د. أسعد عبد الرزاق الأسدي
في ضوءالمعرفة الفقهية تختلف مفردة (الشريعة) عن مفردة الفقه, فالشريعة تتضمن دلالات متعددة: (النص التشريعي, الاحكام المنصوص عليها بنحو قطعي, الاحكام الكلية, المقاصد الكلية) في حين يتضمن الفقه دلالات أخرى: (الفهم البشري الاجتهادي, الاحكام المظنونة المعتبرة, الاحكام الجزئية), وعلى وفق هذا التصور يتشكل الفارق بين المجالين, ولا خلاف في مرجعية الشريعة للفقه, بمعنى رجوع الجزئي للكلي, وحاكمية القطع على الظن, والنص على الفهم, ومحورية المقصد عبر تجلياته المتمثلة بالملاك والمناط, الأمر الذي يفتح المجال أمام بحث القيم الانسانية في إطار دائرة الشريعة أو التشريع, عن طريق استحضار فلسفة التشريع وتوظيفها من جديد نحو الكشف المعرفي عن حضور القيم في التشريع ومن ثم تفعيل حاكميتها على الفهم / الفقه, وهو ما بات الى اليوم محل بحث ونظر, واستشراف لرؤية قد تبدو جديدة وملحة في الوقت نفسه لتدارك ما ينشأ من تداعيات إزاء التساؤلات والاشكاليات الراهنة.
يقول الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله في كتابه: ((المدخل الفقهي العام)) (154) بعد أن فرق بين الشريعة والفقه بما ملخصه: أن الشريعة هي نصوص الوحي كتاباً وسنةً، وأنها في ذلك معصومة لا تقبل التغيير ولا التبديل.
وأن الفقه هو فهم تلك النصوص والاستنباط للأحكام منها، وفقاً لأصول الشريعة وقواعدها في ذلك، وأنه بهذا عملٌ بشريٌّ قابل للمناقشةِ والتناول تخطئةً وتصويباً.
قال بعد ذلك: ((على أن هناك نقطة مهمة محل اشتباه وينبغي تجليتها والتنبيه عليها، وهي أن الفقه الإسلامي يتضمن نوعين من الأحكام مختلفين في طبيعتهما :
النوع الأول : أحكام قررتها نصوص قطعية الثبوت والدلالة تمثل إرادة الشارع الإسلامي الواضحة فيما يفرضه على المكلفين نظاماً للإسلام ملزماً لهم ، لم يُترك لتفسيرهم وفهمهم واستنتاجاتهم ، وذلك مثل أصل وجوب الصلاة والزكاة وصوم رمضان والوفاء بالعقود ، والجهاد بحسب الحاجة وقدر الطاقة ، ونحو ذلك مما جاءت به النصوص في الكتاب والسنة المتواترة .
النوع الثاني : أحكام سكت عنها الكتاب والسنة ، وتُركت للاجتهاد واستنتاج علماء الشريعة ، أو جاءت بها نصوص غير قطعية الثبوت أو الدلالة ، تحتمل اختلاف آراء العلماء في ثبوتها أو دلالتها ، وهي محل اجتهادهم في فهمها واستنتاج الأحكام منه)).
ويفهمُ من كلام الشيخ الزرقا بأن نقطة الالتقاء بين الشريعة والفقه إنما تنحصر فيما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة، بمعنى أنه لا يدخل في مسمى الشريعة المذكورِ قبلُ إلا ذلك.
لا شك أن ظهور الفقه المذهبي يمثل انعكاسا واضحا للتمايز بين الشريعة والفقه, فالشريعة هي القدر المشترك بين المذاهب, في حين ينحاز الفقه الى المذهب متأثرا بالأيديولجيا التي تتحكم في مسارات التفكير الفقهي, وكلما ابتعد الفقه عن الشريعة كلما زادت الفجوة بين الفقه والواقع, وهو ما يمثل جزءا كبيرا من إشكالية الفقه الاسلامي بنحو عام.
ان نزعات تطبيق الشريعة الاسلامية ومحاولة اعتبارها مصدرا لأحكام الدولة المدنية غالبا ما تؤدي إلى تغليب الفقه المذهبي على المضامين العامة التتي تكتنزها الشريعة, ويكاد ينعدم الفارق الجوهري بين الشريعة والفقه في التصور الاسلامي العام الذي يدعم باتجاه تطبيق الشريعة الاسلامية في الواقع السياسي, وحركات الاسلام السياسي لم تسلم من ذلك الخلط المشوه بين الشريعة والفقه, فحضور الفقه في حده الأعلى يفضي بنحو ما إلى تمييع الشريعة, حتى يصبح واقع الممارسة بين تصورين : فقه الشريعة وشريعة الفقه, على حد تعبير أحد الباحثين , فمثلا يمثل ميلاد جماعات العنف أحد عوائق النهوض، فقد ولدت من فكرة رفض التجديد الإسلامي المنضبط بأفق الشريعة كونه "تميعا وضلالا" ولأنها أيضا ظهرت في فترة اضطراب واستباحة عسكرية ودموية لمناطق المسلمين, فقه الشريعة هو تلك المساحة الثرية الواسعة التي تُفهم من دلالات النصوص وعمق مقاصدها وثروة التدوين الفقهي والنقاشات الواسعة من فروع الفقه إلى الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام إلى أحكام التعامل التي استنبطها الفقهاء للتطور الحضاري للإنسان , في حين تطغى شريعة الفقه عبر تغليب النزعة المذهبية والرؤية الضيقة للواقع الديني والاجتماعي وفق تصورات وقراءات تنتمي إلى نزعة سلفية ماضوية بامتياز.
ان الحيز الذي تتحرك في فضاءه الشريعة أوسع وأرحب من الحيز الذي يتحرك فيه العقل الفقهي, فالشريعة مزجت بين السمع والعقل والعرف والعادات والتقاليد، بطريقة معجزة لا يمكن أن نجدها إلا في كتاب الله تعالى، في حين كان الفقه دائمًا وفي كل بلد من البلدان تترجح فيه الأعراف والتقاليد، وتحوَّل آيات الكتاب وسنن رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلَّم- إلى شواهد وأدلة معضدة، فهي لا تُنشئ الأحكام، ولكنَّها تعضد ما أوصلت له الأعراف والتقاليد وما إليها, بمعنى أن الفقه ينفعل في ظرفه الزماني تحت وطأة محدداته الظرفية المؤقتة في حين تنفتح الشريعة أمام المتغيرات بثوابت قيمية تستوعب تلك المتغيرات, وبدلا من أن تكون ثوابت الشريعة حاكمة على متغيرات الفقه, بات الفقه بطابعه المذهبي حاكما بمتغيراته على ثوابت الشريعة, مما يفضي إلى أفول القيم الانسانية التي يكتنزها خطاب الوحي عبر مساحات التشريع, والذي يستدعي عقلا فقهيا متجاوزا للرؤى المذهبية والأيديولوجية الضيقة في سبيل البحث عن مكنونات الشريعة في واقع الحياة الانسانية.







وائل الوائلي
منذ 5 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN