1

بمختلف الألوان
إنَّ الفَضلَ في كتابِ اللهِ عَظيمٌ، واسِعٌ لا يُحَدُّ، فَقَد أغدَقَ اللهُ تَعالى على عِبادِهِ نِعَمًا ظاهِرَةً وباطِنَةً، مَنَحَهُمُ المالَ والبَنينَ، وأعلى شأنَهُم بالعِزَّةِ والكرامَةِ. وهذا الفَضلُ الإلهيُّ ليسَ مَحصُورًا في النِّعَمِ الدُّنيَوِيَّةِ فَحَسبُ، بَلْ يَتَجَلَّى بأسمَى... المزيد
أخر المواضيع
الرئيسة / مقالات علمية
تجربة شخصية ومراجعة علمية لحالة حنف القدم: دعوة للوعي والابتكار في العراق
الملخص:
في عالم تُقاس فيه الجودة الطبية بمدى القدرة على التدخل المبكر، تبقى تشوهات خلقية مثل حنف القدم عائقاً صامتاً في حياة الكثيرين، خصوصًا في البيئات محدودة الموارد.
وُلدت بهذه الحالة، وخضت ثلاث عمليات جراحية لم تنجح، وانتهى بي الأمر بزرع بلاتين في قدمي. هذه التجربة لم تتركني حبيس المعاناة، بل دفعتني لأن أتحول من متلقٍ للعلاج إلى مهندس يسعى لفهمه، تطويره، وتمكين غيري من تجاوزه.
تتناول هذه المقالة حنف القدم من زوايا متقاطعة: السرد الشخصي، التحليل العلمي، التقييم البحثي، وتحديات تطبيق العلاج في السياق العراقي. وهي دعوة لاعتبار الألم الشخصي منطلقاً لحراك علمي، ومصدر إلهام لتغيير الواقع الطبي للأطفال في مجتمعاتنا.

مدخل شخصي: حين يولد الإنسان مختلفًا
منذ لحظة الوعي الأولى، لم تكن قدمي فقط منحنية بل كانت حياتي كلها تميل باتجاه مختلف. ثلاث عمليات جراحية، لا تُنسى آلامها، ولا تُمحى تفاصيلها، فشلت في تصحيح الوضع، وتركتني ببصمة بلاتينية لا تفارق جسدي. لكن ما لم تنجح فيه العمليات الجراحية، نجح فيه شيء آخر: تحويل الإحباط إلى دافع، والقصور إلى التزام.
حنف القدم، لمن لا يعرفه، ليس مجرد انحناء في الطرف السفلي بل انحناءة في نظرة المجتمع، في فرص الحركة، وفي خريطة الطفولة. لكن بإمكان الوعي والعلم أن يُعيد رسم هذه الخريطة.

الأساس العلمي للحالة:
حنف القدم (Clubfoot CTEV) هو أحد أكثر التشوهات الولادية شيوعاً، إذ يصيب حوالي 1 من كل 1000 مولود، بنسبة أعلى لدى الذكور. تُعرف الحالة بانحراف القدم للداخل والأسفل نتيجة قصر غير طبيعي في العضلات والأوتار المحيطة، وتغير في محور العظام.
الأسباب متعددة: بعضها جيني مثبت، كما في الدراسات المنشورة في Nature Genetics حول جينات PITX1 وTBX4، وبعضها غير معروف تمامًا، ما يزيد من صعوبة الوقاية.
إن لم تُعالج الحالة في الشهور الأولى من الولادة، فإنها تتحول من تشوّه بسيط إلى إعاقة دائمة تؤثر على المشي والنمو النفسي والاجتماعي.

النهج العلاجي الحديث: بين الطب والهندسة
لم يعد علاج حنف القدم مقتصرًا على المداخلات الجراحية أو الجبائر التقليدية، بل أصبح يمثل مساحة تفاعلية بين تخصصات متعددة من ابرزها الهندسة الطبية. فالمقاربة الحديثة اليوم تقوم على التكامل بين التشخيص الإكلينيكي، والتصميم الهندسي، والتقويم الحركي.
تعتمد الطريقة الأشهر عالميًا، وهي طريقة بونسيتي، على مبدأ بسيط لكنه فعّال: تصحيح تدريجي لوضعية القدم عبر تجبير أسبوعي، يتبعه قطع بسيط في وتر العرقوب، ومن ثم مرحلة طويلة من التثبيت بأحذية خاصة تمنع الانتكاس. وما يجعل هذه الطريقة فريدة هو بساطتها، وقلة مضاعفاتها، وقدرتها على تجنب الجراحة المفتوحة في أكثر من 90 من الحالات عند التطبيق المبكر.
لكن خلف هذه البساطة يقف دور حاسم للهندسة الطبية. إذ أصبح بإمكاننا اليوم تصميم أجهزة تثبيت خفيفة الوزن، قابلة للتعديل مع نمو الطفل، ومصنوعة بتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد.
كما بات تحليل المشي باستخدام تقنيات Gait Analysis يوفر أداة قوية لتقييم فاعلية العلاج، ومراقبة أية عودة غير مرئية للتشوه. وأخيرًا، بدأت أدوات الذكاء الاصطناعي بالدخول إلى المجال، للمساعدة في التشخيص المبكر وتوقع حالات الانتكاس بناءً على تحليل صور الأشعة وبيانات الحركة.
في هذه البيئة المتطورة، أصبح علاج حنف القدم ليس فقط وسيلة للتصحيح التشريحي، بل نموذجًا على كيفية تلاقح المعرفة الطبية بالحلول الهندسية لخدمة الإنسان.

الواقع العراقي: تشخيص متأخر، رعاية محدودة، ونظام غير مهيأ
حين ننتقل من المختبرات المتطورة إلى العيادات العامة في العراق، نصطدم بواقع مؤلم حيث ان أغلب حالات حنف القدم لا تُشخّص بالشكل الصحيح في الأيام الأولى من الولادة، وأحيانًا يُكتشف التشوّه بعد أشهر، وربما سنوات، من دون تدخل حقيقي.
هذا التأخير غالبًا ما يكون نتيجة لثلاثة أسباب مترابطة:
أولًا، نقص الوعي لدى الأهل، الذين قد يظنون أن التواء القدم مجرد أمر مؤقت.
ثانيًا، ضعف التدريب السريري في المراكز الصحية على اكتشاف الحالة وتمييزها عن غيرها من التشوهات.
وثالثًا، غياب بروتوكولات متابعة للأطفال حديثي الولادة، مما يؤدي إلى فقدان النافذة الزمنية الذهبية للعلاج.
أما في جانب العلاج، فإن طريقة بونسيتي رغم بساطتها، لا تزال غير مطبقة بشكل منهجي في معظم المحافظات، ويفتقر كثير من الأطباء والممرضين إلى التدريب العملي عليها. وحتى في الحالات التي تُطبق فيها، فإن ضعف توافر الجبائر والأحذية الطبية المناسبة، وغياب المتابعة الطويلة، يؤدي إلى فشل العلاج أو انتكاسه.
ولا يمكن الحديث عن الواقع العراقي من دون الإشارة إلى ضعف التصنيع المحلي للأجهزة المساعدة، وغياب أي دعم حقيقي للشركات الناشئة التي يمكن أن تُنتج هذه الأجهزة بتكلفة منخفضة، وبجودة مخصصة لبيئتنا.
في ظل هذه التحديات، يصبح التكامل بين الطب والهندسة ليس رفاهًا، بل ضرورة. فنقل المعرفة العالمية إلى الواقع المحلي يتطلب شراكة مؤسسية بين كليات الطب والهندسة، وبرامج تدريب مهنية، وتمويل حكومي أو دولي لمشاريع تستهدف هذه الفجوات.
حنف القدم في العراق ليس مجرد حالة سريرية، بل نموذج لاختبار قدرة نظامنا الصحي على التفاعل مع الأمراض القابلة للعلاج، وعلى تحويل الألم الفردي إلى مشروع مجتمعي للتغيير.
الحلول موجودة، لكنها تتطلب إرادة مؤسسية وشراكات بين التعليم الطبي والهندسة. وقد أظهرت تجارب دول مثل أوغندا والهند أن نتائج مذهلة يمكن تحقيقها بموارد متواضعة عند تفعيل هذا التكامل.

من التجربة إلى الرؤية: صوت من الداخل
إن من مرَّ بالعجز الجسدي في طفولته، يدرك أن العلم ليس ترفًا أكاديميًا، بل حق إنساني. اليوم، بعد أن أصبحت مهندسًا في الطب الحياتي، أجد أن تجربتي لم تكن مجرد معاناة، بل كانت بحثًا طويل الأمد، غير منشور، لكنه محفور في العظام.
من هنا، أدعو إلى:
إدراج فحص القدم في برامج الكشف المبكر.
إطلاق برامج تدريبية للأطباء والممرضين حول طريقة بونسيتي.
دعم الشركات الناشئة في تصنيع جبائر محلية مرنة ومنخفضة التكلفة.
دمج المهندسين الطبيين في مراكز التأهيل والتشخيص الحركي.

الخاتمة: الألم حين يتحول إلى معرفة
ليست كل العلل مرئية، لكن حنف القدم حالة يمكن رؤيتها، ويمكن تغيير مسارها بالكامل إذا امتلكنا المعرفة والإرادة. إن قصتي ليست استثناءً، بل صورة لطفل من كل ألف، ربما يولد اليوم، وربما لن يحظى بالعلاج إلا إذا قررنا أن نكون الفرق.
هذه المقالة ليست فقط رواية ذاتية، بل دعوة علمية ومجتمعية لنستثمر في كل قدم صغيرة تحتاج أن تقف، تمشي، وتجري نحو مستقبلٍ أفضل.

المهندس الطبي/ محسن حسنين مرتضى السندي باحث في التقنيات الحيوية والهندسة الطبية
اعضاء معجبون بهذا
جاري التحميل
ثقافية
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 8 ساعات
2025/07/20م
الاجازة الدراسية تعني تفرغ الموظف للدراسة تفرغا تاما بغية الحصول على الشهادة المتعاقد عليها ، وهي تمنح براتب تام ، والراتب التام يشمل الراتب الاساسي للموظف اي راتب الدرجة والمرحلة التي هو فيها تضاف اليه المخصصات الثابتة التي تمنح بقوة القانون وتلتصق بالراتب الاساسي وتدور معه بقاء وزوالا . هذا ومن... المزيد
عدد المقالات : 142
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ يومين
2025/07/18م
منذ ظهور مفهوم التطهير الأرسطي اكتسبت الفنون أهميةً بالغة في معالجة مشكلات الحياة عبر تفريغ الشحنات السلبية المتراكمة لدی الفرد الواحد ثم المجتمع بعمومه، فالفن وسيلة للسمو، وسيلة للجمال، والفن سلاح يواجه القبح الذي يزداد مع ازدياد الانحرافات وازدياد التعقيد في الحياة العامة،وانحسار دور... المزيد
عدد المقالات : 53
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ يومين
2025/07/18م
في مدينةٍ موغلةٍ في قُدسيتها، حيث يتعانق التاريخ مع الإيمان، وُلد سليم، طفلًا لا يحمل في جسده قوة، بل يحمل في عينيه وعدًا لا يُخلف: وعد الأمل. لم يكن مولده بدءًا لزمنٍ جديد فحسب، بل كان نشيدَ تحدٍّ طويل، ستنقشه الأيام على جبين الصبر. نشأ في كنف والده، الحاج محمود، الانسان الوقور، ومع والدته ، التي كانت... المزيد
عدد المقالات : 22
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 6 ايام
2025/07/14م
هنـــاك في الكرادة،حيث عبق الكرم وعباءة العقيدة التي تركها الأجدادُ للقادمين من أولادهم،هناك نشأ الشيخ خيري هادي الأسدي،سليل ذاك البيت الذي يذوب في حب الحسين ابن التنور الذي لاينطفئ والرغيف الساخن والمضيف الضاحك دائما في وجوه الوافدين، وُلد الشيخ الأسدي عام 1960م وركضت الأيام سريعا،وكأنّ الأمر... المزيد
عدد المقالات : 53
أدبية
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 8 ساعات
2025/07/20م
أيّها المغترّ بهم رويداً لا عجبَ أن يتبدّلَ رأي الإنسان ويتغيّرَ نظرُه، فإنّ من طبع العقل النقيّ أن يُراجع، ومن دأب النفس الباحثة أن تُنقّب، ومن شأن الموضوعيّ أن لا يستحيي من التحوّل إذا لاح له الحقّ وتجلّى له الصواب. ولا ريب أنّ هذا التبدّل يُعدّ من الحُسن إذا كان انتقالاً من ظلمات الضلال إلى... المزيد
عدد المقالات : 133
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ اسبوعين
2025/07/07م
مـن زفـيرِ اليُـتم أشعلتُ اللظى ... وارتـشفتُ الحزنَ جمراً يُلفظا فاحـتواني وجــعٌ مـِن حـافـرٍ ... يشتكي ظـُلـماً بـوجهي يُلحظـا حـَسبكم رمشي يواري دمعةً ... لو جراحُ الطفِ ماجتْ بالشظى او يـُدوّي بين عمري هائماً ... يستغيثُ الصمتَ شعراً يُقرظـا إنني مُــذ كـنتُ غِـرّاً يـافـعاً ... قــدَّ سهوي... المزيد
عدد المقالات : 29
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 3 اسابيع
2025/07/02م
كان جالسا وفي حضنه الطفل الملكوتيّ، وكنتُ جالسا أتأمل وجهيهما، ماهذا الجمع النورانيّ (محمد والحسين) أي صلواتٍ تفي بهذا اللقاء مازلتُ صامتا، مفعما بالمحبة، أنظرُ ولا أشبع، تُرى لماذا قلبي نهم لايعرف الاكتفاء لماذا روحي عطشی لاتصل الی الامتلاء الرسول الأعظم مازال يداعب صغيره، ومازلت أنا أجوب... المزيد
عدد المقالات : 53
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 3 اسابيع
2025/07/02م
في البيداء وردة كسيرة عطشى أحاطت بها ضاريات الفلا فلا معين لها يروى ولا ساقي لها يسقى وقفت حيرى ورمقت بناظرها رب السما رباه لا تكسر خاطر أمرأة ثكلى... صليل سيوف غدت مسموعة فأودت بحياة أخيها صرعى... رفع رأسه على الرمح فاعتلى... فأصبحت في خربة الغربى... أسيرة البلدان... ومن حواليها أطفال تبكى... كأني... المزيد
عدد المقالات : 87
علمية
سلسلة في مفاهيم الفيزياء الجزء السادس والعشرون اختزال الدالة الموجية بين التأمل والاحتمال الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 17/7/2025 يستحسن أن نشير هنا إلى أن الفيزياء النظرية تبدأ في معظم الأحيان بأفكار تأملية، الأفكار في نماذج رياضية... المزيد
في وقت يتخبط فيه الاقتصاد العالمي تحت وطأة الاضطرابات الجيوسياسية، والتقلبات النقدية، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، تبرز مصر كحالة استثنائية بين الاقتصادات الناشئة، وفقًا لتقارير حديثة من مؤسسات مالية دولية مرموقة. فقد وصف كل من معهد التمويل... المزيد
سلسلة في مفاهيم الفيزياء الجزء الخامس والعشرون: بين التداخل والاختزال ما الذي تصفه ميكانيكا الكم الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 16/7/2025 قلنا في المقالة السابقة: إذا كانت ميكانيكا الكم تنفي وجود اختزال فعلي، فقد يكون من المفيد أن نعيد... المزيد
آخر الأعضاء المسجلين

آخر التعليقات
تجربة شخصية ومراجعة علمية لحالة حنف القدم:...
محسن حسنين مرتضى السندي
2025/06/15م     
عظمة أهل البيت (عليهم السلام) وحدود القياس...
السيد رياض الفاضلي
2025/02/20م     
النخب والمفاهيم النمطية الموروثة
عبد الخالق الفلاح
2024/11/16م     
اخترنا لكم
إصدارات
2025/06/23
صدر عن قسمِ الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، دليلُ القصص الفائزة في مسابقة القصة القصيرة عن الامام الحسن العسكري...
المزيد

صورة مختارة
رشفات
الإمام محمد الجواد (عليه السلام)
2025/06/23
( تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة )
المزيد

الموسوعة المعرفية الشاملة
القرآن وعلومة الجغرافية العقائد الاسلامية الزراعة الفقه الاسلامي الفيزياء الحديث والرجال الاحياء الاخلاق والادعية الرياضيات سيرة الرسول وآله الكيمياء اللغة العربية وعلومها الاخبار الادب العربي أضاءات التاريخ وثائقيات القانون المكتبة المصورة
www.almerja.com