كتب التفسير/تفسير مجمع البيان/القيامة والحساب والحشر
قال الطبرسي رحمه الله: " اولئك لهم
نصيب مما كسبوا " أي حظ من كسبهم باستحقاقهم
الثواب عليه " والله سريع الحساب " ذكر فيه وجوه:
أحدها: أن معناه: سريع المجازاة
للعباد على أعمالهم أن وقت الجزاء قريب، يجري مجرى قوله سبحانه: " وما أمر الساعة
إلا كلمح البصر أو هو أقرب " وعبر عن الجزاء بالحساب لان الجزاء كفاء العمل وبمقداره
فهو حساب له، يقال: أحسبني الشيء: كفاني.
وثانيها: أن يكون المراد به أنه يحاسب
أهل الموقف في أوقات يسيرة، لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، كما لا يشغله شأن
عن شأن، وورد في الخبر أن الله سبحانه يحاسب الخلائق كلهم في مقدار لمح البصر، وروي
بقدر حلب شاة. وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: معناه أنه يحاسب الخلق
دفعة كما يرزقهم دفعة.
وثالثها: أن معناه أنه سبحانه سريع القبول
لدعاء هؤلاء والاجابة لهم من غير احتباس فيه وبحث عن
المقدار الذي يستحقه كل داع، ويقرب منه ما روي
عن ابن عباس أنه قال: يريد أنه لا حساب على هؤلاء، إنما يعطون كتبهم بأيمانهم فيقال
لهم: هذه سيئاتكم قد تجاوزت بها عنكم، وهذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم. وفي قوله تعالى:
" وإن تبدوا " أي تظهروا ما في أنفسكم وتعلنوه من الطاعة والمعصية
" أو تخفوه " أي تكتموه " يحاسبكم
به الله " أي يعلم الله ذلك فيجازيكم عليه، وقيل: معناه:
إن تظهروا الشهادة أو تكتموها فإن الله يعلم ذلك ويجازيكم به، عن ابن عباس وجماعة،
وقيل: إنها عامة في الاحكام التي تقدم ذكرها في السورة، خوفهم الله
تعالى من العمل بخلافها، وقال قوم: إن هذه الآية منسوخة بقوله: " لا يكلف الله نفسا
إلا وسعها " ورووا في ذلك خبرا ضعيفا، وهذا لا يصح لان تكليف ما ليس في الوسع غير
جائز فكيف ينسخ ؟ وإنما المراد بالآية ما يتناوله الامر والنهي من الاعتقادات والارادات
وغير ذلك مما هو مستور عنا، وأما مالا يدخل في التكليف من الوساوس والهواجس
مما لا يمكن التحفظ عنه من الخواطر فهو خارج عنه لدلالة العقل، ولقوله صلى الله
عليه وآله: وتجوز لهذه الامة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها، فعلى هذا يجوز أن تكون
الآية الثانية بينت الاولى وأزالت توهم من صرف ذلك إلى غير وجهه وظن أن ما يخطر
بالبال وتتحدث به النفس مما لا يتعلق به التكليف فإن الله يؤاخذه به، والامر بخلاف
ذلك، وقوله: " فيغفر لمن يشاء " منهم رحمة وتفضلا " ويعذب من يشاء
" منهم ممن استحق العقاب عدلا " والله على كل
شئ قدير " من المغفرة والعذاب عن ابن عباس ولفظ
الآية عام في جميع الاشياء، والقول فيما يخطر بالبال من المعاصي أن الله سبحانه
لا يؤاخذ به وإنما يؤاخذ بما يعزم الانسان ويعقد قلبه عليه مع إمكان التحفظ عنه،
فيصير من أفعال القلب فيجازيه كما يجازيه على أفعال الجوارح، وإنما يجازيه جزاء
العزم لا جزاء عين تلك المعصية، لأنه لم يباشرها، وهذا بخلاف العزم على الطاعة
فإنه يجازي على عزمه ذلك جزاء تلك الطاعة، كما جاء في الاخبار: إن المنتظر للصلاة
في الصلاة ما دام ينتظرها، وهذا من لطائف نعم الله على عباده. وفي قوله عزوجل:
" وما من دابة في الارض " أي ما من حيوان يمشي على وجه الارض " ولا
طائر يطير بجناحيه " جمع بهذين اللفظين
جميع الحيوانات، وإنما قال: يطير بجناحيه للتأكيد ورفع
اللبس لان القائل قد يقول: طر في حاجتي أي اسرع فيها، " إلا امم " أي أصناف مصنفة
تعرف بأسمائها يشتمل كل صنف على العدد الكثير " أمثالكم " قيل: إنه يريد: أشباهكم
في إبداع الله إياها وخلقه لها ودلالتها على أن لها صانعا، وقيل: إنما مثلت الامم
من غير الناس بالناس في الحاجة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وأكلهم
ولباسهم ونومهم ويقظتهم وهدايتهم إلى مراشدهم إلى مالا يحصى كثرة من أحوالهم ومصالحهم،
وأنهم يموتون ويحشرون، وبين بهذا أنه لا يجوز للعباد أن يتعدوا في ظلم شيء منها،
فإن الله خالقها والمنتصف لها " ما فرطنا في الكتاب من شئ " أي ما تركنا، وقيل:
ما قصرنا، والكتاب، القرآن لان فيه جميع ما يحتاج إليه من امور الدين والدنيا إما
مجملا وإما مفصلا، والمجمل قد بينه على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وأمر باتباعه
في قوله: " ما آتيكم الرسول فخذوه " الآية، وقيل: المراد به اللوح، وقيل: المراد
به الاجل أي ما تركنا شيئا إلا وقد أوجبنا له أجلا ثم يحشرون جميعا " ثم إلى ربهم
يحشرون " أي يحشرون إلى الله بعد موتهم يوم القيامة كما يحشر العباد، فيعوض الله
تعالى ما يستحق العوض منها وينتصف لبعضها من بعض، وفيما رووه عن أبي هريرة أنه قال:
يحشر الله الخلق يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شئ فيبلغ من عدل الله يومئذ
أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا، فلذلك يقول الكافر: يا ليتني
كنت ترابا. وعن أبي ذر قال: بينا أنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله إذ انتطحت
عنزان فقال النبي صلى الله عليه وآله: أتدرون فيما انتطحا ؟ فقالوا: لا ندري،
قال: لكن الله يدري و سيقضي بينهما، وعلى هذا فإنما جعلت أمثالنا في الحشر والقصاص،
ويؤيده قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت " واستدلت جماعة من أهل التناسخ بهذه
الآية على أن البهائم والطيور مكلفة لقوله: " امم أمثالكم " وهذا باطل لانا
قد بينا أنها من أي جهة تكون أمثالنا، ولو
وجب حمل ذلك على العموم لوجب أن تكون أمثالنا
في كونها على مثل صورنا وهيئاتنا وخلقنا وأخلاقنا، فكيف يصح تكليف البهائم وهي
غير عاقلة ؟ و التكليف لا يصح إلا مع كمال العقل. أقول: قد أورد الرازي في ذلك فصلا
مشبعا لا يهم إيراده، وقد مر تفسير سوء الحساب في باب أحوال المجرمين وسيأتي في الاخبار،
وقال الطبرسي رحمه الله في قوله عزوجل: " اقترب للناس حسابهم ": اقترب افتعل
من القرب، والمعنى: اقترب للناس وقت حسابهم - يعني القيامة - أي وقت محاسبة الله
إياهم ومساءلتهم عن نعمه هل قابلوها بالشكر
؟ وعن أوامره هل امتثلوها ؟ وعن نواهيه هل اجتنبوها ؟ وإنما وصف بالقرب لان كل ما
هو آت قريب " وهم في غفلة " من دنوها وكونها " معرضون " عن التفكر
فيها والتأهب لها، وقيل: عن الايمان بها. وقال
البيضاوي في قوله تعالى: " أعمالهم كسراب بقيعة
": أي أعمالهم التي يحسبونها صالحة نافعة عند الله يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة
كسراب، وهو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة فيظن أنه ماء
يسرب أي يجري، والقيعة بمعنى القاع وهو الارض المستوية، وقيل: جمعه كجار وجيرة "
يحسبه الظمئان ماء " أي العطشان، وتخصيصه لتشبيه الكافر به في شدة الخيبة عند مسيس
الحاجة " حتى إذا جاءه " جاء ما توهمه ماءا، أو جاء موضعه " لم يجده
شيئا " مما ظنه " ووجد الله عنده " عقابه
أو زبانيته أو وجده محاسبا إياه " فوفيه حسابه " استعواضا
أو مجازاة " والله سريع الحساب " لا يشغله حساب عن حساب. وفي قوله تعالى: "
وكأين من قرية ": أهل قرية " عتت عن أمر ربها ورسله " أعرضت عنه إعراض
العاتي المعاند " فحاسبناها حسابا شديدا
" بالاستقصاء والمناقشة، " وعذبناها عذابا نكرا " منكرا،
والمراد حساب الآخرة وعذابها، والتعبير بلفظ الماضي للتحقيق " فذاقت وبال أمرها
" عقوبة كفرها ومعاصيها " وكان عاقبة أمرها خسرا " لا ربح فيه أصلا.
وفي قوله تعالى: " إن إلينا إيابهم ":
أي رجوعهم. وقال الطبرسي في قوله تعالى: " ثم لتسئلن يومئذ
عن النعيم ": قال مقاتل: يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة فيسألون
يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه إذا لم يشكروا رب النعيم حيث عبدوا غيره وأشركوا
به، ثم يعذبون على ترك الشكر وهذا قول الحسن قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل
النار، وقال الاكثرون: إن المعنى: ثم لتسألن يا معاشر المكلفين عن النعيم، قال قتادة:
إن الله سائل كل ذي نعمة عما أنعم عليه، وقيل: عن النعيم في المأكل والمشرب وغيرهما
من الملاذ، عن سعيد بن جبير، وقيل: النعيم: الصحة والفراغ، عن عكرمة، وقيل: هو الامن
والصحة، عن ابن مسعود ومجاهد، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام،
وقيل: يسأل عن كل نعيم إلا ما خصه الحديث، وهو قوله عليه السلام:
ثلاثة لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها
عورته، أو كسرة يسد بها جوعته، أو بيت يكنه من الحر والبرد. وروي أن بعض الصحابة
أضاف النبي صلى الله عليه وآله مع جماعة من أصحابه فوجدوا عنده تمرا وماءا باردا
فأكلوا فلما خرجوا قال: هذا من النعيم الذي تسألون عنه. وروى العياشي بإسناده في حديث
طويل قال: سأل أبو حنيفة أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم
عندك يا نعمان ؟ قال: القوت من الطعام والماء البارد فقال: لئن أوقفك الله
بين يديه يوم القيامة حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك
بين يديه، قال: فما النعيم جعلت فداك ؟ قال: نحن أهل البيت النعيم الذي أنعم الله
بنا على العباد، وبنا ائتلفوا بعد ما كانوا مختلفين، وبنا ألف الله بين قلوبهم فجعلهم
إخوانا بعد أن كانوا أعداءا، وبنا هداهم الله للإسلام، وهو النعمة التي لا تنقطع،
والله سائلهم عن حق النعيم الذي أنعم به عليهم وهو النبي صلى الله عليه وآله وعترته
عليهم السلام.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 7 / صفحة [ 254 ]
تاريخ النشر : 2023-05-30