بحسب المشهور في عموم المعرفة الفقهية على المستوى الاسلامي, فإن الأحكام الشرعية ثابتة لا تتغير, ويعد افتراض تبدلها أو تغييرها مجانب للثابت الديني بعد التسليم بأن الشريعة الإسلامية خاتمة الشرائع, وأنها مطلقة لكل زمان ومكان.
من جهة أخرى فإن إشكالية تناهي النصوص ولا تناهي الوقائع -التي تتجلى في كون النص محدود من حيث الكم, ووقائع الحياة تتزايد مع مرور الزمن- قد فتحت باب البحث من جديد حول إمكانية تغير الأحكام بسبب أثر الزمان والمكان, من منطلق كون وقائع الحياة (موضوعات الأحكام) تتغير, مما تستدعي حكما شرعيا مغايرا للحكم الشرعي السابق, بمعنى أن التغيير يمكن تصوره من ناحية موضوع الحكم, الذي يتمثل غالبا في الواقعة التي تستدعي حكما, لتتم إتاحة الخوض في تفصيلات هذه الفرضية التي تختزل فكرة الزمني أو النسبي, لذا فقد تناول الكثير من العلماء والكتاب هذه المسألة على صعيد البحث والتحقيق, وحاولوا أن يقننوا تلك التصورات ببعض الضوابط والأصول التي من شأنها أن تجنب الاستنباط الفقهي اي اعتباط في افتراض تغيير الأحكام الشرعية, فيقول السبحاني: (ثمّ إنّه يجب أن تفسر مدخلية الزمان و المكان بالمعنى المذكور في الاجتهاد، على وجه لا تعارض الأصول المسلّمة في التشريع الإسلامي، و نشير إلى أصلين منها:
الأوّل: انّ من مراتب التوحيد هو التوحيد في التقنين و التشريع، فلا مشرّع و لا مقنّن سواه، قال تعالى: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)) و المراد من الحكم هو الحكم التشريعي بقرينة قوله: (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).
و قال سبحانه: ((قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) .
الثاني: انّ الرسول خاتم الأنبياء، و كتابه خاتم الكتب، و شريعته خاتمة الشرائع، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة, فقد روى زرارة، قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الحلال و الحرام، قال: (حلال محمد حلال أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجيء غيره، و حرامه حرام أبدا إلى يوم القيامة لا يكون غيره و لا يجيء غيره) .
على أن ذلك لا يعني النفي التام للفكرة, بل هي تصور عام حاضر لدى الكثير من العلماء, فيذكر المحقق الأردبيلي: (ولا يمكن القول بكلية شيء بل تختلف الأحكام باعتبار الخصوصيات و الأحوال و الأزمان و الأمكنة و الأشخاص و هو ظاهر، و باستخراج هذه الاختلافات و الانطباق على الجزئيات المأخوذة من الشرع الشريف امتياز أهل العلم و الفقهاء، شكر اللّه سعيهم و رفع درجاتهم) , والملاحظ أن تعبيره عام مجمل, قد يشعر بإطلاق الفرضية مالم يتم توخي الدقة والتفصيل في مراده, وممن ذكر الفكرة من فقهاء المذاهب الأخرى : (و قد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أنّ الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان و أخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية و مصلحية، أي التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، و هي المقصودة من القاعدة المقررة «تغيير الأحكام بتغيّر الزمان», أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها و توطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة، الناهية كحرمة المحرمات المطلقة و كوجوب التراضي في العقود، و التزام الإنسان بعقده، و ضمان الضرر الذي يلحقه بغيره، و سريان إقراره على نفسه دون غيره، و وجوب منع الأذى و قمع الأجرام، و سد الذرائع إلى الفساد و حماية الحقوق المكتسبة، و مسئولية كل مكلّف عن عمله و تقصيره، و عدم مؤاخذة بريء بذنب غيره، إلى غير ذلك من الأحكام و المبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها و مقاومة خلافها، فهذه لا تتبدّل بتبدّل الأزمان، بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان و الأجيال، و لكن و سائل تحقيقها و أساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة) , والملاحظ أن المذاهب الإسلامية على اختلاف مسالكها فإنها تتوخى الدقة والحذر في التعاطي مع هذه الفرضية.
كذلك يقرر العلاّمة الحلّي: «الأحكام منوطةٌ بالمصالح والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الأوقات، وتختلف باختلاف المكلفين. فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان، فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر، فينهى عنه» , وربما لا يتم هذا المضمون مع موقف الاتجاه الامامي من الاجتهاد بالمصلحة, إلا في خصوص الاحكام الولائية التدبيرية التي تكون تحت سلطة الحاكم الفقيه, ويذكر الشهيد الأول: «يجوز تغيير الأحكام بتغير العادات، كما في النقود المتعاورة، والأوزان المتداولة، ونفقات الزوجان والأقارب؛ فإنها تتبع عادة ذلك الزمان الذي وقعت فيه. وكذا تقدير العواري بالعوائد» , وهنا إشارة إلى تغير موضوع الحكم لا الحكم, بمعنى أن الموضوع يستدعي حكما جديدا فيوحي بحسب الظاهر أن الحكم تغير, لكن الواقع أن الموضوع السابق وقبل ان يتغير له حكمه, وبعد ان تغير استدعى حكما جديدا ولو عاد الى سابق عهده لعاد حكمه الأول, وهكذا يتضح أن التشريع يلاحظ ما يطرأ على موضوعات الأحكام من عوارض تؤثر في مناسبة الحكم للموضوع.
ويذكر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، في تحرير المجلّة في ذيل المادة 39: «لاينكر تغيير الأحكام بتغير الأزمان». وقد اتضح أن من أصول مذهب الإمامية عدم تغيير الأحكام إلاّ بتغيير الموضوعات؛ إما بالزمان والمكان والأشخاص… نعم يختلف الحكم في حقّ الشخص الواحد باختلاف حالاته من بلوغ ورشد وحضر وسفر وفقر وغنى وما إلى ذلك من الحالات المختلفة. وكلها ترجع إلى تغيير الموضوع، فيتغيَّر الحكم» , فتأثير الزمان والمكان في تطبيق الموضوعات على مواردها: كالاستطاعة والغنى والفقر والنفقة للزوجة فانها تتغير بتغير الحياة.
فيقرر احد الباحثين أن: (محور البحث هو أن الظروف المختلفة هي العامل الوحيد لتغيُّر الأحكام بعد التشريع الأول. وهذه هي التي تبعث على الإمعان في بقاء التشريع الأول أو زواله. وأما إذا قام الشارع بنفسه ببيان اختلاف الحُكْمَيْن في الظرفين فهو خارج عن محل البحث، وإنْ كان ربما يقرِّب فكرة التأثير، ويستأنس به المجتهد، أو كان التغيير لأجل طروء عناوين ثانوية، كالاضطرار والحرج. ثم إن الحكم المستنبط والمحكوم به حينئذٍ هو حكم واقعي، وليس ظاهرياً؛ وذلك لعدم أخذ عنوان الشكّ في موضوعه، ولا حكماً واقعياً ثانوياً) .
وعليه فإن فرضية تبدل الاحكام الشرعية لا تعني تبدل جوهر الحكم بقدر ما تقرر تغير موضوعات الاحكام, وهي فكرة لا تنافي مبدأ ثبات التشريع, وعلى وفق فرضية المطلق والزمني يمكن القول أن التشريع من الناحية الكلية مطلق, ومن ناحية الجزئيات والتطبيقات تكون أحكامه مواكبة لنسبية موضوعاتها, لذا فإن الفهم الفقهي للخطابات التشريعية محكوم بالسياق الزماني الذي يقع ضمن سنة التغير والتطور فهو نسبي من حيث كونه واقعا حياتيا, والخطاب من حيث كونه مطلقا, يستوعب ذلك التغير بشكل مرن وسيال, وذلك ما أشار إليه الامام الصادق(ع) بقوله: (إنَّما علينا أن نلقي عليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا) من أن الاصول تمثل المساحة الثابتة والمطلقة وبعدها يأتي التفريع بسياقه المرن ليحاكي نسبية الواقع, ولكن هذه الفرضية لم يتم حسمها الى حد ما, ومهمة التفريع لم يتم التنظير لها بشكل واضح, وهو ما يستدعي المزيد من البحث, وما يتعلق بموضوع البحث يمكن تقرير ان فهم الخطابات الشرعية يخضع لعامل الزمان والمكان مع إمكان ملاحظة نوع الموضوعات التي يستهدفها الخطاب التشريعي وهي في صلب مهمة الاجتهاد بحيث تتشكل رؤية مفادها أن الفقيه وهو يستنبط الحكم من النص التشريعي سيكون أمام مفترق طرق بين كون الحكم على نحو الاطلاق الزماني وكونه على نحو نسبي خاضع لظرف زماني خاص به, وتشخيص ذلك يكون للمجتهد, مما يعني أن عملية فهم الخطابات التشريعية تخضع إلى ملاحظة الثابت والمتغير, من خلال تحكيم الفهم على وفق المطلق والنسبي من الاحكام, ومن الممكن استشراف تكون ضوابط ومحددات تحسم الموقف من اطلاق أو زمنية الاحكام المستفادة من الخطابات الشرعية, وهو ما يحيل الى دراسات معمقة بهذا الشأن, من خلال عمليات استقراء دقيقة تكشف عن مجموعة من التطبيقات وكيف تكون مطلقة أو نسبية من الناحية الزمانية.







وائل الوائلي
منذ 5 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN