سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الستون: هل تختزل الدالة أم نُختزل نحن: الكم، السببية، وحدود الزمان
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
28/9/2025
لقد كان نجاح نظرية الكم، إلى جانب تعقيداتها التفسيرية، دائمًا حافزًا قويًا للتجريبيين، بحثًا عن تجربة تُسفر عن نتيجة لا يمكن للنظرية التنبؤ بها.
قد يرى البعض أن احتمال العثور على مثل هذه النتيجة ضعيف للغاية، لكن المكافأة إن حدثت ستكون غير مسبوقة.
فإذا تمكنا، يومًا ما، من إثبات وجود خلل تجريبي في تنبؤات نظرية الكم التقليدية، عندها فقط قد نحظى بفرصة حقيقية لفهمها.
من الإنصاف القول إن إمكانية ظهور تطبيقات عملية مباشرة من مثل هذه الاكتشافات تبدو ضئيلة.
لكن، كما تُخبرنا التجربة العلمية، لا ينبغي أبدًا استبعاد مثل هذه الفرضيات.
لقد أشرنا في أحد المقالات السابقة إلى أن الرصد المباشر للدوال الموجية إن أُتيح في المستقبل قد يفتح الباب أمام إمكانية الإرسال الفوري للإشارات، وهو ما يُعد أمرًا بالغ الغرابة، وربما اللامعقول.
ولنسمح لأنفسنا بتكهن آخر أكثر جرأة، بل وربما يُعده البعض "سخيفًا" :
طالما لم يتم اختزال الدالة الموجية، فإن جميع أجزائها تتطور في الزمن حسب معادلة شرودنغر. في مثال تجربة الحاجز الكمومي، فإن العالم الكمومي يحتوي على القصة الكاملة لكل ما يحدث لاحقًا لكل من الجزء المنعكس والجزء المنقول من الدالة الموجية.
لنتخيل نظريًا أن لدينا حاسوبًا كموميًا تمت برمجته بدالة موجية غير مختزلة تحتوي على عدة برامج مختلفة.
من حيث المبدأ، هذا ممكن. يمكن تزويده بمدخلات متعددة تُعالج بالتوازي، ويُختار البرنامج بحسب نتائج غير مرصودة مرتبطة بخصائص تجريبية مثل الدوران الكمومي للجسيمات.
طالما لم يتم اختزال الدالة الموجية، فإن الحاسوب يُنفّذ جميع البرامج في وقت واحد وهذه هي المعالجة المتوازية القصوى.
لكن ما إن نقوم بقياس النتيجة أو "قراءة" مخرجات البرنامج، فإننا نُجبر النظام على اختيار نتيجة واحدة فقط نتيجة واحدة من بين جميع الإجابات الممكنة.
الدالة الموجية غير المختزلة، مع ذلك، تحتوي على جميع الإجابات الممكنة دفعة واحدة. قد لا نستطيع أبدًا الوصول إلى هذه الإجابات دفعة واحدة، لكن من منظور نظريتأملي، الفكرة تُبرز كمًّا هائلًا من الإمكانات.
لقد أشرنا سابقًا إلى أن صعوبة صياغة نظرية كمومية للجاذبية قد تكون مرتبطة بوجود عيوب مفهومية في نظرية الكم نفسها.
ومن يدري قد تشير مشاكل اللاتموضع (non-locality) إلى أن مفاهيمنا عن الزمان والمكان غير كاملة.
فإذا كانت الأبعاد الثلاثة للفضاء ليست سوى إسقاط محدود من فضاء أعلى أبعادًا، فقد تكون النقاط التي نراها متباعدة في الواقع قريبة جدًا في بنية أعمق للكون كما أن النقاط على خيط مشدود قد تبدو متباعدة لمن يتحرك على طوله فقط، لكنها قريبة لمراقب يراها من منظور ثلاثي الأبعاد.
وإذا أخذنا في الحسبان مسألة السببية، فربما يجب أن نتساءل عن أصل افتراضنا لها.
لماذا نعتقد أن الماضي يسبب الحاضر
ولماذا يوجد فرق واضح بين الماضي، الذي يمكننا تذكره، والمستقبل، الذي لا نعرفه
إذا كنّا نعتبر هذه الأمور "بديهية"، فلابد أن نلاحظ أن قوانين الفيزياء الأساسية لا تُميّز بين اتجاهي الزمن.
يمكن عكس إشارة الزمن في هذه القوانين دون أن يتغيّر شيء في صيغتها.
في هذا السياق، الزمن يشبه أي متغيّر مكاني، لا يحمل اتجاهًا مميزًا بذاته.
مفاهيم مثل "الماضي"، "الحاضر"، و"الآن" لا تمتلك مكانة أساسية في قوانين الطبيعة.
وربما لهذا السبب كتب أينشتاين في إحدى رسائله:
"التمييز بين الماضي والحاضر والمستقبل ليس سوى وهم، وإن كان وهمًا عنيدًا ومُستمرًا."
قد يكون هذا هو جوهر المشكلة: من أجل فهم ميكانيكا الكم فهمًا حقيقيًا نحن بحاجة إلى طرق جديدة تمامًا في التفكير، تتجاوز ما اعتدنا عليه من مفاهيم سببية وزمانية.
سواء كنا سنصل إلى هذا المستوى من التفكير يومًا، أو كنا مشروطين جدًا بحيث نعجز عن تجاوزه إلى الأبد، فذلك سؤال لا يزال مفتوحًا، وغير محسوم.
نتابع في الجزء الحادي والستين.







وائل الوائلي
منذ 40 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN