجَّاهَا مِنْ غَرَقٍ أَوْ حَرَقٍ أَوْ سَبُعٍ أَوْ عَدُوٍّ - ثُمَّ سَكَتَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ - تَأْوِيلُهَا الْأَعْظَمُ: دَعَاهَا فَاسْتَجَابَتْ لَهُ) تفسير العيّاشي 1:84/312. يعضده في ذلك رواية أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، قَالَ: (سَأَلْتُهُ وَمَنْ أَحْيٰاهٰا فَكَأَنَّمٰا أَحْيَا النّٰاسَ جَمِيعاً، قَالَ: مَنِ اسْتَخْرَجَهَا مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ) تفسير العيّاشي 1:88/313.
يؤكد المفسرون ان من أنقذ نفسا بشرية من الهلاك ظلما أو موتا محققا، سواء بالقتل أو الظلم أو الإهمال، فكأنه أحيا البشرية كلها، واحياؤها يشمل إنقاذها من القتل، أو هدايتها من الضلال، أو إعانتها في الشدة ـ كما هو شاهدنا في هذا المقال ـ أي أن الإحياء ليس فقط جسديا، بل قد يكون روحيا وفكريا ومعنويا، وثمة ترابط وثيق بين الإحياء الجسدي والإحياء المعنوي، وهو بمثابة القبس والنور اللائح للتائه في نهاية النفق المظلم للحياة، فينجو بجسده وينجي غيره ولكن بدوافع دينية معنوية بحتة.
ودلالة الآية تشير الى تعظيم حرمة النفس البشرية، والتشجيع على الرحمة، والإصلاح، وإنقاذ المظلومين، وان إنقاذ شخص واحد في ميزان الله تعالى يعادل أجرا عظيما كإحياء الناس جميعا، ومن كان هكذا ديدنه في التعامل الإنساني وهكذا سجاياه فانه يكرر هذا الاحياء مرات ومرات من دون كلل أو ملل، لأنه يعتبر ذلك من صميم عمله الديني والأخلاقي، وان عمله الوظيفي يبقى دائما وابدا في أطر وحدود القيم والأخلاق، والتي لولاها لأضحت الحياة جامدة ولا جماد الأخشاب المسنّدة.
ولا تزال القيم الخالدة متألقة تألق الحياة المفعمة بالسبل الهادفة والراقية والموصلة الى مرفأ النجاة، وبين دهاليزها نجد تطبيقات الإحياء كثيرة ومتعددة كإنقاذ مريض أو فك أسير أو إطعام جائع أو ردّ مظلوم أو إرشاد ضال، كلها مصاديق لـ"أحيَاها" في الآية الكريمة، فالدين يحفّز على صناعة الحياة، لا فقط حفظها، والدين يحفّز على عمل الخير والبر والإحسان، فإن تلك المصاديق إضافة لما تضخ البشرية معاني الإصلاح الذاتي، فان فيها من الخير الواصب والنفع العظيم في تلك الدار التي جعلها الله تعالى للذين لا يريدون في الأرض علوا ولا فسادا.







وائل الوائلي
منذ 49 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN