أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/أحاديث وروايات عامة/الإمام علي (عليه السلام)
كتاب سليم بن قيس الهلالي : قال : كنا جلوسا حول أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب عليه السلام وحوله جماعة من أصحابه فقال له قائل : يا أمير المؤمنين! لو
استنفرت الناس؟. فقام وخطب فقال : أما إني قد استنفرتكم فلم تنفروا ، ودعوتكم فلم
تسمعوا ، فأنتم شهود كغياب ، وأحياء كأموات ، وصم ذوو أسماع ، أتلو عليكم الحكمة
وأعظكم بالموعظة الشافية الكافية ، وأحثكم على جهاد أهل الجور ، فما آتي على آخر
كلامي حتى أراكم متفرقين حلقا شتى تتناشدون الأشعار ، وتضربون الأمثال ، وتسألون
عن سعر التمر واللبن ، تبت أيديكم! لقد دعوتكم إلى الحرب والاستعداد لها وأصبحت
قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها بالأباطيل والأضاليل ، اغزوهم قبل أن يغزوكم ،
فو الله ما غزي قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا ، وايم الله ما أظن أن تفعلوا حتى
يفعلوا، ثم وددت أني قد رأيتهم فلقيت الله على بصيرتي ويقيني ، واسترحت من
مقاساتكم وممارستكم ، فما أنتم إلا كإبل جمة ضل راعيها ، فكلما ضمت من جانب انتشرت
من جانب ، كأني بكم والله فيما أرى لو قد حمس الوغى واحمر الموت قد انفرجتم عن علي
بن أبي طالب انفراج الرأس وانفراج المرأة عن قبلها لا تمنع عنها.
قال الأشعث بن قيس : فهلا فعلت كما فعل ابن عفان؟!. فقال : أوكما [ كلما ] فعل
ابن عفان رأيتموني فعلت! أنا عائذ بالله من شر ما تقول ، يا ابن قيس! والله إن
التي فعل ابن عفان لمخزاة لمن لا دين له ولا وثيقة معه ، فكيف أفعل ذلك وأنا على
بينة من ربي ، والحجة في يدي ، والحق معي؟! والله إن امرأ أمكن عدوه من نفسه يجز
لحمه ، ويفري جلده ، ويهشم عظمه ، ويسفك دمه ، وهو يقدر على أن يمنعه لعظيم وزره ،
ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره ، فكنت أنت ذاك يا ابن قيس! فأما أنا فو الله دون أن
أعطي بيدي ضرب بالمشرفي تطير له فراش الهام ، وتطيح منه الأكف والمعاصم ، (
وَيَفْعَلُ اللهُ ) بعد ذلك ( ما يَشاءُ ) ، ويلك ـ يا ابن قيس ـ إن المؤمن يموت
كل ميتة غير أنه لا يقتل نفسه ، فمن قدر على حقن دمه ثم خلى عمن يقتله فهو قاتل
نفسه ، يا ابن قيس! إن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة ، فرقة واحدة في
الجنة واثنتان وسبعون في النار ، وشرها وأبغضها وأبعدها منه السامرة الذين يقولون
لا قتال وكذبوا ، قد أمر الله بقتال الباغين في كتابه وسنة نبيه ، وكذلك المارقة.
فقال ابن قيس ـ وغضب من قوله ـ : فما منعك يا ابن أبي طالب حين بويع أبو
بكر أخو بني تيم وأخو بني عدي بن كعب وأخو بني أمية بعدهم أن تقاتل وتضرب بسيفك؟!
وأنت لم تخطبنا خطبة مذ كنت قدمت العراق إلا قلت فيها قبل أن تنزل عن المنبر :
والله إني لأولى الناس بالناس ، وما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله!
فما يمنعك أن تضرب بسيفك دون مظلمتك؟!.
قال عليه السلام : يا ابن قيس! اسمع الجواب ، لم يمنعني من ذلك الجبن ولا
كراهة للقاء ربي ، وأن لا أكون أعلم أن ما عند الله خير لي من الدنيا والبقاء فيها
، ولكن منعني من ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وعهده إلي ، أخبرني رسول
الله صلى الله عليه وآله بما الأمة صانعة بعده فلم أك بما صنعوا حين عاينته
بأعلم به ولا أشد استيقانا مني به قبل ذلك ، بل أنا بقول رسول الله صلى الله عليه
وآله أشد يقينا مني بما عاينت وشهدت ، فقلت : يا رسول الله! فما تعهد إلي إذا كان
ذلك؟ قال : إن وجدت أعوانا فانبذ إليهم وجاهدهم ، وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن
دمك حتى تجد على إقامة الدين وكتاب الله وسنتي أعوانا ، وأخبرني صلى الله عليه وآله
وسلم أن الأمة ستخذلني وتبايع غيري ، وأخبرني صلى الله عليه وآله وسلم أني
منه بمنزلة هارون من موسى ، وأن الأمة سيصيرون بعده بمنزلة هارون ومن تبعه والعجل
ومن تبعه ، إذ قال له موسى : ( يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا
أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ
بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي
إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ) وإنما يعني أن موسى أمر هارون حين استخلفه
عليهم إن ضلوا فوجد أعوانا أن يجاهدهم وإن لم يجد أعوانا أن يكف يده ويحقن دمه ولا
يفرق بينهم ، وإني خشيت أن يقول ذلك أخي رسول الله صلى الله عليه وآله : لم
فرقت بين الأمة ( وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي )؟ وقد عهدت إليك أنك إن لم تجد أعوانا
أن تكف يدك وتحقن دمك ودم أهلك وشيعتك ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
مال الناس إلى أبي بكر فبايعوه وأنا مشغول برسول الله صلى الله عليه وآله بغسله
، ثم شغلت بالقرآن فآليت يمينا بالقرآن أن لا أرتدي إلا للصلاة حتى أجمعه في كتاب
ففعلت ، ثم حملت فاطمة عليها السلام وأخذت بيد الحسن والحسين عليهما السلام فلم
أدع أحدا من أهل بدر وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار إلا ناشدتهم الله وحقي
ودعوتهم إلى نصرتي ، فلم يستجب من جميع الناس إلا أربعة رهط : الزبير وسلمان وأبو
ذر والمقداد ، ولم يكن معي أحد من أهل بيتي أصول به ولا أقوى به ، أما حمزة فقتل
يوم أحد ، وأما جعفر فقتل يوم مؤتة ، وبقيت بين جلفين خائفين ذليلين حقيرين :
العباس وعقيل ، وكانا قريبي عهد بكفر ، فأكرهوني وقهروني ، فقلت كما قال هارون
لأخيه : ـ ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي
) فلي بهارون أسوة حسنة ، ولي بعهد رسول الله صلى الله عليه وآله حجة قوية.
قال الأشعث : كذلك صنع عثمان : استغاث بالناس ودعاهم إلى نصرته فلم يجد
أعوانا فكف يده حتى قتل مظلوما.
قال : ويلك ـ يا ابن قيس ـ! إن القوم حين قهروني و( اسْتَضْعَفُونِي
وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي ) ولو قالوا لي : نقتلنك البتة لامتنعت من قتلهم إياي ،
ولو لم أجد غير نفسي وحدي ، ولكن قالوا : إن بايعت كففنا عنك وأكرمناك وقربناك
وفضلناك ، وإن لم تفعل قتلناك ، فلما لم أجد أحدا بايعتهم ، وبيعتي لهم لما لا حق
لهم فيه لا يوجب لهم حقا ولا يلزمني رضا ، ولو أن عثمان لما قال له الناس اخلعها
ونكف عنك خلعها لم يقتلوه ، ولكنه قال: لا أخلعها. قالوا : فإنا قاتلوك ، فكف يده
عنهم حتى قتلوه ، ولعمري لخلعه إياها كان خيرا له ، لأنه أخذها بغير حق ، ولم يكن
له فيها نصيب ، وادعى ما ليس له ، وتناول حق غيره.
ويلك ـ يا ابن قيس ـ! إن عثمان لا يعدو أن يكون أحد رجلين ، إما أن يكون
دعا الناس إلى نصرته فلم ينصروه ، وإما أن يكون القوم دعوه إلى أن ينصروه فنهاهم
عن نصرته فلم يكن يحل له أن ينهى المسلمين عن أن ينصروا إماما هاديا مهتديا لم
يحدث حدثا ولم يؤو محدثا ، وبئس ما صنع حين نهاهم ، وبئس ما صنعوا حين أطاعوه ،
فإما أن يكونوا لم يروه أهلا لنصرته لجوره وحكمه بخلاف الكتاب والسنة ـ وقد كان مع
عثمان من أهل بيته ومواليه وأصحابه أكثر من أربعة آلاف رجل ولو شاء الله أن يمتنع
بهم لفعل ـ ولم ينههم عن نصرته ، ولو كنت وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رجلا
مطيعين لجاهدتهم ، فأما يوم بويع عمر وعثمان فلا ، لأني كنت بايعت ومثلي لا ينكث
بيعته.
ويلك ـ يا ابن قيس ـ! كيف رأيتني صنعت حين قتل عثمان ووجدت أعوانا؟ هل رأيت
مني فشلا أو جبنا ، أو تقصيرا في وقعتي يوم البصرة وهم حول جملهم الملعون من معه ،
الملعون من قتل حوله ، الملعون من ركبه ، الملعون من بقي بعده لا تائبا ولا
مستغفرا؟! فإنهم قتلوا أنصاري ، ونكثوا بيعتي ، ومثلوا بعاملي ، وبغوا عَلي ، وسرت
إليهم في اثني عشر ألفا ـ وفي رواية أخرى : أقل من عشرة آلاف ـ وهم نيف على عشرين
ومائة ألف ـ وفي رواية : زيادة على خمسين ألفا ـ فنصرني الله عليهم وقتلهم بأيدينا
وشفى ( صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ).
وكيف رأيت ـ يا ابن قيس ـ وقعتنا بصفين ، وما قتل الله منهم بأيدينا خمسين
ألفا في صعيد واحد إلى النار ـ وفي رواية أخرى : زيادة على سبعين ألفا ـ ، وكيف
رأيتنا يوم النهروان إذ لقيت المارقين وهم مستبصرون متدينون؟! قد : ( ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ
صُنْعاً ) فقتلهم الله في صعيد واحد إلى
النار لم يبق منهم عشرة ولم يقتلوا من المؤمنين عشرة.
ويلك ـ يا ابن قيس ـ هل رأيت لي لواء رد؟ أو راية ردت؟ إياي تعير يا ابن
قيس؟!. وأنا صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع مواطنه ومشاهده ،
والمتقدم إلى الشدائد بين يديه ، ولا أفر ولا ألوذ ولا أعتل ولا أنحاز ولا أمنح
اليهود دبري ، إنه لا ينبغي للنبي ولا للوصي إذا لبس لامته وقصد لعدوه أن يرجع أو
ينثني حتى يقتل أو يفتح الله له.
يا ابن قيس! هل سمعت لي بفرار قط أو نبوة؟.
يا ابن قيس! أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو وجدت يوم بويع أبو بكر ـ
الذي عيرتني بدخولي في بيعته ـ أربعين رجلا كلهم على مثل بصيرة الأربعة الذين وجدت
لما كففت يدي ، ولناهضت القوم ، ولكن لم أجد خامسا!.
قال الأشعث : ومن الأربعة يا أمير المؤمنين عليه السلام؟.
قال : سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير بن صفية قبل نكثه بيعتي ، فإنه
بايعني مرتين ، أما بيعته الأولى التي وفى بها فإنه لما بويع أبو بكر أتاني أربعون
رجلا من المهاجرين والأنصار فبايعوني وفيهم الزبير ، فأمرتهم أن يصبحوا عند بابي
محلقين رءوسهم عليهم السلاح ، فما وافى منهم أحد ولا صبحني منهم غير أربعة : سلمان
وأبو ذر والمقداد والزبير ، وأما بيعته الأخرى : فإنه أتاني هو وصاحبه طلحة بعد
قتل عثمان فبايعاني طائعين غير مكرهين ، ثم رجعا عن دينهما مرتدين ناكثين مكابرين
معاندين حاسدين ، فقتلهما الله إلى النار ، وأما الثلاثة : سلمان وأبو ذر والمقداد
فثبتوا على دين محمد صلى الله عليه وآله وملة إبراهيم (ع) حتى لقوا الله ،
يرحمهم الله.
يا ابن قيس! فو الله لو أن أولئك الأربعين الذين بايعوني وفوا لي وأصبحوا
على بابي محلقين قبل أن تجب لعتيق في عنقي بيعة لناهضته وحاكمته إلى الله عزوجل ،
ولو وجدت قبل بيعة عثمان أعوانا لناهضتهم وحاكمتهم إلى الله ، فإن ابن عوف جعلها
لعثمان ، واشترط عليه فيما بينه وبينه أن يردها عليه عند موته ، فأما بعد بيعتي
إياهم فليس إلى مجاهدتهم سبيل.
فقال الأشعث : والله لئن كان الأمر كما تقول لقد هلكت الأمة غيرك وغير
شيعتك! فقال: إن الحق والله معي يا ابن قيس كما أقول ، وما هلك من الأمة إلا
الناصبين والمكابرين والجاحدين والمعاندين ، فأما من تمسك بالتوحيد والإقرار بمحمد
والإسلام ولم يخرج من الملة ، ولم يظاهر علينا الظلمة ، ولم ينصب لنا العداوة ،
وشك في الخلافة ، ولم يعرف أهلها وولاتها ، ولم يعرف لنا ولاية ، ولم ينصب لنا
عداوة ، فإن ذلك مسلم مستضعف يرجى له رحمة الله ويتخوف عليه ذنوبه.
قال أبان : قال سليم بن قيس : فلم يبق يومئذ من شيعة علي عليه السلام أحد
إلا تهلل وجهه وفرح بمقالته ، إذ شرح أمير المؤمنين عليه السلام الأمر وباح به ،
وكشف الغطاء ، وترك التقية، ولم يبق أحد من القراء ممن كان يشك في الماضين ويكف
عنهم ويدع البراءة منهم ورعا وتأثما إلا استيقن واستبصر وحسن وترك الشك والوقوف ،
ولم يبق أحد حوله أتى بيعته على وجه ما بويع عثمان والماضون قبله إلا رئي ذلك في
وجهه وضاق به أمره ، وكره مقالته ، ثم إنهم استبصر عامتهم وذهب شكهم.
قال أبان ، عن سليم : فما شهدت يوما قط على رءوس العامة أقر لأعيننا من ذلك
اليوم لما كشف للناس من الغطاء ، وأظهر فيه من الحق ، وشرح فيه من الأمر ، وألقى
فيه التقية والكتمان ، وكثرت الشيعة بعد ذلك المجلس مذ ذلك اليوم ، وتكلموا وقد
كانوا أقل أهل عسكره ، وصار الناس يقاتلون معه على علم بمكانه من الله ورسوله ،
وصارت الشيعة بعد ذلك المجلس أجل الناس وأعظمهم ـ وفي رواية أخرى : جل الناس
وأعظمهم ـ وذلك بعد وقعة النهروان ، وهو يأمر بالتهيئة والمسير إلى معاوية ، ثم لم
يلبث أن قتل صلوات الله عليه ، قتله ابن ملجم لعنه الله غيلة وفتكا ، وقد كان سيفه
مسموما قبل ذلك.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 29 / صفحة [ 478 ]
تاريخ النشر : 2025-08-05