أحاديث وروايات المعصومين الاربعة عشر/سيرة وتاريخ/الإمام علي (عليه السلام)
من كلامه عليه
السلام يجري مجرى الاحتجاج ، مشتملا على التوبيخ لأصحابه على تثاقلهم لقتال معاوية
، والتفنيد ، متضمنا للوم والوعيد : أيها الناس ! إني استنفرتكم لجهاد هؤلاء القوم
فلم تنفروا ، وأسمعتكم فلم تجيبوا ، ونصحت لكم فلم تقبلوا ، شهودا كالغيب .
أتلو عليكم
الحكمة فتعرضون عنها ، وأعظكم بالموعظة البالغة فتنفرون عنها ، كأنكم حمر مستنفرة
فرت من قسورة وأحثكم على جهاد أهل الجور فما آتي على آخر قولي ، حتى أراكم متفرقين
أيادي سبا ترجعون إلى مجالسكم تتربعون حلقا ، تضربون الأمثال ، وتنشدون الأشعار ،
وتجسسون الأخبار ، حتى إذا تفرقتم ، تسألون عن الأشعار . جهلة من غير علم ، وغفلة
من غير ورع ،
وتتبعا من غير
خوف . ونسيتم الحرب والاستعداد لها ، فأصبحت قلوبكم فارغة من ذكرها ، شغلتموها
بالأعاليل والأضاليل .
فالعجب كل العجب
- وكيف لا أعجب - من اجتماع قوم على باطلهم وتخاذلكم عن حقكم .
يا أهل الكوفة !
أنتم كأم مجالد ، حملت فأملصت ، فمات قيمها ، وطال أيمها وورثها أبعدها .
والذي فلق الحبة
وبرأ النسمة ، إن من ورائكم الأعور الأدبر جهنم الدنيا ، لا يبقي ولا يذر .
ومن بعده النهاس
الفراس ، الجموع المنوع ، ثم ليتوارثنكم من بني أمية عدة ، ما الآخر [ منهم ]
بأرأف بكم من الأول ، ما خلا رجلا واحدا [ منهم ] بلاء قضاه الله على هذه الأمة ،
لا محالة كائن . يقتلون خياركم ، ويستعبدون أرذالكم ، ويستخرجون كنوزكم وذخائركم من
جوف حجالكم ، نقمة بما ضيعتم من أموركم وصلاح أنفسكم ودينكم .
يا أهل الكوفة !
أخبركم بما يكون قبل أن يكون ، لتكونوا منه على حذر ، ولتنذروا به من اتعظ واعتبر
. كأني بكم تقولون : إن عليا يكذب كما قالت قريش لنبيها وسيدها نبي الرحمة محمد بن
عبد الله حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم .
فيا ويلكم ،
فعلى من أكذب ! أعلى الله ! فأنا أول من عبد الله ووحده ، أم على رسول الله صلى
الله عليه وآله ! فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره . كلا ولكنها لهجة خدعة كنتم
عنها أغبياء.
والذي فلق الحبة
وبرأ النسمة ، لتعلمن نبأها بعد حين ، وذلك إذا صيركم إليها جهلكم ، ولا ينفعكم
عندها علمكم .
فقبحا لكم يا
أشباه الرجال ولا رجال ، حلوم الأطفال وعقول ربات الحجال .
أما والله أيها
الشاهدة أبدانهم ، الغائبة عنهم عقولهم ، المختلفة أهواؤهم ! ما أعز الله نصر من
دعاكم ، ولا استراح قلب من قاساكم ، ولا قرت عين من آواكم . كلامكم يوهي الصم
الصلاب ، وفعلكم يطمع فيكم عدوكم المرتاب .
يا ويحكم ، : أي
دار بعد داركم تمنعون ! ومع : أي إمام بعدي تقاتلون ! والمغرور والله من غررتموه ،
ومن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب .
أصبحت لا أطمع
في نصركم ، ولا أصدق قولكم . فرق الله بيني وبينكم ، وأعقبني بكم من هو خير لي
منكم ، وأعقبكم بي من هو شر لكم مني .
إمامكم يطيع
الله وأنتم تعصونه ، وإمام أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه .
والله لوددت أن
معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم ، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني واحدا منهم
والله لوددت أني لم أعرفكم ، ولم تعرفوني ، فإنها معرفة جرت ندما !
لقد وريتم صدري
غيظا ، وأفسدتم علي أمري بالخذلان والعصيان ، حتى لقد قالت قريش : إن عليا رجل
شجاع [ و ] لكن لا علم له بالحروب . لله درهم ! هل كان فيهم أحد أطول لها مراسا
مني وأشد لها مقاساة ؟ ! لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين ، ثم ها أنا قد ذرفت على
الستين ، ولكن لا أمر لمن لا يطاع . أما والله لوددت أن ربي قد أخرجني من بين
أظهركم إلى رضوانه ، وإن المنية لترصدني ، فما يمنع أشقاها أن يخضبها ؟ - ونزل [
عليه السلام ] يده على رأسه ولحيته - عهدا عهده إلي النبي الأمي صلى الله عليه
وآله . وقد خاب من افترى ، ونجا من اتقى وصدق بالحسنى .
يا أهل الكوفة !
قد دعوتكم إلى جهاد هؤلاء القوم ليلا ونهارا ، وسرا وإعلانا ، وقلت لكم : اغزوهم
قبل أن يغزوكم ، فإنه ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا . فتواكلتم وتخاذلتم ،
وثقل عليكم قولي ، واستصعب عليكم أمري ، واتخذتموه وراءكم ظهريا حتى شنت عليكم
الغارات ، وظهرت فيكم الفواحش والمنكرات ، تمسيكم وتصبحكم كما فعل بأهل المثلات من
قبلكم ، حيث أخبر الله عز وجل عن الجبابرة العتاة الطغاة ، والمستضعفين الغواة في
قوله تعالى : ( يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم ) .
أما والذي فلق
الحبة وبرأ النسمة لقد حل بكم الذي توعدون .
عاتبتكم يا أهل
الكوفة بمواعظ القرآن فلم أنتفع بكم ، وأدبتكم بالدرة فلم تستقيموا لي ، وعاقبتكم
بالسوط الذي يقام به الحدود فلم ترعووا . ولقد علمت أن الذي يصلحكم هو السيف . وما
كنت متحريا صلاحكم بفساد نفسي ، ولكن سيسلط عليكم سلطان صعب ، لا يوقر كبيركم ،
ولا يرحم صغيركم ، ولا يكرم عالمكم ، ولا يقسم الفئ بالسوية بينكم ، وليضربنكم
وليذلنكم ، وليجرنكم في المغازي ، ويقطعن سبلكم ، وليحجبنكم على بابه حتى يأكل
قويكم ضعيفكم ، ثم لا يبعد الله الا مم ظلم . ولقل ما أدبر شئ فأقبل ، إني لأظنكم
على فترة ، وما علي الا النصح لكم .
يا أهل الكوفة !
منيت منكم بثلاث واثنتين : صم ذوو أسماع ، وبكم ذوو ألسن ، وعمي ذوو أبصار . لا
إخوان صدق عند اللقاء ، ولا إخوان ثقة عند البلاء .
اللهم إني قد
مللتهم وملوني ، وسئمتهم وسئموني . اللهم لا ترض عنهم أميرا ، ولا ترضهم عن أمير ،
وأمث قلوبهم كإيماث الملح في الماء .
أما والله لو [
كنت ] أجد بدا من كلامكم ومراسلتكم ما فعلت .
ولقد عاتبتكم في
رشدكم حتى سئمت الحياة ، [ وأنتم في ] كل ذلك ترجعون بالهزء من القول ، فرارا من
الحق ، وإلحادا إلى الباطل الذي لا يعز الله بأهله الدين ، وإني لأعلم بكم أنكم لا
تزيدونني غير تخسير .
كلما أمرتكم
بجهاد عدوكم اثاقلتم إلى الأرض ، وسألتموني التأخير دفاع ذي الدين المطول . إن قلت
لكم في القيظ : سيروا . قلتم : الحر شديد . وإن قلت لكم : سيروا في البرد . قلتم :
القر شديد . كل ذلك فرارا عن الحرب إذا كنتم عن الحر والبرد تعجزون ، فأنتم عن
حرارة السيف أعجز وأعجز .
فإنا لله وإنا
إليه راجعون .
يا أهل الكوفة !
قد أتاني الصريح يخبرني أن ابن غامد قد نزل الأنبار على أهلها ليلا في أربعة آلاف
، فأغار عليهم كما يغار على الروم والخزر ، فقتل بها عاملي ابن حسان ، وقتل معه
رجالا صالحين ذوي فضل وعبادة ونجدة ، بوء الله لهم جنات النعيم ، وإنه أباحها .
وقد بلغني أن
العصبة من أهل الشام ، كانوا يدخلون على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة ،
فيهتكون سترها ، ويأخذون القناع من رأسها ، والخرص من أذنها ، والأوضاح من يديها
ورجليها وعضديها ، والخلخال والمئزر عن سوقها ، فما تمتنع إلا بالاسترجاع والنداء
" يا للمسلمين " فلا يغيثها مغيث ولا ينصرها ناصر ، فلو أن مؤمنا مات من
دون هذا أسفا ، ما كان عندي ملوما بل كان عندي بارا محسنا .
واعجبا كل العجب
من تظافر هؤلاء القوم على باطلهم ، وفشلكم عن حقكم ! قد صرتم غرضا يرمى ولا ترمون
، وتغزون ولا تغزون ، ويعصون الله وترضون ، فتربت أيديكم يا أشباه الإبل غاب عنها
رعاتها ، كلما اجتمعت من جانب تفرقت من جانب .
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 34 / صفحة [ 135 ]
تاريخ النشر : 2025-10-26