في زمانٍ غلب عليه الانحراف عن آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتسلط فيه الطغاة الأمويون على مقاليد الدين والسياسة، انبرى الشاعر الكميت بن زيد الأسدي ليكون لسان الحق في وجه الباطل، ولسان الولاية في وجه النفاق، فكانت قصائده وثائق أدبية ومواقف عقائدية تسكن في ضمير الأمة وتنبض بحب محمد وآل محمد. ومن أعظم ما قاله قصيدته التي مطلعها:
طرقتُك صبحًا أو هجوعًا فما النوى
بصاحٍ، ولا الأجفانُ فيك رقودُ
قصيدة تكاد تنزف وجداً، وتلهب القلب توقًا، وتجمع بين جمال البلاغة وصدق الموقف.
نص القصيدة (مقتطفات منتقاة):
طرقتُك صبحًا أو هجوعًا فما النوى
بصاحٍ، ولا الأجفانُ فيك رقودُ
ولا القلبُ عن ذكراكِ، يا آل أحمدٍ
يَلينُ، ولا الأحشاءُ فيك جمودُ
لئن ذرفت عيني دما فيكمُ، فما
دَمايَ، ولا دمعي عليكِ بليدُ
أحبُّ بني فاطمةَ وأعاديَ من
عَداهم، ولو كانوا همُ الجدودُ
ولم أرَ في الإسلام مثل محمدٍ
ولا مثل أهل البيتِ حين يُعودُ
التحليل الأدبي والبلاغي:
1. في العنوان والمطلع:
طرقتك صبحًا أو هجوعًا...
كلمة "طرقتك" توحي بالاقتحام العاطفي، فهي زيارة وجدانية لآل البيت في لحظة صفاء أو قلق، "صبحًا" أو "هجوعًا"؛ أي في كل وقتٍ وساعة. البيت يُفصح عن حال المحب الذي لا يهدأ له بال في حبهم، ولا تغفو له عين.
2. الحنين والبكاء:
لئن ذرفت عيني دما...
يشير إلى أعلى مراتب البكاء العاطفي والوجداني، إذ لم تَعُد العين تدمعُ ماءً بل دماً، مما يدل على عمق الحزن والولاء الصادق.
3. الإعلان عن الولاء والانتماء:
أحب بني فاطمة وأعادي من عداهم...
تصريح جريء بالولاء لأهل البيت، ويضرب بعرض الحائط كل الاعتبارات القبلية أو المصلحية: "ولو كانوا هم الجدود". إنها لحظة صدق شعري لا يُجامل فيها شاعرٌ قومه بل يخاصمهم في الله.
4. مدح النبي وآله بأعلى صيغ التفضيل:
ولم أرَ في الإسلام مثل محمدٍ...
هذا بيت فني وعقائدي؛ يربط فيه الشاعر حب آل البيت بحب النبي، ويجعلهم قرينين، لا فضل لأحد عليهم إلا جدّهم الأعظم.
الخلفية التاريخية والسياسية للقصيدة:
نظمت في العصر الأموي، زمن طغيان بني أمية، وقمعهم لشيعة أهل البيت.
الكميت عاش في الكوفة، وشهد انتكاسة التشيع بعد كربلاء.
وقف بوجه التيارات المعارضة لآل علي، وأعلن ولاءه في وجه سيوف السلطة.
البُعد العقائدي:
القصيدة ليست مجرد وجدانيات، بل هي بيان ولائي، ووثيقة شعرية شيعية، تدافع عن مظلومية أهل البيت وتدعو للثبات على حبهم مهما كانت التضحيات.
الخصائص الأسلوبية للقصيدة:
1. الصدق العاطفي: لا تكلف في العبارات، بل صدق ينبع من قلب محب مفجوع.
2. البلاغة العالية: الصور الشعرية قوية وعميقة.
3. الجرأة الفكرية: صرّح بما لم يجرؤ على قوله كثير من شعراء عصره.
4. النسق الإيقاعي: جاءت القصيدة على بحر الكامل، الذي يناسب النَفَس الطويل والوجدان المتدفق.
الخاتمة:
لقد سطّر الكميت بن زيد الأسدي بمداده دمًا، وكتب بمشاعره موقفًا، وحفر في ذاكرة التشيع قصيدة لا تموت. وإن كان الزمن قد نسيها، فإن القلوب المؤمنة بحب آل محمد لا تنسى هذه الأصوات التي نطقت في زمن السكوت.
إن قصيدة "طرقتك صبحًا أو هجوعًا" ليست مجرد شعر، بل هي صرخة في وجه الظلم، وعهد بالولاء لا يُنسى.







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN