أنماط في اتخاذ القدوة بين التبعية الواعية والذوبان المرضي
الأستاذ الدكتورنوري حسين نور الهاشمي
2/8/2025
في المجتمعات التي ما زالت تعيد إنتاج رموزها دون تمحيص، وتمنح الولاء قبل السؤال، يبرز موضوع "القدوة" بوصفه مفتاحًا أساسيًا لفهم البنية الثقافية والنفسية للفرد والجماعة. فليس اتخاذ القدوة أمرًا عابرًا، بل هو انعكاس عميق لنمط التفكير، ومؤشر حاسم على مستوى نضج الوعي الجمعي. وإذا ما أردنا تصنيف الناس من هذه الزاوية، وجدنا خمسة أنماط رئيسة:
القدوة القسرية: الخضوع اتقاءً لا اقتداءً
هو النمط الذي يُظهر صاحبه الولاء لشخص ما، لا لأنه يراه جديرًا بالاتباع، بل لأنه يخشى سلطته وسطوته. إنه ولاءٌ قسري، قناعٌ يرتديه المرء اتقاءً للشر أو طلبًا للسلامة. ويكثر هذا النمط في البيئات التي تُكمَّم فيها الأفواه وتُصادر الحريات، حيث يتحول الولاء إلى "واجب وظيفي" لا خيارًا أخلاقيًا.
القدوة النفعية: المصلحة تغيّر الوجوه
في هذا النمط، لا يكون الولاء للشخص أو للقيم التي يحملها، بل لما يقدمه من منفعة. إنه اتباع مشروط، يزدهر بالمديح حين تتدفق الفوائد، ويذبل إذا جفّت منابعها. يتصنع صاحبه الحماسة والتبجيل، لكنه سريع الانقلاب متى تبدلت المصلحة.
الذوبان في القدوة: ضياع الذات واضطراب الهوية
وهو النمط الأخطر ثقافيًا ونفسيًا، إذ يفقد فيه المرء استقلالية رأيه وشعوره، فيذوب تمامًا في شخصية "القدوة"، فيرفعها إلى مرتبة التقديس. كل ما يصدر عنها حق مطلق، وكل نقد موجه إليها باطل، ولو كان مبنيًا على الدليل والبرهان.
يصف علم النفس الثقافي هذا النمط بـ"التبعية التقديسية"، أو ما يقارب "الانصهار النفسي"، حيث يتحول الفرد إلى مرآة صامتة تعكس ما يصدر عن القدوة دون مراجعة أو تفكير. ويترتب على ذلك تعطيل الحس النقدي، وتبرير الانحرافات، ورفض كل صوت مخالف.
ولا تتوقف خطورة هذا النمط عند الفرد، بل تصنع بيئة ثقافية خانقة تقمع التنوع وتسكت العقل وتشيع ثقافة التبعية العمياء، فتنتج طغاةً وأوثانًا بشرية ترفض النقد والمراجعة. وكثيرًا ما يكون أتباع هذا النمط أسرى لثقافة مقيدة، حبيسة في مديح قدوتهم، يتألمون لأي إشارة نقدية تمسها، فيهاجمون المتحاورين ويتهمونهم بالجهل أو سوء النية، ويفرضون على النقاشات أن تدور بعيدًا عن رموزهم، وإلا انسحبوا أو أسكتوا الآخرين.
القدوة الرمزية: البحث عن بطل يكمل النقص الداخلي
هنا لا يُتخذ القدوة لذاته، بل بوصفه رمزًا نفسيًا يعوّض شعورًا بالفراغ أو الحاجة إلى الأمان والانتماء والقوة. يحمّل الأتباع قدوتهم صورة مثالية رسموها في خيالهم، غير أن هذا النمط هش وسريع الانهيار متى ظهرت صورة مناقضة لتوقعاتهم.
القدوة الواعية: اتباع بالعقل لا بالانفعال
وهذا هو النمط المنشود في المجتمعات الحية، إذ يتخذ الفرد قدوة يقتدي بها، دون أن يلغي عقله أو يقدّس صاحبها. إنه تقدير عقلاني، يضع حدودًا للبشرية، ويفرق بين الفكرة وصاحبها، ويمنح المرء شجاعة المخالفة حين تستدعي المواقف ذلك.
في ظل هذا النمط تزدهر ثقافة الحوار، ويتعزز النقد البنّاء، وتتحصن المجتمعات ضدّ عبادة الأشخاص والاستبداد الفكري.
تبقى طريقة اتخاذ القدوة معيارًا خفيًا لكنه بالغ الأهمية لقياس مدى تحرر المجتمع من رواسب الاستبداد الفكري والعاطفي. والثقافة الرشيدة لا تُبنى إلا حين يُسمح للناس بأن يحبوا دون أن يقدّسوا، وأن يتبعوا دون أن يذيبوا ذواتهم، وأن ينتقدوا دون أن يُخوَّنوا.
وإذا نظرنا إلى الواقع العربي، وجدنا حضورًا طاغيًا للأنماط الثلاثة الأولى؛ حيث الولاء القسري والنفعي وذوبان الذات في شخصية الزعيم أو الرمز، خاصة في الأنظمة السلطوية التي تكافئ الولاء المطلق وتقصي الأصوات الحرة. فالنظام المغلق لا يُنتج مواطنًا حرًا، بل يعيد إنتاج التبعية المبرمجة، يستبدل العقل بالمصلحة، والنقد بالتمجيد، والحرية بالخوف.
أما أولئك الذين يفقدون ذواتهم في شخصية "القدوة"، فإنهم يعرضون عقولهم وسلوكهم وعلاقاتهم لخطر الانزلاق في مسارات مدمرة. واللجوء إلى أهل الاختصاص النفسي حينها ليس ضعفًا، بل شجاعة داخلية وخطوة لاستعادة التوازن واستقلالية الرأي والقرار.
إن المجتمعات الحرة تبدأ بأفراد أحرار، لا يعبدون رموزهم، ولا يقدّمون الولاء على الوعي، ولا يسلمون عقولهم للآخرين تحت شعار المحبة أو الطاعة.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN