في أصل المجد العراق ومصر وأمومة الحضارة
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
5/8/2025
حين يُقال إن مصر هي "أم الدنيا"، يتردّد هذا اللقب في الوجدان العربي وكأنه حقيقة أبدية لا تقبل المراجعة، وكأن صفحات التاريخ قد أغلقت على هذه المقولة دون أن تترك مجالًا للسؤال أو إعادة النظر.
غير أنّ الألقاب، مهما شاع ترديدها على الألسن وتغلغلت في الذاكرة الشعبية، لا يمكن أن تُسلَّم بها على أنها مسلّمات تاريخية دون أن تُعرَض على ميزان البحث العلمي والتحليل الحضاري العميق. فالدنيا لم تُولد من رحم واحد، ولم ينفرد مكان دون غيره باحتضان البدايات الأولى للإنسانية. بل إنّ الشرق القديم كان مسرحًا لولادات متزامنة ومتداخلة، شهدت مخاضات فكرية وتنظيمية أرست أسس الإنسان والدولة والمعرفة. وفي قلب هذه المخاضات الكبرى، كان العراق يقف شامخًا، سابقًا غيره في الزمان، متفرّدًا في الجوهر، غزير التأثير، حتى غدا الأصل الذي منه انبثقت شرارات الحضارة التي ستنتشر لاحقًا في أرجاء المعمورة .
العراق، أرض الرافدين، لم يكن مجرّد ساحة لأحداث متفرقة في التاريخ، بل كان المسرح الذي انطلقت منه أولى خطوات البشرية نحو المدنية بمعناها الحقيقي. فهنا، بين نهري دجلة والفرات، تفتّقت شرارة الابتكار الإنساني الأولى، لتتحول الحياة من الفوضى والبدائية إلى التنظيم والنهضة. وتشير دراسات معهد الدراسات الشرقية بجامعة شيكاغو (Oriental Institute University of Chicago) إلى أن سومر، في جنوب العراق، لم تشهد فقط تشكّل أولى المستوطنات الزراعية، بل احتضنت ميلاد أولى المدن المنظمة في التاريخ مثل أور وأوروك، حيث ظهر التخطيط العمراني المبكر، والأسواق، والمراكز الدينية والإدارية التي عكست بداية الوعي الجماعي بمفهوم الدولة والمجتمع المنظم .
ولم يتوقف الإسهام السومري عند حدود العمران، بل جاءت الثورة الأهم مع ابتكار الكتابة المسمارية حوالي 3200 ق.م، وهو حدث فارق في مسار الإنسانية جمعاء، إذ نقل الإنسان من عصر المشافهة والذاكرة المحدودة إلى عصر التدوين والتوثيق وحفظ المعرفة عبر الأجيال. ويصف المؤرخون هذا الابتكار بأنه "القفزة الكبرى" التي سمحت بنشوء القوانين، وتطوير الحسابات، وتوسيع شبكة التجارة، وخلق سجلات اقتصادية وإدارية حافظت على استمرارية الحضارات .
أما نظام الري، كما تشير أبحاث عالمة الآثار مارغريت روثن، فقد كان أول تجربة مركزية متكاملة لتنظيم المياه، حيث أُنشئت القنوات والسدود والخزانات بهدف السيطرة على فيضان النهرين وتوزيع المياه بعدالة وكفاءة، مما أرسى أساس الزراعة المستدامة، ومهّد لنمو التجمعات السكانية الضخمة التي تحوّلت إلى مدن نابضة بالحياة والنشاط الفكري والاقتصادي. وهكذا، لم يكن العراق مجرد أرض تُروى بالتاريخ، بل كان هو الذي خطّ أول أسطر هذا التاريخ بحروف الطين والنار والماء .
لم تقتصر إنجازات العراق القديم على الزراعة والكتابة فحسب، بل امتدت لتشمل ابتكارات أساسية شكّلت ملامح الحياة الإنسانية المنظمة لآلاف السنين التالية. ففي أرض سومر وأكد وبابل، ظهرت أولى محاولات الإنسان لتطويع الطبيعة لصالحه، ليس فقط بهدف البقاء، بل بغية بناء مجتمع يسوده النظام والقوانين. ومن أعظم هذه الإنجازات اختراع العجلة، الذي عدّه الباحثون ثورة تقنية لا تقل شأنًا عن الكتابة نفسها، إذ فتح الباب أمام تطور وسائل النقل، وتوسيع حركة التجارة، وتيسير عمليات الزراعة والبناء، مما جعل المدن السومرية مراكز ديناميكية للتبادل والابتكار .
أما في مجال القانون، فقد كانت شريعة حمورابي (17921750 ق.م) علامة فارقة في التاريخ الإنساني، حيث وضع هذا الملك البابلي أول منظومة قوانين مكتوبة تهدف إلى تحقيق العدالة وتنظيم العلاقات بين الأفراد والدولة. ويصف المؤرخ هنري فرانكفورت هذه الشريعة بأنها "الأساس الأول لفكرة الدولة القانونية في العالم"، لأنها نقلت مفهوم الحكم من سلطة فردية مطلقة إلى سلطة تستند إلى نصوص واضحة ملزمة، مما مهّد الطريق أمام مفهوم المواطنة وحقوق الإنسان في الحضارات اللاحقة .
وفي الوقت ذاته، كان العراقيون الأوائل يبتكرون نظامًا علميًا لتقسيم الزمن، عرف بالنظام الستيني، الذي قسّم الساعة إلى 60 دقيقة والدقيقة إلى 60 ثانية، وهو النظام الذي لا يزال معتمدًا عالميًا حتى اليوم. هذا الإنجاز يعكس عقلية دقيقة ومنهجية، تسعى لفهم الكون وترتيب إيقاع الحياة وفق مقاييس ثابتة. ويذكر الباحث صموئيل نوح كريمر في كتابه الشهير "التاريخ يبدأ في سومر" أن السومريين لم يكتفوا بتطوير العلوم العملية، بل أسسوا أولى المدارس النظامية، حيث كان الأطفال يتلقون التعليم وفق مناهج مدروسة تشمل الكتابة، والحساب، والقراءة، وإدارة الشؤون العامة، ما يجعل العراق القديم المهد الأول لفكرة التعليم المؤسسي الذي يقوم عليه بناء المجتمعات الحديثة اليوم .
هكذا، كان العراق في طليعة الأمم التي وضعت اللبنات الأولى لفهم الحياة وتنظيمها، مقدّمًا للبشرية نماذج في التشريع، والإدارة، والتعليم، والعلم، جعلت من أرض الرافدين أكثر من مجرد مهد حضارة؛ بل مختبرًا أوليًا للتجربة الإنسانية الكبرى في البحث عن النظام والعدالة والمعرفة .
أما مصر، فهي الأخرى صاحبة حضارة عريقة ومكانة إنسانية لا تقل أهمية، إذ قدّمت للعالم تجربة فريدة تميزت بالاستمرارية والانضباط والعمق الرمزي الذي صاغ هوية وادي النيل لآلاف السنين. لقد أبهرت مصر القديمة الإنسانية بقدرتها على تشييد صروح معمارية خالدة مثل الأهرامات والمعابد، وبما وصلت إليه علومها في الطب والفلك والتحنيط، حتى غدت مرجعًا خالدًا في فهم العلاقة بين الإنسان والكون والآلهة .
غير أن هذه العظمة المصرية، على ما تحمله من فرادة، جاءت زمنيًا بعد عراق الرافدين الذي كان قد وضع قبلها أسس الحضارة المدونة. وتشير دراسات المعهد الألماني للآثار (German Archaeological Institute) إلى أن مصر في أطوارها المبكرة تأثرت بشكل واضح بمنجزات العراق القديمة، خصوصًا في مجالات التنظيم الزراعي، والهندسة الطينية، وبعض أساليب التدوين البدائية التي سبقت تطور الهيروغليفية بشكلها المعروف. ويعزو الباحثون هذا التأثير إلى التبادل التجاري المبكر بين وادي الرافدين ووادي النيل، وإلى البعثات الثقافية والبعلاقات المتشابكة التي نقلت الخبرات والمعارف عبر طرق القوافل والأنهار .
وإن كانت مصر قد بلغت أوجها الحضاري لاحقًا لتبهر العالم ببناياتها العظيمة ونظمها العلمية والدينية المتطورة، فإن العراق هو الذي أرسى المفهوم الجوهري للدولة المنظمة والفكر المؤسسي القائم على القانون والكتابة والإدارة المركزية. فالعراق لم يمنح الحضارات اللاحقة، ومنها المصرية، أدوات العيش والاستقرار فحسب، بل زوّدها بالأساس الفكري الذي مكّنها من بناء إمبراطورياتها اللاحقة. وبذلك، يمكن القول إن نهر النيل حمل الحضارة المصرية على ضفافه، لكن نهري دجلة والفرات هما من مهّدا الطريق للبشرية لتعرف فكرة الدولة ذات السيادة والنظام، وهي الفكرة التي انتقلت بطرق مباشرة وغير مباشرة إلى مصر وغيرها من الحضارات .
ومن الجدير بالملاحظة أنّ مصر، رغم عظمتها الحضارية ورسوخها التاريخي، مرّت عبر مراحل طويلة خضعت فيها لهيمنة قوى خارجية، بدءًا من الفتح العربي وما تلاه من تبعيتها للخلافة الأموية والعباسية، مرورًا بالحكم المملوكي ثم العثماني لقرون متعاقبة. وقد أثّر هذا الامتداد الزمني من السيطرة الخارجية في بنية الدولة المصرية، إذ جعلها في معظم تاريخها الوسيط تابعةً لإرادة مراكز قرار بعيدة عنها، رغم احتفاظها بهويتها وثقافتها المحلية القوية .
أما العراق، فلم يعرف في أي فترة تاريخية أن يكون تابعًا لمصر إداريًا أو سياسيًا أو ثقافيًا؛ بل على العكس، كان هو المركز الذي تُشدّ إليه الرحال، ويصدر عنه الفكر والمعرفة والقرار الحضاري. وفي العصر العباسي على وجه الخصوص، تحوّلت بغداد إلى ما يشبه "عاصمة العالم" في القرن التاسع الميلادي، حيث اجتمع فيها العلماء والمفكرون من أقطار الأرض، وأسّسوا بيت الحكمة الذي وصفه المستشرق الفرنسي جاك بيرك بأنه "أعظم صرح علمي وفكري عرفته البشرية قبل النهضة الأوروبية". وقد احتوت مكتبة بيت الحكمة على مئات الآلاف من المخطوطات الأصلية والترجمات الكبرى عن اليونانية والفارسية والهندية، فضلاً عن إنتاج العلماء المسلمين أنفسهم في مجالات الطب والفلك والرياضيات والفلسفة والمنطق .
وفي الوقت الذي كانت فيه معظم مدن العالم غارقة في ظلمات الجهل أو تعيش تبعية حضارية لغيرها، كانت بغداد تُنظّم المناظرات العقلية، وتبتكر مفاهيم البحث العلمي المنهجي، وتضع القواعد الأولى لما يُعرف اليوم بالعلوم الطبيعية والإنسانية. وهو إرث حضاري لم تعرف مصر في تلك الحقبة مثيلًا له، رغم إشعاعها التاريخي القديم، ما يجعل العراق في مواضع عدّة ليس فقط مهدًا للحضارة الأولى، بل مرجعًا مركزيًا في ولادة الفكر الإنساني المتقدم .
والمثير أنّ الأبحاث العلمية الحديثة بدأت تُعيد قراءة العلاقة بين وادي النيل ووادي الرافدين على نحو أعمق مما تصوّره الدراسات التقليدية، إذ لم يعد الحديث مقتصرًا على التأثيرات الثقافية أو التجارية بين الحضارتين، بل امتد إلى الجذور الإنسانية نفسها. فقد كشفت تحاليل الحمض النووي (DNA) التي أُجريت مؤخرًا على مومياوات فرعونية تعود إلى الأسرات الأولى في مصر القديمة، عن تشابهات جينية لافتة مع الجماعات السكانية في مناطق شمال العراق القديم، ولا سيما في الهلال الخصيب الذي كان مهد الزراعة والاستقرار البشري المبكر. وتشير هذه الدراسات، المنشورة في مجلات علمية مرموقة خلال العقد الأخير، إلى أن موجات الهجرة والاستيطان القادمة من بلاد الرافدين لعبت دورًا أساسيًا في تشكيل البنية السكانية الأولى لوادي النيل، وأسست لروابط بيولوجية وثقافية سابقة حتى لولادة الحضارة الفرعونية نفسها .
إن هذه المعطيات العلمية الحديثة تُعيد النظر في السردية الكلاسيكية عن "تفرد" الحضارات الكبرى، لتكشف أن العراق لم يكن فقط مهد الكتابة والقانون والزراعة والدولة المؤسسية، بل كان أيضًا مهدًا للإنسان الذي حمل بذور الحضارة إلى غيره من الأقاليم. وبذلك تصبح العلاقة بين العراق ومصر علاقة أصل وجذر، ومصدر ومنبع، قبل أن تكون علاقة تبادل حضاري أو تأثير متبادل. وهذا ما يعزز الأطروحة التي ترى في العراق، بحق، أول أرض وُلدت فيها "الدنيا" الإنسانية بكل معانيها، قبل أن تتفرع عنها حضارات لاحقة عظيمة، منها الحضارة المصرية .
اللقب إذن، حين يُمنح، لا بد أن يُقاس بمعايير دقيقة وموضوعية، لا بما اشتهر على الألسن أو ما كرّسته وسائل الإعلام الحديثة. فأن يُقال إن مصر هي "أم الدنيا" لمجرد أن إعلامها في القرن العشرين كان الأكثر حضورًا، أو لأن لهجتها أصبحت مألوفة في السينما والإذاعة العربية، فهذا في حقيقته امتياز معاصر، لا يمكن أن يُسقط على آلاف السنين من التاريخ الإنساني. فانتشار الفن أو اللغة في زمن حديث ليس سببًا كافيًا لمنح السيادة الحضارية أو تفويض لقب يتصل بجذور نشأة الدنيا. المقياس الحقيقي يجب أن يستند إلى أسس علمية ومعايير واضحة: أسبقية الابتكار، سعة التأثير، وعمق الجذور في التاريخ الإنساني. وعند الاحتكام إلى الوثائق والنقوش والدراسات الأثرية، يتصدر العراق القائمة بما قدّمه من شواهد لا جدال فيها: من الألواح السومرية التي دشّنت عصر الكتابة، إلى معابد بابل التي جسّدت أولى العمارة الرمزية للدولة، وصولاً إلى مكتبات نينوى التي ضمّت أول أرشيف معرفي مكتوب، سابقًا بذلك كل محاولات التدوين في الحضارات الأخرى .
والحق أن شرف لقب "أم الدنيا" لا ينبغي أن يُمنح بالتداول الشعبي أو بما رسخته العادات الكلامية، بل بالاحتكام إلى شواهد التاريخ الصلبة: الوثائق، النقوش، والتراكم المعرفي الذي راكمته الأمم عبر آلاف السنين. وإذا كان هذا هو المعيار، فإن العراق يملك من الدلائل ما يضعه في صدارة الأمم المؤسسة للحضارة الإنسانية. فهو لم يكتفِ بإنتاج المعرفة، بل كان مركزًا لنشرها وتصديرها إلى أصقاع شتى، ولم يكن في أي مرحلة تابعًا أو ظلاً لغيره، بل كان مرجعًا للفكر والإبداع الإنساني، وصوته هو الأصل الذي استقى منه الآخرون. كل حجر في أور يروي قصة البدايات الأولى للمدينة، وكل لوح طيني في بابل يسرد ميلاد القانون والعلم، وكل معبد في نينوى يشهد أن هذه الأرض لم تكن مجرد موطن لحضارة، بل كانت عقل العالم ومختبر الإنسانية الأول، قبل أن توجد ألسنة تُردد الألقاب أو تُصنّع أمجادًا عبر التقاليد الشفوية .
لكنّ الرشد الثقافي يفرض علينا، مهما عظمت الأمجاد وتشابكت السرديات، أن نتجنّب فخّ المفاضلة المتعصّبة. فمصر والعراق لم يكونا خصمين في سباقٍ نحو الحضارة، بل جناحين متقابلين لطائر الإنسانية، يحمل كلٌّ منهما الآخر ليحلقا معًا في فضاء المجد. العراق هو اليد التي كتبت أول الحروف، ومهّدت بفكرها للعقل أن يستفيق؛ ومصر هي العين التي أبصرت الرموز، وحوّلت المعاني إلى وجدان خالد يتردّد صداه عبر القرون.
العراق هو السؤال الأول الذي طرحته البشرية، ومصر هي الإجابة التي سطّرت الخلود على جدران الأهرام. وإن كان العراق "أب الدنيا" بالعقل والبدايات، فإن مصر هي "أمها" بالرمز والاستمرار. وبين الأبوة والأمومة تولد الحضارة الإنسانية في أبهى صورها، متجذّرة في الشرق، ممتدة جذورها في كل أرض أضاءت للعالم سبيله. بهذا التوازن، نقرأ تاريخنا بإنصاف، نمنح كل أرض حقها، ولا نحجب الضوء عن أول من أنار الطريق، حتى لا يضيع أصل المجد في زحمة الألقاب وصخب الشعارات .
فالألقاب التي تصنعها السياسة، مهما زُيّنت بالشعارات، لا تصمد أمام امتحان الزمن؛ فهي أصداء عابرة تتلاشى عند أول منعطف للتاريخ. وحده اللقب الذي تمنحه الحضارة، وتخطّه الأفعال في ذاكرة الإنسانية، يبقى شاهدًا خالدًا، لا تحجبه ضوضاء السلطة ولا تمحوه نزوات القوة.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN