تشير الأدبيات التربوية إلى أن مفهوم القراءة مَر بمراحل مختلفة وجاءت البحوث والدراسات حول القراءة في كل مرحلة تتفق مع المفهوم المحدد لها، ففي مطلع القرن العشرين كان مفهوم القراءة يتمثل في القدرة على تعرف الحروف والكلمات والنطق بها، فكان هذا المفهوم ضيقاً محدودًا في الإدراك البصري للرموز المكتوبة، وتعرفها والنطق بها، فقد ركزت البحوث خلال تلك الفترة على التعامل مع القراءة من خلال البعد الآلي دون البحث في العمليات العقلية أو الانفعالية للقراءة، كما أن الأبحاث والدراسات التي ُأجريت عن القراءة في العقد الأول من القرن العشرين، ركزت على النواحي الفسيولوجية مثل حركات العين، وأعضاء النطق وغيرها .
ثم جاء العقد الثاني من القرن العشرين وبدأ الاهتمام بموضوع القراءة يتزايد بصورة واضحة، فقد كثرت الدراسات التي اهتمت بهذا الموضوع، وقد كان ( ثورندايك) من أبرز الذين اهتموا بهذا الموضوع، فقد قام بإجراء سلسلة من البحوث حول أخطاء التلاميذ الكبار في قراءة الفقرات، وخرج من هذه الأبحاث بنتيجة كان لها أثر بعيد في انتقال مفهوم القراءة، وهذه النتيجة هي أن القراءة ليست عملية ميكانيكية بحتة يقتصر فيها الأمر على مجرد التعرف والنطق، إنما هي عملية عقلية معقدة تماثل جميع العمليات التي يقوم بها الإنسان وهو يحل المسائل الرياضية مثلا، فهي تستلزم الفهم، والربط، والاستنتاج ونحوها.
ونتيجة لزيادة الأبحاث في مجال القراءة الصامتة وبخاصة الأبحاث التي قام بها كل من (جد وباسويل)، والتي أظهرت نتائجها أن القراءة تختلف باختلاف غرض القارئ، كما أنها تختلف باختلاف المادة المقروءة؛ فقد أخذ المهتمون ينادون بضرورة تدريب التلاميذ على جميع أنواع القراءة، كما أن الأنظار أخذت تتجه إلى السرعة في القراءة، وذلك حتى يتمكن القراء والتلامذة من الانتفاع بكل ما تخرجه المطابع يومياً .
كما اتجهت الأنظار كذلك إلى العناية بالنقد فتوسع مفهوم القراءة ليشمل التجاوب النقدي للقارئ مع المادة المقروءة، واتخاذها وسيلة من وسائل كسب الخبرة والاستفادة في الحياة؛ وذلك نتيجة ظهور الحاجة إلى مشاركة الفرد في بناء مجتمعه عن طريق أخذ آراء الأفراد للتمكن من بناء المجتمع، ونتيجة الحاجة إلى تدريب التلاميذ بعدم التسليم بصحة ما يقرؤون؛ إذ لا بد من دراسته دراسة تحليلية ناقدة للتعرف على ما يحتويه من إيجابيات أو سلبيات .
وفي العقد الثالث من القرن العشرين تطور مفهوم القراءة ليشير إلى استخدام القراءة لمواجهة المشكلات، والانتفاع بها في مواقف الحياة العملية؛ وذلك نتيجة لتعقد الحياة، وظهور العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبذلك اتسع مفهوم القراءة، ليصبح أسلوباً من أساليب النشاط الفكري في حل المشكلات، ونتيجة لهذا التطور في المفهوم ازدادت العناية بالقراءة التحليلية .
وقد تطور هذا المفهوم عبر الأجيال على النحو التالي :
1. كان مفهوم القراءة أول الأمر يتمثل في تمكين المتعلم من المقدرة على التعرف على الحروف والكلمات ونطقها وتكون القراءة بهذا المعنى عملية إدراكية بصرية صوتية.
2. ثم تغير نتيجة البحوث التربوية فأصبح مفهوم القراءة هو التعرف على الرموز ونطقها وترجمة هذه الرموز إلى ما تدل عليه من معاني وأفكار فأصبحت القراءة عملية فكرية ترمي إلى الفهم .
3. ثم أخذ يتجه إلى نقد المقروء والتأثر به، ثم اتجه إلى استخلاص الأفكار والانتفاع بها في المواقف الحيوية . وعلى هذا الأساس يصبح للقراءة أثرها على الأفكار والسلوك ،ثم تطور هذا المفهوم مع ظهور وقت الفراغ فأصبح يحمل الاستمتاع للإنسان بما يقرأ .
4. واخيرا انتقل مفهوم القراءة الى استخدام ما يفهمه القارئ، وما يستخلصه مما يقرا، في مواجهة المشكلات، والانتفاع به في المواقف الحياتية، فاذا لم يستخدمه في هذه الوجوه لا يعد قارئا، وعلى هذا يجوز ان نقول لمن يتنزه في احدى الحدائق، ويقرا في احدى اللافتات:( ممنوع قطف الازهار)، ثم يقطف زهرة فهو غير عارف بالقراءة (امي) لأنه لم يستخدم ما هو مكتوب في اللافتة .
إن للقراءة أهمية في حياة الفرد والمجتمع، فهي من النشاطات اللغوية المتميزة بوصفها أداة من أدوات اكتساب المعرفة والثقافة والاتصال بما أنتجه وينتجه العقل البشري، وهي من وسائل الرقي والنمو الاجتماعي والعلمي، فعن طريقها يشبع الفرد حاجاته وينمي فكره وعواطفه ويثري خبراته بما تزوده من أفكار وأراء وخبرات، كما أنها الينبوع الفياض الذي يمد الفرد دائماً بالأفكار التي تشحذ قواه العقلية وترهف مشاعره فيصبح أكثر قدرة على مجابهة الحياة بما فيها من مصاعب وعقبات، لهذا كانت القراءة ولا تزال حاجة لازمة لها قيمتها و أثرها في حياة الفرد . لذا يمكن القول إن القراءة مفتاح التعلم والتعليم، ويرى بعض العلماء : إن ملكة القراءة بمثابة حاسة مكتسبة تضم إلى الحواس الأصلية وتزيد من مقدرة اطلاع الإنسان فإذا كان الإنسان يطلع على كثير من الأشياء بوساطة حواسه مباشرة، فانه يستطيع أن يطلع على كثير من الأمور بوساطة القراءة بصورة غير مباشرة .
القراءة أحد ثلاثة ينابيع يستقي الإنسان منها معلوماته، وهي المشاهدة والمخاطبة والقراءة، والقراءة أوسعها، إن القراءة توسع دائرة معارف القارئ وتزوده بأنواع من الخبرات والحقائق التي تتصل بنفسه وبالعالم الخارجي الذي يعيش فيه وهذا ما جعل المفكر الفرنسي( فولتير) يقول عندما سئل عمن سيقود الجنس البشري:( الذين يعرفون كيف يقرؤون ويكتبون ).
إن قراءة ساعة في وقت الفراغ تعادل حياة أشهر لان القراءة تنقل القارئ في جو مليء بالتجارب الإنسانية التي لا يحصل عليها المرء بمفرده مهما طال عمره فتجعل عمره قديماً قدم الأزل ومستمراً استمرار الدهر .
ولا يقف الحد عند تحصيل المعرفة ولكن للقراءة فائدة في بناء شخصية القارئ من خلال تأثره بالشيء المقروء أي إن للقراءة دوراً في تغيير السلوك البشري وتعديله وهنا يجب أن نحرص على أن تكون النصوص المقروءة هادفة وجيدة من حيث الفكرة والمعنى .
زيادة على ذلك فإن للقراءة فائدة لا تقل أهمية عما تقدم، فهي تحقق للفرد نوعاً من المتعة والترويح عن النفس وقضاء أوقات الفراغ، ولله در المتنبي الذي يرى في الكتاب خير جليس للإنسان إذ قال :
اعُّز مكانٍ في الدُنَى سَرْجُ سابحٍ وخيُر جَلِيْسٍ في الزمانِ كِتَابُ
أما الشاعر أحمد شوقي فقد استبدل بأصحابه الكتب لما وجده فيها من وفاء في إعطاء العلم والمعرفة إذ قال :
أنا من ( بدل بالكتب ) الصحابا ولم أجد لي وفياً إلا كتابا
ومما جاء في الموروث العربي هذه القصة : كان لأبي الحسن القالي الأديب اللغوي نسخة في غاية الجودة من كتاب الجمهرة لابن دريد دعته الحاجة إلى بيعها فاشتراها الشريف المرتضى بستين دينارا فلما تصفحها وجد بها أبياتا بخط بائعها :
أَنسْتُ بها عشرين عاماً وبعتُها ... وقد طال وَجْدي بعدَها وحَنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها ... ولو خَلَّدَتْني في السجون دُيوني
ولكن لعَجْزٍ وافتقارٍ وصبْيَة ... صغارٍ عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت - ولم أملك سوابقَ عَبْرتي ... مقالةَ مكوى الفؤاد حَزين
وقد تُخْرجُ الحاجاتُ - يا أم مالك - ... كرائمَ من ربٍّ بهنَّ ضَنين
فدفع الشريف المرتضى ثمنها ولم يأخذها . وأرسل معها أربعين ديناراً أُخْرى .







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN