سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الرابع والستون: الفيزياء في مهبّ الفلسفة: ميكانيكا الكم ومسألة الواقع
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
5/10/2025
في مقالات سابقة، عرضنا أسبابنا للاعتقاد بوجود واقع خارجي.
وحاولنا استخدام الأدلة المستمدة من الملاحظة لفهم طبيعة هذا الواقع.
لكن هذه الأدلة قادتنا في اتجاهات متعارضة، ولم تُظهر أي صورة موحدة أو مقنعة لهذا الواقع.
فهل يعني هذا أن البحث كان عبثيًا
هل تخبرنا الظواهر الكمومية بأن الثقة التي عبّرنا عنها سابقًا كانت في غير محلها، وأنه لا وجود فعلي لواقع خارجي أو لحقيقة تقف خلف ملاحظاتنا
هل نحن، كما يُقال مجازًا، نبحث عن قدرٍ من الذهب في نهاية قوس قزح
لقد أشرنا بالفعل إلى أن هناك من يجيبون بـ"نعم" على مثل هذه الأسئلة.
إنهم يرون أن الملاحظة هي كل ما يوجد، وأن فكرة وجود واقع خارجي ليست سوى وهم فلسفي.
وقد سادت هذه الرؤية بين بعض المفكرين، خاصة في السنوات التي أعقبت نشوء ميكانيكا الكم.
ورغم تراجع التأثير المباشر لهذه الرؤية وتعدّد صورها، فإنها لا تزال تحظى بانتشارٍ واسع في بعض الأوساط الفكرية.
ومن باب الإنصاف، نعرض وجهة النظر "اللا-واقعية" (anti-realist) بصيغة حديثة، من خلال اقتباس من الكتاب الممتاز:
The Scientific Image
تأليف: فان فراسن
Oxford University Press، 1980
يُعرّف فان فراسن أولًا ما يُسميه الواقعية العلمية:
"الهدف من العلم، في نظرياته، هو إعطاؤنا قصة حقيقية بالمعنى الحرفي عن طبيعة العالم؛ وقبول نظرية علمية يتضمن الاعتقاد بأنها صحيحة."
هذا مبدأ أوافق عليه، وقد كان حجر الأساس في أغلب مناقشات هذه السلسلة.
إنه ينسجم مع الرغبة في تفسير الظواهر وفهم الواقع.
رغم أنني أتحفّظ قليلًا على دقة كلمة "حرفي" في هذا السياق، فإن المبدأ واضح من حيث المضمون.
لكن فان فراسن يرفض هذا المبدأ، ويقترح بديلًا له، سماه:
"البراغماتية التجريبية" (Constructive Empiricism)
حيث يُعرّف هدف العلم على النحو التالي:
"الهدف من العلم هو إعطاؤنا نظريات تكون ملائمة تجريبيًا؛ وقبول النظرية لا يتطلب سوى الاعتقاد بأنها ملائمة تجريبيًا."
وتعني "الملاءمة التجريبية" هنا ببساطة : الاتفاق مع جميع الملاحظات.
هذا المذهب، بوضوح، يتعارض مع الواقعية.
فهو لا يسعى لشرح ما هو موجود، بل يرضى فقط بأن تعمل النظرية وتنتج مخرجات منسجمة مع التجربة.
ومن الواضح أن تفسير كوبنهاغن لنظرية الكم يتلاءم تمامًا مع هذا النهج.
نحن هنا ندخل إلى مجال غني بالأدبيات، لا يمكن استقصاؤه بالكامل ضمن هذا السياق.
لكن كتاب فان فراسن المشار إليه يُقدّم عرضًا جيدًا للحجج المناهضة للواقعية، ويحتوي أيضًا على مراجع قيّمة لمن يريد الاستزادة.
وفي الرد على هذه الحجة ضد الواقعية، كما طرحها فان فراسن، أود أن أُشير إلى أن ما يُشكل "العلم" قد يعتمد، ببساطة، على تعريف كلمة علم.
حينها تصبح المواقف المختلفة مجرد صيغ ناتجة عن تعريفات مختلفة، مما قد يُفقد النقاش بعض جديته العلمية.
لكن بصورة أكثر واقعية، يمكن اعتبار العلم ما يؤمن العلماء أنفسهم بأنهم يفعلونه.
وهنا تصبح المسألة اجتماعية وثقافية، لا محض تعريف لغوي.
ورغم عدم وجود دراسات استقصائية قاطعة، أتصور أن غالبية العلماء الفاعلين اليوم يعتنقون الواقعية العلمية.
ولتوضيح ذلك، يكفي أن نُشير إلى حفلة الاحتفال التي أُقيمت في CERN بعد اكتشاف جسيم .W ما كان لذلك الحدث أن يُقام لو لم يكن العلماء مقتنعين بأنهم اكتشفوا شيئًا موجودًا فعليًا، وليس مجرد بناء حسابي متماسك.
فالعلوم، في جوهرها، لا تتعلق باختراع النماذج، بل باكتشاف العالم.
يتبع في الجزء الخامس والستين.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN