قال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى:
" تجري من تحتها " أي من تحت أشجارها ومساكنها
" الانهار " واستعمل الجري في النهر توسعا لأنه موضع الجري " كلما رزقوا منها
" أي من الجنات، والمعنى: من أشجارها " من ثمرة رزقا " أي اعطوا من
ثمارها عطاء، أو أطعموا منها طعاما، لان الرزق
عبارة عما يصح الانتفاع به ولا يكون لاحد المنع
منه " قالوا هذا الذي رزقنا من قبل " فيه وجوه: أحدها أن ثمار الجنة إذا
جنيت من أشجارها عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم
فيقولون: " هذا الذي رزقنا من قبل " عن أبي
عبيدة ويحيى بن أبي كثير.
وثانيها: أن معناه: هذا الذي رزقنا من قبل
في الدنيا، عن ابن عباس وابن مسعود. وقيل: هذا هو الذي
وعدنا به في الدنيا.
وثالثها: معناه: هذا
الذي رزقناه من قبل في الجنة، أي كالذي رزقنا وهم يعلمون أنه غيره، ولكنهم شبهوه
به في طعمه ولونه وريحه وطيبه وجودته، عن الحسن وواصل. قال لشيخ أبو جعفر رحمه
الله: وأقوى الاقوال قول ابن عباس لأنه تعالى قال: " كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا
" فعم ولم يخص، فأول ما اتوا به لا يتقدر فيه هذا القول إلا بأن يكون إشارة إلى
ما تقدم رزقه في الدنيا، ويكون التقدير: هذا مثل الذي رزقناه في الدنيا، لان ما رزقوا
في الدنيا فقد عدم، فأقام المضاف إليه مقام المضاف. " واتوا به متشابها
" فيه وجوه:
أحدها: أنه أراد مشتبها في اللون مختلفا
في الطعم.
وثانيها: أن كلها متشابه خيار
لا رذل فيه.
وثالثها: أنه يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر
الجنة أطيب. ورابعها: أنه يشبه بعضه بعضا في اللذة وجميع الصفات.
وخامسها: أن التشابه من حيث الموافقة، فالخادم
يوافق المسكن، والمسكن يوافق الفرش، وكذلك جميع ما يليق به " ولهم فيها أزواج
" من الحور العين، وقيل: من نساء الدنيا، قال الحسن: هن عجائزكم الغمص الرمص العمش
طهرن من قذرات الدنيا " مطهرة " قيل: في الابدان
والاخلاق والاعمال، فلا يحضن ولا يلدن ولا يتغوطن ولا
يبلن قد طهرن من الاقذار والآثام " وهم فيها " أي في الجنة " خالدون
" يعني دائمون يبقون ببقاء الله لا انقطاع لذلك
ولا نفاد لان النعمة تتم بالخلود والبقاء كما
تتنغص بالزوال والفناء. وفي قوله عزوجل: " وقالوا لن يدخل الجنة " هذا على الايجاز،
وتقديره: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل
الجنة إلا من كان نصرانيا " تلك أمانيهم " أي تلك المقالة أماني كاذبة يتمنونها
على الله، وقيل: أمانيهم: أباطيلهم، وقيل: أي تلك أقاويلهم وتلاوتهم، من قولهم:
تمنى أي تلا. " قل هاتوا " أي احضروا، أمر تعجيز وإنكار " برهانكم
" أي حجتكم " إن كنتم صادقين " في
هذا القول " بلى من أسلم وجهه لله " أي من أخلص نفسه لله
بأن سلك سبيل مرضاته، وقيل: وجه وجهه لطاعة الله، وقيل: فوض أمره إلى الله، وقيل:
استسلم لأمر الله وخضع وتواضع لله " وهو محسن " في عمله، وقيل: مؤمن، وقيل: مخلص
" فله أجره عند ربه " أي فله جزاء عمله عند الله " ولا خوف عليهم ولاهم
يحزنون " في الآخرة وهذا ظاهر على قول من
يقول: إنه لا يكون على أهل الجنة خوف ولا حزن في الآخرة
وأما على قول من قال: إن بعضهم يخاف ثم يأمن فمعناه أنهم لا يخافون فوت جزاء أعمالهم
لأنهم يكونون على ثقة بأن ذلك لا يفوتهم. وفي قوله عزوجل: " وسارعوا إلى مغفرة
من ربكم " أي إلى الاعمال التي توجب المغفرة " وجنة عرضها السماوات والارض
" اختلف في معناه على أقوال:
أحدها أن المعنى: عرضها كعرض السماوات والارضين
السبع إذا ضم بعضها إلى بعض، عن ابن عباس والحسن،
واختاره الجبائي والبلخي، وإنما ذكر العرض
بالعظم دون الطول لأنه يدل على أن الطول أعظم، وليس كذلك لو ذكر الطول.
وثانيها: أن معناه: ثمنها لو بيعت كثمن
السماوات والارض لو بيعتا، كما يقال: عرضت هذا
المتاع للبيع، والمراد بذلك عظم مقدارها وجلالة قدرها وأنه لا يساويها شئ وإن عظم،
عن أبي مسلم الاصفهاني. وهذا وجه مليح إلا أن فيه تعسفا.
وثالثها: أن عرضها لم يرد به العرض الذي
هو خلاف الطول، وإنما أراد سعتها وعظمها، والعرب
إذا وصفت الشيء بالسعة وصفته بالعرض. ويسأل فيقال: إذا كانت الجنة عرضها كعرض السماء
والارض فأين تكون النار ؟ فجوابه أنه روي أن النبي صلى الله عليه وآله سئل عن ذلك
فقال: " سبحان الله ! إذا جاء النهار فأين الليل ؟ " و هذه معارضة فيها إسقاط
المسألة، لان القادر على أن يذهب بالليل حيث يشاء قادر على أن يخلق النار حيث شاء.
ويسأل أيضا: إذا كانت الجنة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض ؟ والجواب أنه قيل:
إن الجنة فوق السماوات السبع تحت العرش عن أنس بن مالك. وقد قيل: إن الجنة فوق السماوات
السبع وإن النار تحت الارضين السبع، عن قتادة. وقيل: معنى قولهم: إن الجنة في السماء
أنها في ناحية السماء وجهة السماء لا أن السماء تحويها، ولا ينكر أن يخلق الله
في العلو أمثال السماوات والارضين، وإن صح الخبر أنها في السماء الرابعة كان كما
يقال: في الدار بستان لاتصاله بها وكونه في ناحية منها أو يشرع إليه بابها وإن كان
أضعاف الدار. وقيل: إن الله تعالى يزيد في عرضها يوم القيامة فيكون المراد: عرضها
السماوات والارض يوم القيامة لا في الحال، عن أبي بكر أحمد بن علي مع تسليمه أنها
في السماء " اعدت للمتقين " أي المطيعين لله ولرسوله باجتناب المقبحات وفعل الطاعات،
وهذا يدل على أن الجنة مخلوقة اليوم لأنها لا تكون معدة إلا وهي مخلوقة. أقول:
وقال الرازي في تفسير هذه الآية: وههنا سؤالات:
الاول: ما معنى أن عرضها مثل عرض
السماوات والارض ؟ فيه وجوه: الاول: أن المراد: لو جعلت السماوات والارضون طبقا طبقا
بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا يتجزى ثم وصل البعض بالبعض
طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذا غاية في السعة لا يعلمها إلا الله. الثاني
أن الجنة التي تكون عرضها مثل عرض السماوات والارض إنما يكون للرجل الواحد لان
الانسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له، فلابد وأن تكون الجنة المملوكة لكل واحد مقدار
هذا، ثم ذكر ما ذكر سابقا عن أبي مسلم ثم قال: الرابع
المقصود المبالغة في وصف سعة الجنة وذلك لأنه لا شئ عندنا أعرض منها، ونظيره
قوله تعالى: " خالدين فيها مادامت السموات والارض
" فإن أطول الاشياء بقاء عندنا هو السماوات والارض، فخوطبنا على وفق ما عرفناه
فكذا ههنا.
ثم قال: السؤال الثالث أنتم تقولون: إن
الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء ؟ والجواب من وجهين:
الاول: أن المراد من قولنا: إنها في السماء أنها
فوق السماوات وتحت العرش، قال عليه السلام في صفة الفردوس: " سقفها عرش الرحمن "
وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وآله فقال إنك تدعو إلى جنة عرضها السماوات
والارض اعدت للمتقين فأين النار ؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله: " سبحانه
الله ! فأين الليل إذا جاء النهار ؟ " المعنى - والله أعلم أنه إذا دار الفلك
حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذلك الجنة في جهة العلو
والنار في جهة السفل، وسئل أنس بن مالك عن الجنة: في الارض أم في السماء ؟ فقال
فأي أرض وسماء تسمع الجنة ؟ قيل: فأين هي ؟ قال: فوق السماوات السبع تحت العرش.
والثاني أن الذين يقولون الجنة والنار غير مخلوقتين الآن لا يبعد أن تكون الجنة
عندهم مخلوقة في مكان السماوات والنار في مكان الارض. وأما قوله: " اعدت للمتقين
" فظاهره يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن. وقال الطبرسي رحمه الله في قوله
تعالى: " نزلا من عند الله " النزل: ما يعد للضيف من الكرامة والبر والطعام والشراب
" وما عند الله " من الثواب والكرامة " خير للأبرار " مما ينقلب
فيه الذين كفروا لان ذلك عن قريب سيزول، وما عند الله
سبحانه دائم لا يزول.
وفي قوله تعالى: " وندخلهم
ظلا ظليلا " أي كنينا ليس فيه حر ولا برد بخلاف ظل الدنيا، وقيل: ظلا دائما لا تنسخه
الشمس كما في الدنيا، وقيل: ظلا متمكنا قويا كما يقال: يوم أيوم، وليل أليل،
وداهية دهياء، يصفون الشيء بمثل لفظه إذا أرادوا المبالغة. وقال النقير: النكتة
في ظهر النواة كأن ذلك نقر فيه.
وفي قوله تعالى: " لهم دار السلام
" أي للذين تذكروا وتدبروا وعرفوا الحق وتبعوه دار
السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة وبلية مما يلقاه أهل النار، وقيل: إن السلام هو الله
تعالى، وداره الجنة " عند ربهم " أي هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم إليها لا محالة،
كما يقول الرجل لغيره: لك عندي هذا المال، أي في ضماني. وقيل: معناه: لهم دار
السلام في الآخرة يعطيهم إياها " وهو وليهم " يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم
ودفع المضار عنهم، وقيل: " وليهم ": ناصرهم على أعدائهم، وقيل: يتولاهم في الدنيا
بالتوفيق، وفي الآخرة بالجزاء " بما كانوا يعملون " أي جزاء بما كانوا يعملونه
من الطاعات. وفي قوله تعالى: " لهم فيها نعيم مقيم " أي دائم لا يزول ولا ينقطع
" خالدين فهيا أبدا " أي دائمين فيها مع كون النعيم مقيما لهم " إن
الله عنده أجر " أي جزاء على العمل " عظيم
" أي كثير مضاعف لا تبلغه نعمة غيره من الخلق.
وفي قوله
سبحانه: " ومساكن طيبة " يطيب العيش فيها، بناها الله تعالى من اللآلئ والياقوت
الاحمر والزبرجد الاخضر لا أذى فيها ولا وصب ولا نصب عن الحسن " في جنات
عدن " أي في جنات إقامة وخلد وهي بطنان الجنة أي وسطها عن ابن مسعود. وقيل: هي مدينة
في الجنة فيها الرسل والانبياء والشهداء وأئمة الهدى والناس حولهم والجنان حولها،
عن الضحاك. وقيل: إن عدن أعلى درجة في الجنة وفيها عين التسنيم والجنان حولها
محدقة بها وهي مغطاة من يوم خلقها الله حتى ينزلها أهلها: الانبياء والصديقون والشهداء
والصالحون ومن شاء الله، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب، تهب ريح طيبة من تحت
العرش فيدخل عليهم كثبان المسك الابيض، عن مقاتل والكلبي. وروي أنه صلى الله
عليه وآله قال: " عدن دار الله التي لم ترها عين ولا يخطر على قلب بشر ولا يسكنها
غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء يقول
الله: طوبى لمن دخلك. " ورضوان من الله أكبر " رفع على الابتداء، أي ورضى
الله تعالى عنهم أكبر من ذلك كله، قال الجبائي:
إنما صار الرضوان أكبر من الثواب لأنه لا يوجد
منه شئ إلا بالرضوان وهو الداعي إليه الموجب له، وقال الحسن: لان ما يصل إلى القلب
من السرور برضوان الله أكبر من جميع ذلك " ذلك الفوز العظيم " أي ذلك النعيم الذي
وصفت هو النجاح العظيم الذي لا شئ أعظم منه. وفي قوله تعالى: " يهديهم ربهم بإيمانهم
" أي إلى الجنة " تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم " أي تجري بين أيديهم
وهم يرونها من علو، وقيل: معناه من تحت بساتينهم وأسرتهم وقصورهم، وقوله: " بإيمانهم
" يعني جزاء علي إيمانهم " دعويهم فيها " أي دعاء المؤمنين في الجنة وذكرهم
فيها أن يقولوا: " سبحانك اللهم يقولون ذلك لا على وجه العبادة، لأنه ليس هناك
تكليف، بل يلتذون بالتسبيح، وقيل: إنهم إذا مر بهم الطير في الهواء ويشتهونه قالوا:
" سبحانك اللهم " فيأتيهم الطير فيقع مشويا بين أيديهم، وإذا قضوا منه الشهوة
قالوا: " الحمد لله رب العالمين " فيطير الطير حيا كما كان، فيكون مفتتح كلامهم
في كل شئ التسبيح، ومختتم كلامهم التحميد، ويكون التسبيح في الجنة بدل التسمية
في الدنيا، عن ابن جريح " وتحيتهم فيها سلام " أي تحيتهم من الله سبحانه
في الجنة سلام، وقيل: معناه: تحية بعضهم لبعض فيها أو تحية الملائكة لهم فيها
سلام، يقولون: سلام عليكم أي سلمتم من الآفات والمكاره التي ابتلى بها أهل النار
" آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " أي يجعلون هذا آخر كلامهم في كل
ما ذكروه. وفي قوله سبحانه: " وأخبتوا
إلى ربهم " أي أنابوا وتضرعوا إليه، وقيل: أي اطمأنوا
إلى ذكره، وقيل خضعوا له وخشعوا إليه، والكل متقارب. وقال البيضاوي في قوله تعالى:
" ويدرؤون بالحسنة السيئة ": أي يدفعونها بها
فيجازون الاساءة بالإحسان، أو يتبعون الحسنة السيئة فتمحوها " اولئك لهم عقبى الدار
" عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أهلها وهي الجنة " جنات عدن
" بدل من عقبى الدار، أو مبتدأ خبره " يدخلونها
" والعدن : الاقامة، أي جنات يقيمون فيها، وقيل: هو بطنان الجنة " ومن صلح من
آبائهم وأزواجهم وذرياتهم " عطف على المرفوع في " يدخلونها
" وإنما ساغ للفصل بالضمير الآخر، أو مفعول معه، والمعنى أنه يلحق بهم من صلح
من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم وتعظيما لشأنهم، وهو دليل على أن الدرجة
تعلو بالشفاعة، أو أن الموصوفين بتلك الصفات مقترن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة
والوصلة في دخول الجنة زيادة في انسهم، وفي التقليد بالصلاح دلالة على أن مجرد
الانساب لا ينفع " والملائكة يدخلون عليهم من كل باب " من أبواب المنازل،
أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين: "
سلام عليكم " بشارة بدوام السلامة " بما صبرتم " متعلق
بعليكم أو بمحذوف، أي هذا بما صبرتم، لا بسلام فان الخبر فاصل، والباء للسببية
أو البدلية. وقال الطبرسي رحمه الله في قوله تعالى:
" طوبى لهم ": فيه أقوال:
أحدها: أن معناه فرح لهم وقرة عين، عن ابن
عباس.
الثاني: غبطة لهم، عن الضحاك.
الثالث: خير لهم وكرامة، عن إبراهيم النخعي،
الرابع: الجنة لهم، عن مجاهد.
الخامس: العيش الطيب لهم، عن الزجاج، أو
الحال المستطابة لهم، عن ابن الانباري، لأنه
فعلى من الطيب. وقيل: أطيب الاشياء لهم وهو الجنة، عن الجبائي. السادس: هنيئا بطيب
العيش لهم، السابع: حسنى لهم، عن قتادة، الثامن: نعم مالهم، عن عكرمة، التاسع: دوام
الخير لهم، العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي صلى الله عليه وآله
وفي دار كل مؤمن منها غصن، عن عبيد بن عمير ووهب وأبي هريرة وشهر بن حوشب رواه عن أبي
سعيد الخدري مرفوعا، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. وروي الثعلبي بإسناده
عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة،
وفي دار كل مؤمن منها غصن ورواه أبو بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام.
وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده
عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن طوبى،
قال: شجرة أصلها في داري وفرعها على أهل الجنة، ثم سئل عنها مرة اخرى فقال: في دار
علي، فقيل له في ذلك، فقال: إن داري ودار علي في الجنة بمكان واحد. " وحسن مآب
" أي ولهم حسن مرجع. وفي قوله تعالى: " اكلها دائم " يعني أن ثمارها
لا تنقطع كثمار الدنيا، وظلها لا يزول ولا تنسخه
الشمس عن الحسن، وقيل: معناه: نعيمها لا ينقطع
بموت ولا آفة عن ابن عباس، وقيل: لذتها في الافواه باقية، عن إبراهيم التيمي. "
وظلها " أيضا دائم لا يكون مرة شمسا ومرة ظلا كما يكون في الدنيا " تلك عقبى الذين
اتقوا " أي تلك الجنة عاقبة المتقين فالطريق إليها التقوى " وعقبى الكافرين النار
" أي عاقبة أمر الكافر النار. وفي قوله تعالى: " إن المتقين في جنات
" أي في بساتين خلقت لهم " وعيون " من
ماء وخمر وعسل تفور من الفوارة ثم تجري في مجاريها " ادخلوها
بسلام " أي يقال لهم: ادخلوا الجنات بسلامة من الآفات وبراءة من المكاره والمضرات
" آمنين " من الاخراج منها، ساكني النفس إلى انتفاء الضرر فيها " ونزعنا ما في
صدورهم من غل " أي وأزلنا عن صدور أهل الجنة ما فيها من أسباب العداوة من الغل
أي الحقد والحسد والتنافس والتباغض " إخوانا " منصوب على الحال، أي وهم يكونون إخوانا
متوادين، يريد مثل الاخوان فيصفو لذلك عيشهم " على سرر " أي كائنين على مجالس
السرر " متقابلين " متواجهين فينظر بعضهم إلى بعض، قال مجاهد: لا يرى الرجل من أهل
الجنة قفا زوجته ولا ترى زوجته قفاه لان الاسرة تدور بهم كيف ما شاءوا حتى يكونوا
متقابلين في عموم أحوالهم، وقيل: متقابلين في الزيارة إذا تزاوروا استوت مجالسهم
ومنازلهم، وإذا افترقوا كانت منازل بعضهم أرفع من بعض، " لا يسمهم فيها
" أي في الجنة " نصب " أي عناء
وتعب لأنهم لا يحتاجون إلى إتعاب أنفسهم لتحصيل مقاصدهم،
إذ جميع النعم حاصلة لهم " وماهم منها بمخرجين " أي يبقون فيها مؤبدين وفي
قوله تعالى: " تجري من تحتهم الانهار " لانهم على غرف في الجنة كما قال:
" وهم في الغرفات آمنون " وقيل: إن أنهار
الجنة تجري من غير أخاديد في الارض، فلذلك قال:
" من تحتهم " يحلون فيها من أساور من ذهب " أي يجعل لهم فيها حلي من
أساور، وقيل: إنه يحلى كل واحد بثلاثة أساور: سوار
من فضة، وسوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ وياقوت،
عن سعيد بن جبير " ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق " أي من الديباج الرقيق
والغليظ، وقيل: إن الاستبرق فارسي معرب أصله " إستبر " وقيل: هو الديباج المنسوج
بالذهب " متكئين فهيا على الارائك " متنعمين في تلك الجنان على السرر في الحجال،
وإنما قال: متكئين لان الاتكاء يفيد أنهم منعمون في الامن والراحة، فإن الانسان
لا يتكئ إلا في حال الامن والسلامة " نعم الثواب " أي طاب ثوابهم وعظم، عن ابن
عباس " وحسنت " الارائك " مرتفقا " أي موضع ارتفاق، وقيل: منزلا
ومجلسا ومجتمعا. وفي قوله تعالى: " كانت لهم
جنات الفردوس " أي كان في حكم الله وعلمه لهم بساتين
الفردوس وهو أطيب موضع في الجنة وأوسطها وأفضلها وأرفعها، عن قتادة، وقيل: هو الجنة
الملتفة الاشجار عن قتادة، وقيل: هو البستان الذي فيه الاعناب، عن كعب، وروى
عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله قال: الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين
كما بين السماء والارض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الاربعة،
فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس. " نزلا " أي منزلا ومأوى، وقيل: ذات نزل
" خالدين فيها " أي دائمين فيها " لا يبغون عنها حولا " أي لا
يطلبون عن تلك الجنات تحولا إلى موضع آخر لطيبها وحصول
مرادهم فيها.
وفي قوله جل وعلا: " ولا يظلمون شيئا
" أي ولا يبخسون شيئا من ثوابهم، بل يوفيه الله
عليهم على التمام والكمال " جنات عدن " أي إقامة، ووحد في الآية المتقدمة وجمع
ههنا لأنه جنة تشتمل على جنات، وقيل: لان لكل واحد من المؤمنين جنة تجمعها العظمى
" التي وعد الرحمن عباده بالغيب " المراد بالعباد المؤمنون، وقيل: يتناول الكافر
بشرط رجوعه عن كفره، وقال: " بالغيب " لأنهم غابوا عما فيها مما لا عين رأت ولا
اذن سمعت، عن ابن عباس. والمعنى أنه وعدهم أمرا لم يكونوا يشاهدونه فصدقوه وهو غائب
عنهم " إنه كان وعده " أي موعوده " مأتيا " أي آتيا لا محالة،
والمفعول ههنا بمعنى الفاعل، لان ما أتيته فقد أتاك، وقيل:
الموعود هو الجنة والجنة مأتية يأتيها المؤمنون
" لا يسمعون فهيا لغوا " أي قولا لا معنى له يستفاد، وقد يكون اللغو الهذر وما
يلقى من الكلام مثل الفحش والاباطيل " إلا سلاما " أي سلام الملائكة عليهم وسلام
بعضهم على بعض، وقال الزجاج: السلام اسم جامع لكل خير، لأنه يتضمن السلامة، أي يسمعون
ما يسلمهم " ولهم زرقهم فيها بكرة وعشيا " قال المفسرون: ليس في الجنة شمس
ولا قمر فيكون لهم بكرة وعشي، والمراد أنهم يؤتون رزقهم على ما يعرفونه من مقدار
الغداء والعشاء، وقيل: كانت العرب إذا أصاب أحدهم الغداء والعشاء أعجب به، وكانت
تكره الاكلة الواحدة في اليوم، فأخبر الله تعالى أن لهم في الجنة رزقهم بكرة وعشيا
على قدر ذلك الوقت، وليس ثم ليل وإنما هو ضوء ونور، عن قتادة، وقيل: إنهم يعرفون
مقدار الليل بإرخاء الحجب وفتح الابواب " تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان
تقيا " أي إنما نملك تلك الجنة من كان تقيا في دار الدنيا بترك المعاصي وفعل الطاعات،
وإنما قال: نورث لأنه شبه بالميراث من جهة أنه تمليك بحال استونفت عن حال قد انقضت
من أمر الدنيا كما ينقضي حال الميت من أمر الدنيا، وقيل: إنه تعالى أورثهم من الجنة
المساكن والمنازل التي كانت لأهل النار لو أطاعوا الله تعالى، وأضاف العباد
إلى نفسه لأنه أراد المؤمنين. وفي قوله سبحانه: " وذلك جزاء من تزكى
" أي تطهر بالإيمان والطاعة عن دنس الكفر والمعصية،
وقيل: " تزكى ": طلب الزكاء بإرادة الطاعة والعمل بها. وفي قوله تعالى:
" من أساور " هي حلي اليد " من
ذهب ولؤلؤ " أي ومن لؤلؤ، وقال البيضاوي: ولؤلؤ عطف على
أساور لا على ذهب، لأنه لم يعهد السوار منه إلا أن يراد به المرصعة به، ونصبه عاصم
ونافع عطفا على محلها، أو إضمار الناصب مثل ويؤتون " ولباسهم فيها حرير
" غير اسلوب الكلام فيه للدلالة على أن الحرير
ثيابهم المعتادة، أو للمحافظة على هيئة الفواصل.
وقال الطبرسي رحمه الله: " وهدوا إلى الطيب من القول " أي ارشدوا في الجنة إلى
التحيات الحسنة يحيي بعضهم بعضا ويحييهم الله وملائكته بها، وقيل: معناه: ارشدوا
إلى شهادة أن لا إله الا الله والحمد لله، عن ابن عباس، وزاد ابن زيد: والله أكبر،
وقيل: إلى القرآن، وقيل: إلى القول الذي يلتذونه ويشتهونه وتطيب به نفوسهم، وقيل:
إلى ذكر الله فهم به يتنعمون " وهدوا إلى صراط الحميد " والحميد: هو الله المستحق
للحمد المتحمد إلى عباده بنعمته، عن الحسن، أي الطالب منهم أن يحمدوه وصراط الحميد:
هو طريق الاسلام وطريق الجنة. وفي قوله سبحانه. " ورزق كريم " يعني نعيم الجنة
فإنه أكرم دار. وفي قوله تعالى: " اولئك هم الوارثون " أي يرثون منازل أهل النار
من الجنة، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان:
منزل في الجنة، ومنزل في النار، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله "
الذين يرثون الفردوس " هو اسم من أسماء الجنة، ولذلك انث فقال: " هم فيها
خالدون " وقيل: هو اسم لرياض الجنة، وقيل:
هي جنة مخصوصة، ثم اختلف في أصله فقيل: هو اسم رومي
فعرب، وقيل: هو عربي وزنه فعلول، وهو البستان الذي فيه كرم. وقال الجبائي: معنى
الوراثة هنا أن الجنة ونعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب كما يؤول المال إلى الوارث
من غير اكتساب. وفي قوله تعالى: " كان على ربك وعدا مسئولا " قال ابن عباس: معناه
أن الله سبحانه وعد لهم الجزاء فسألوه الوفاء فوفى،
وقيل: إن الملائكة سألوا الله ذلك لهم فأجيبوا
إلى مسألتهم، وذلك قولهم: " ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم " وقيل: إنهم
سألوا الله تعالى في الدنيا الجنة بالدعاء فأجابهم في الآخرة إلى ما سألوا.
وفي وقوله تعالى: " اولئك يجزون الغرفة
" أي يثابون الدرجة الرفيعة في الجنة " بما صبروا
" على أمر ربهم وطاعة نبيهم، وقيل: هي غرف الزبرجد والدر والياقوت. والغرفة في الاصل:
بناء فوق بناء، وقيل: الغرفة اسم لأعلى منازل الجنة وأفضلها، كما أنها في الدنيا
أعلى المساكن " ويلقون فيها تحية وسلاما " أي تتلقاهم الملائكة فهيا بالتحية وهي
كل قول يسر به الانسان وبالسلام بشارة لهم بعظيم الثواب، وقيل: التحية الملك العظيم،
والسلام جميع أنواع السلامة، وقيل: التحية: البقاء الدائم، وقال الكلبي: يحيي
بعضهم بعضا بالسلام ويرسل إليهم الرب بالسلام. وفي قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفى
لهم من قرة أعين " أي لا يعلم أحد ما خبي لهؤلاء الذين ذكروا مما تقر به أعينهم،
قال ابن عباس: هذا مالا تفسير له فالأمر أعظم وأجل مما يعرف تفسيره. وقد ورد
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال إن الله يقول أعددت لعبادي الصالحين،
مالا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بل ما أطلعتكم عليه،
اقرؤوا إن شئتم: " فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين ". رواه البخاري ومسلم
جميعا. وقد قيل في فائدة الاخفاء وجوه: أحدها: أن الشيء إذا عظم خطره وجل قدره لا تستدرك
صفاته على كنه الا بشرح طويل ومع ذلك فيكون إبهامه أبلغ.
وثانيها: أن قرارات العيون غير متناهية
فلا يمكن العلم بتفاصيلها. وثالثها: أنه جعل ذلك
في مقابلة صلاة الليل وهي خفية فكذلك ما بإزائها من جزائها، ويؤيد ذلك ما روي عن أبي
عبد الله عليه السلام أنه قال: ما من حسنة إلا ولها ثواب مبين في القرآن إلا صلاة
الليل، فإن الله عز اسمه لم يبين ثوابها لعظم خطرها " فلا تعلم نفس " الآية. وقرة
العين: رؤية ما تقر به العين، يقال: أقر الله عينك، أي صادف فؤادك ما يرضيك فتقر
عينك حتى لا تطمح بالنظر إلى ما فوقه، وقيل: هي من القر أي البرد، لان المستبشر
الضاحك يخرج من شؤون عينيه دمع بارد، والمحزون المهموم يخرج من عينيه دمع حار.
قوله تعالى: " نزلا بما كانوا يعملون
" أي عطاء بما كانوا يعملون، وقيل: ينزلهم
الله فيها نزلا كما ينزل الضيف، يعني أنهم في حكم الاضياف.
وفي قوله تعالى: "
تحيتهم يوم يلقونه سلام " أي يحيي بعضهم بعضا يوم يلقون ثواب الله بأن يقولوا: السلامة
لكم من جميع الآفات، ولقاء الله سبحانه معناه: لقاء ثوابه. وروي عن البراء بن عازب
أنه قال: يوم يلقون ملك الموت لا يقبض روح مؤمن إلا سلم عليه. فعلى هذا يكون
المعنى: تحية المؤمن من ملك الموت يوم يلقونه أن يسلم عليهم، وملك الموت مذكور في الملائكة
" وأعد لهم أجرا كريما " أي ثوابا جزيلا. وفي قوله تعالى: " فأولئك
لهم جزاء الضعف " أي يضاعف الله حسناتهم
فيجزي بالحسنة الواحدة عشرا إلى ما زاد، والضعف اسم
الجنس يدل على القليل والكثير. وفي قوله سبحانه: " وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا
الحزن " أخبر سبحانه عن حالهم أنهم إذا دخلوها يقولون: الحمد لله اعترافا منهم بنعمته،
لا على وجه التكليف وشكرا له على أن أذهب الغم الذي كانوا عليه في دار الدنيا
عنهم، وقيل: يعنون الحزن الذي أصابهم قبل دخول الجنة، لانهم كانوا يخافون دخول
النار إذا كانوا مستحقين لذلك، فإذا تفضل الله عليهم بإسقاط عقابهم وأدخلهم الجنة
حمدوه على ذلك وشكروه " إن ربنا لغفور " لذنوب عباده " شكور "
يقبل اليسير من محاسن أعمالهم، وقيل: إن شكره سبحانه هو
مكافاته لهم على الشكر له والقيام بطاعته " الذي أحلنا
دار المقامة " أي أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون ولا يتحولون عنها
" من فضله " أي ذلك بتفضله وكرمه " لا يمسنا فيها نصب " أي لا
يصيبنا في الجنة عناء ومشقة " ولا يمسنا فيها لغوب
" أي أعياء ومتعبة في طلب المعاش.
وفي قوله تعالى:
" إن أصحاب الجنة اليوم في شغل " شغلهم النعيم الذي شملهم وغمرهم بسروره
عما فيه أهل النار من العذاب، عن الحسن والكلبي،
فلا يذكرونهم ولا يهتمون بهم وإن كانوا أقاربهم،
وقيل: شغلوا بافتضاض العذاري، عن ابن عباس وابن مسعود، وهو المروي عن الصادق
عليه السلام، قال: وحواجبهن كالأهلة وأشفار أعينهن كقوادم النسور. وقيل: باستماع
الالحان، عن وكيع، وقيل: شغلهم في الجنة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء: فثواب
الرجل بقوله: " ادخلوها بسلام آمنين " وثواب اليد: " يتنازعون فيها
كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم " وثواب الفرج:
" وحور عين " وثواب الفم: " كلوا واشربوا هنيئا "
الآية، وثواب اللسان: " وآخر دعواهم " الآية، وثواب الاذن: " لا يسمعون
فيها لغوا " ونظائرها، وثواب العين: " وتلذ
الاعين ". " فاكهون " أي فرحون، عن ابن عباس، وقيل:
ناعمون معجبون بماهم فيه، قال أبو زيد: الفكه: الطيب النفس الضحوك، رجل فكه وفاكه،
ولم يسمع لهذا فعل في الثلاثي. وقال أبو مسلم: إنه مأخوذ عن الفكاهة فهو كناية
عن الأحاديث الطيبة. وقيل: فاكهون: ذوو فاكهة، كما يقال: لاحم شاحم، أي ذو لحم وشحم،
وعاسل ذو عسل " هم وأزواجهم في ظلال " أي هم وحلائلهم في الدنيا ممن وافقهم على
إيمانهم في أستار عن وهج النار وسمومها، فهم في مثل تلك الحال الطيبة من الظلال التي
لا حر فيها ولا برد، وقيل: أزواجهم التي زوجهم الله تعالى من الحور العين في ظلال
أشجار الجنة، وقيل في ظلال تسترهم من نظر العيون إليهم " على الارائك " وهي السرر
عليها الحجال، وقيل هي الوسائد " متكئون " أي جالسون جلوس الملوك، إذ ليس
لهم من الاعمال شئ، قال الازهري: كل ما اتكئ
عليه فهو أريكة " لهم فيها " أي في الجنة " فاكهة
ولهم ما يدعون " أي ما يتمنون ويشتهون، قال أبو عبيدة: تقول العرب: ادع علي ما شئت،
أي تمن علي، وقيل: معناه أن كل من يدعي شيئا فهو له بحكم
الله تعالى، لأنه قد هذب طباعهم فلا يدعون إلا ما يحسن منهم، قال الزجاج: هو مأخوذ
من الدعاء، يعني أن أهل الجنة كل ما يدعونه يأتيهم " سلام " أي لهم سلام، ومنى
أهل الجنة أن يسلم الله عليهم " قولا " أي يقوله الله قولا " من رب
رحيم " بهم يسمعونه من الله فيؤذنهم بدوام الامن والسلامة
مع سبوغ النعمة والكرامة، وقيل: إن الملائكة تدخل عليهم من كل باب يقولون:
سلام عليكم من ربكم الرحيم.
وفي قوله تعالى: "
اولئك لهم رزق معلوم " جعل لهم التصرف فيه وحكم لهم به في الاوقات المستأنفة في كل وقت
شيئا معلوما مقدرا " فواكه " هي جمع فاكهة يقع على الرطب واليابس من الثمار، كلها
يتفكهون بها ويتنعمون بالتصرف فيها " وهم مكرمون " مع ذلك أي معظمون مبجلون
" في جنات النعيم " أي وهم مع ذلك في
بساتين فيها أنواع النعيم " على سرر متقابلين " يستمتع
بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض، ولا يرى بعضهم قفا بعض " يطاف عليهم بكأس " وهو الاناء
بما فيه من الشراب " من معين " أي من خمر جارية في أنهار ظاهرة العيون، وقيل:
شديدة الجري. ثم وصف الخمر فقال: " بيضاء " وصفها بالبياض لأنها في نهاية الرقة
مع الصفاء واللطافة النورية التي لها، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن،
وذكر أن قراءة ابن مسعود " صفراء " فيحتمل أن يكون بيضاء الكأس صفراء اللون "
لذة " أي لذيذة للشاربين ليس فيها ما يعتري خمر الدنيا من المرارة والكراهة
" لا فيها غول " أي لا يغتال عقولهم فيذهب
بها ولا يصيبهم منها وجع في البطن ولا في الرأس،
ويقال للوجع غول لأنه يؤدي إلى الهلاك " ولاهم عنها ينزفون " قرأ أهل الكوفة غير
عاصم " ينزفون " بكسر الزاي، والباقون بفتحها، وكذلك في سورة الواقعة إلا
عاصم، فإنه قرأ ههنا بفتح الزاي، وهناك بكسرها،
قال أبو علي: يكون أنزف على معنيين: أحدهما بمعنى سكر، والآخر بمعنى أنفد شرابه، فمن
قرأ " ينزفون " يجوز أن يريد: لا يسكرون عند
شربها، ويجوز أن يريد: لا ينفد ذلك عندهم كما ينفد شراب أهل الدنيا، ومن قرأ بالفتح
فهو من نزف الرجل فهو منزوف ونزيف: إذا ذهب عقله بالسكر. قال ابن عباس: معناه ولا
يبولون، قال: وفي الخمر أربع خصال: السكر، والصداع، والقيء، والبول، فنزه الله سبحانه
خمر الجنة عن هذه الخصال. " وعندهم قاصرات الطرف " قصرن طرفهن على أزواجهن فلا
يردن غيرهن لحبهن إياهم، وقيل: معناه لا يفتحن أعينهن دلالا وغنجا " عين
" أي واسعات العيون، والواحدة عيناء وقيل: هي
الشديدة بياض العين الشديدة سوادها، عن الحسن
" كأنهن بيض مكنون " شبههن ببيض النعام يكنه بالريش من الريح والغبار، عن الحسن
وابن زيد، وقيل شبههن ببطن البيض قبل أن يقشر وقبل أن تمسه الايدي، والمكنون: المصون
" فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " يعني أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم
من حيث بعثوا إلى أن ادخلوا الجنة، فيخبر كل صاحبه بإنعام الله عليه " قال قائل
منهم " أي من أهل الجنة " إني كان لي قرين " في الدنيا، أي صاحب يختص
بي إما من الانس على قول ابن عباس أو من الشياطين
على قول مجاهد " يقول " لي على وجه الانكار
علي والتهجين لفعلي " أءنك لمن المصدقين " بيوم الدين وبالبعث والنشور والحساب
والجزاء " أءذا متنا وكنا ترابا وعظاما أءنا لمدينون " أي مجزيون محاسبون
" قال هل أنتم مطلون " أي ثم قال هذا
المؤمن لإخوانه في الجنة هل أنتم مطلعون على موضع
من الجنة يرى منه هذا القرين ؟ يقال: اطلع إلى كذا: إذا أشرف عليه، والمعنى هل تؤثرون
إن تروا مكان هذا القرين في النار ؟ وفي الكلام حذف: أي فيقولون له: نعم اطلع
أنت فأنت أعرف بصاحبك، قال الكلبي: وذلك لان الله تعالى جعل لأهل الجنة كوة ينظرون
منها إلى أهل النار " فاطلع فرآه في سواء الجحيم " أي فاطلع هذا المؤمن فرأى قرينه
في وسط النار " قال " أي فقال له المؤمن " تالله إن كدت لتردين
" (إن) مخففه من الثقيلة، اقسم بالله سبحانه على وجه
التعجب إنك كدت تهلكني بما قلته لي ودعوتني إليه
حتى يكون هلاكي كهلاك المتردي من شاهق " ولولا نعمة ربي " علي بالعصمة واللطف والهداية
حتى آمنت " لكنت من المحضرين " معك في النار، ولا يستعمل أحضر مطلقا إلا في الشر،
قال قتادة: فوالله لولا أن الله عرفه إياه لما كان يعرفه لقد تغير حبره وسبره،
أي حسنه وسيماؤه " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الاولى وما نحن بمعذبين "
أي يقول المؤمن لهذا
القرين على وجه التقريع: ألست كنت تقول في الدنيا: إنا لا نموت إلا الموتة التي
تكون في الدنيا ولا نعذب ؟ فقد ظهر الامر بخلاف ذلك، وقيل: إن هذا من قول أهل الجنة
بعضهم لبعض على وجه إظهار السرور بدوام نعيم الجنة، ولهذا عقبه بقوله: " إن هذا
لهو الفوز العظيم " معناه: أفما نحن بميتين في هذه الجنة إلا موتتنا التي كانت في الدنيا
وما نحن بمعذبين كما وعدنا الله تعالى ؟ ويريدون التحقيق لا الشك، قالوه سرورا
وفرحا، كقوله: أبطحاء مكة هذا الذي * أراه عيانا وهذا أنا ؟ " لمثل هذا فليعمل
العاملون " هذا من تمام الحكاية عن قول أهل الجنة، وقيل: إن هذا من قول الله سبحانه.
وفي قوله تعالى: وإن للمتقين لحسن مآب
" أي حسن مرجع ومنقلب يرجعون في الآخرة
إلى ثواب الله ومرضاته، ثم فسر حسن المآب بقوله: " جنات عدن " فهي في موضع جر على
البدل، أي جنات إقامة وخلود " مفتحة لهم الابواب " أي يجدرون أبوابها مفتوحة
حين يردونها، ولا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتى تفتح لهم، وقيل: أي لا يحتاجون
إلى مفاتيح بل تنفتح بغير مفتاح وتنغلق بغير مغلاق، وقال الحسن يكلم يقال: انفتحي
انغلقي، وقيل: معناه أنها معدة لهم غير ممنوعين منها، وإن لم تكن أبوابها مفتوحة
لهم قبل مصيرهم، كما يقول الرجل لغيره: متى نشطت لزيارتي فالباب مفتوح، والدست
مطروح " متكئين فيها " أي مسندين فيها إلى المساند جالسين جلسة الملوك
" يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب " أي
يحكمون في ثمارها وشرابها، فإذا قالوا لشيء منها:
أقبل حصل عندهم " وعندهم قاصرات الطرف " أي أزواج قصرن طرفهن على أزواجهن، راضيات
بهم، مالهن في غيرهم رغبة والقاصر: نقيض الماد، يقال: فلان قاصر طرفه عن فلان
وماد عينه إلى فلان " أتراب " أي أقران على سن واحد ليس فيهن عجائز ولا هرمة، وقيل:
أمثال وأشباه، عن مجاهد، أي متساويات في الحسن ومقدار الشباب، لا يكون
لواحدة على صاحبتها فضل في ذلك، وقيل: أتراب
على مقدار سن الازواج كل واحدة منهن ترب زوجها ولا تكون أكبر منه، قال الفراء:
الترب: اللدة، مأخوذ من اللعب بالتراب، ولا يقال: إلا في الاناث. " هذا ما توعدون
" أي ما يوعد به المتقون، أو يخاطبون فيقال لهم هذا القول " ليوم الحساب
" أي ليوم الجزاء " إن هذا لرزقنا
" اي عطاؤنا المتصل " ماله من نفاد " أي فناء وانقطاع
لأنه على سبيل الدوام، عن قتادة، وقيل: إنه ليس لشيء في الجنة نفاد، ما اكل من ثمارها
خلف مكانه مثله، وما اكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حيا، عن ابن عباس.
وفي قوله تعالى: " لهم غرف "
أي قصور في الجنة " من فوقها غرف " قصور مبنية، وهذا في مقابلة
قوله: " لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " فإن في الجنة منازل رفيعة
بعضها فوق بعض، وذلك أن النظر من الغرف إلى الخضر والمياه أشهى وألذ " وعد الله
" أي وعدهم الله تلك الغرف والمنازل وعدا. وفي قوله تعالى: " وقهم السيئات
" أي عذاب السيئات، ويجوز أن يكون العذاب
هو السيئات، وسماه السيئات اتساعا كما قال: "
وجزاء سيئة سيئة مثلها ". وفي قوله: " يرزقون فيها بغير حساب " أي زيادة
على ما يستحقونه تفضلا منه تعالى، ولو كان على
مقدار العمل فقط لكان بحساب، وقيل: معناه: لا تبعة
عليهم فيما يعطون من الخير في الجنة. وفي قوله تعالى: " ولكم فيها " أي في الآخرة
" ما تشتهي أنفسكم " من الملاذ وتتمنونه من المنافع " ولكم فيها ما
تدعون " إنه لكم فإنه سبحانه يحكم لكم بذلك، وقيل:
إن المراد بقوله: " ما تشتهي أنفسكم " البقاء
لأنهم كانوا يشتهون البقاء في الدنيا، أي لكم فيها ما كنتم تشتهونه من البقاء
ولكم فيها ما كنتم تتمنونه من النعيم " نزلا من غفور رحيم " معناه أن هذا الموعود
به مع جلالته في نفسه له جلالة بمعطيه إذ هو عطاء لكم ورزق مجرى عليكم ممن يغفر
الذنوب ويستر العيوب رحمة منه لعباده فهو أهنأ لكم وأكمل لسروركم.
وفي قوله تعالى: " الذين آمنوا بآياتنا
" أي صدقوا بحججنا ودلائلنا واتبعوها " وكانوا
مسلمين " أي مستسلمين لأمرنا خاضعين منقادين، ثم بين سبحانه ما يقال لهم بقوله:
" ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم " اللاتي كن مؤمنات مثلكم، وقيل: أزواجكم من الحور
العين في الجنة " تحبرون " أي تسرون وتكرمون " يطاف عليهم بصحاف
" أي بقصاع من ذهب فيها ألوان الاطعمة " وأكواب
" أي كيزان لا عرى لها، وقيل: بآنية مستديرة الرأس،
اكتفى سبحانه بذكر الصحاف والاكواب عن ذكر الطعام والشراب " وفيها ما تشتهيه الانفس
" من أنواع النعيم المشروبة والمطعومة والملبوسة والمشمومة وغيرها " وتلذ الاعين
" بالنظر إليه، قد جمع الله سبحانه بذلك مالو اجتمع الخلائق كلهم على أن يصفوا
ما في الجنة من أنواع النعيم لم يزيدوا على ما انتظمته هاتان اللفظتان.
وفي قوله
تعالى: " في مقام أمين " أمنوا فيه الغير من الموت والحوادث، وقيل: أمنوا
من الشيطان والاحزان " يلبسون من سندس
وإستبرق " قيل: السندس: ما يلبسونه والاستبرق: ما يفترشونه
" متقابلين " في المجالس، وقيل متقابلين بالمحبة لا متدابرين بالبغضة
" كذلك " حال أهل الجنة " وزوجناهم
بحور عين " قال الاخفش: المراد به التزويج المعروف،
وقال غيره: لا يكون في الجنة تزويج، والمعنى: وقرناهم بحور عين " يدعون فيها
بكل فاكهة آمنين " أي يستدعون فيها بأي ثمرة شاءوا واشتهوه غير خائفين فوتها، آمنين
من نفادها ومضرتها، وقيل: آمنين من التخم والاسقام والاوجاع " لا يذوقون فيها الموت
" شبه الموت بالطعام الذي يذاق ويتكره عند المذاق، ثم نفى ذلك أن يكون في الجنة،
وإنما خصهم بأنهم لا يذوقون الموت مع أن جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت لما
في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنة، فأما من يكون فيما هو كالموت في الشدة
فإنه لا يطلق له هذه الصفة، لأنه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة "
إلا الموتة الاولى " قيل: معناه: بعد الموتة الاولى، وقيل: معناه: لكن الموتة الاولى
قد ذاقوها، وقيل: سوى الموتة الاولى " ووقاهم عذاب الجحيم " أي فصرف عنهم عذاب
النار، استدلت المعتزلة بهذا على أن الفاسق الملي لا يخرج من النار لأنه لا يكون
قد وقي النار، والجواب عن ذلك أن هذه الآية يجوز أن تكون مختصة
بمن لا يستحق دخول النار فلا يدخلها، أو بمن استحق فيفضل عليه بالعفو فلا يدخلها،
ويجوز أن يكون المراد: وقاهم عذاب الجحيم على وجه التأييد، أو على الوجه الذي
يعذب عليه الكفار " فضلا من ربك " أي فعل الله ذلك بهم تفضلا منه، لأنه سبحانه خلقهم
وأنعم عليهم، وركب فيهم العقل وكلفهم، وبين لهم من الآيات ما استدلوا به على وحدانية
الله تعالى وحسن الطاعات فاستحقوا به النعم العظيمة، ثم جزاهم بالحسنة عشر أمثالها
فكان ذلك فضلا منه عز اسمه، وقيل: إنما سماه فضلا وإن كان مستحقا لان سبب الاستحقاق
هو التكليف والتمكين، وهو فضل منه تعالى " ذلك هو الفوز العظيم " أي الظفر
بالمطلوب العظيم الشأن. وفي قوله تعالى: " عرفها لهم " أي بينها لهم أي بينها لهم
حتى عرفوها إذا دخلوها، وتفرقوا إلى منازلهم وكانوا أعرف بها من أهل الجمعة إذا انصرفوا
إلى منازلهم، عن ابن جبير وأبي سعيد الخدري وقتادة ومجاهد وابن زيد، وقيل: معناه:
بينها لهم وأعلمهم بوصفها على ما يشوق إليها فيرغبون فهيا ويسعون لها، عن الجبائي،
وقيل: معناه: طيبها لهم، عن ابن عباس في رواية عطاء، من العرف وهو الرائحة الطيبة،
يقال: طعام معرف أي مطيب. وفي قوله جل وعلا: " من ماء غير آسن " أي غير متغير
لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا " وأنهار من لبن لم يتغير طعمه " فهو
غير حامض ولا قارص ولا يعتريه شئ من العوارض
التي تصيب الالبان في الدنيا " وأنهار من خمر
لذة للشاربين " أي لذيدة يلتذون بشربها ولا يتأذون بها ولا بعاقبتها، بخلاف خمر
الدنيا التي لا تخلو من المرارة والسكر والصداع " وأنهار من عسل مصفى " أي
خالص من الشمع والرغوة والقذى ومن جميع الاذى
والعيوب التي تكون لعسل الدنيا " ولهم فيها
من كل الثمرات " مما يعرفون اسمها ومما لا يعرفون، مبرأة من كل مكروه يكون لثمرات
الدنيا " ومغفرة من ربهم " أي ولهم مع هذا مغفرة من ربهم وهو أنه يستر ذنوبهم
وينسيهم إساءتهم حتى لا يتنغص عليهم نعيم الجنة. وفي قوله سبحانه: " وازلفت الجنة للمتقين
" أي قربت الجنة وادنيت للذين اتقوا الشرك والمعاصي
حتى يروا ما فيها من النعيم " غير بعيد " أي هي قريبة منهم لا يلحقهم ضرر ولا
مشقة في الوصول إليها، وقيل: معناه: ليس ببعيد مجيء ذلك فإن كل آت قريب " هذا
ما توعدون " أي ما وعدتم به من الثواب
على ألسنة الرسل " لكل أواب " أي تواب رجاع إلى الطاعة،
وقيل: لكل مسبح، عن ابن عباس وعطاء " حفيظ " لما أمر الله به، متحفظ عن الخروج
إلى مالا يجوز من سيئة تدنسه أو خطيئة تحط منه وتشينه " من خشي الرحمن بالغيب
" أي من خاف الله وأطاعه وآمن بثوابه وعقابه ولم يره، وقيل: أي في الخلوة بحيث
لا يراه أحد " وجاء بقلب منيب " أي داوم على ذلك حتى وافى الآخرة بقلب مقبل على
طاعة الله راجع إلى الله بضمائره " ادخلوها بسلام " أي يقال لهم: ادخلوا
الجنة بأمان من كل مكروه، وسلامة من كل آفة، وقيل:
بسلام من الله وملائكته عليهم " ذلك يوم
الخلود " الوقت الذي يبقون فيه في النعيم مؤبدين لا إلى غاية " لهم ما يشاؤون فيها
" أي ما تشتهيه أنفسهم من أنواع النعم " ولدينا مزيد " أي وعندنا زيادة
على ما يشاؤونه مما لم يخطر ببالهم ولم تبلغه أمانيهم،
وقيل: هو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم. وقال البيضاوي
في قوله تعالى: " وفي السماء رزقكم ":أي أسباب رزقكم أو تقديره، وقيل: المراد
بالسماء: السحاب، وبالرزق: المطر، فإنه سبب الاقوات
" وما توعدون " من الثواب، لان الجنة فوق السماء السابعة، أو لان الاعمال
وثوابها مكتوبة مقدرة في السماء، وقيل: إنه مستأنف، خبره: " فورب السماء والارض
إنه لحق ". وقال الطبرسي رحمه الله في
قوله عزوجل: " فاكهين بما آتاهم ربهم " أي متنعمين
بما أعطاهم ربهم من أنواع النعيم، وقيل: أي معجبين بما آتاهم ربهم " كلوا واشربوا
" أي يقال لهم ذلك " هنيئا " أي مأمون العاقبة من التخمة والسقم
" متكئين على سرر مصفوفة " المصفوفة: المصطفة
الموصول بعضها ببعض، وقيل: إن في الكلام حذفا تقديره:
متكئين على نمارق موضوعة على سرر، لكنه حذف لان اللفظ يدل عليه من حيث
إن الاتكاء جلسة راحة ودعة، ولا يكون ذلك إلا على الوسائد والنمارق " وزوجناهم
بحور عين " فالحور البيض النقيات البياض في حسن وكمال، والعين: الواسعات الاعين
في صفاء وبهاء ومعناه: قرنا هؤلاء المتقين بحور عين على وجه التمتيع لهم والتنعيم،
وعن زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
فقال: يا أبا القاسم تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون ؟ فقال: والذي نفسي بيده
إن الرجل منهم ليؤتى قوة مائة رجل على الاكل والشرب والجماع، قال: فإن الذي يأكل
ويشرب يكون له الحاجة ! فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك فإذا كان ذلك ضمر له بطنه
" وأمددناهم بفاكهة " أي أعطيناهم حالا بعد حال فإن الامداد هو الاتيان بالشيء بعد
الشيء يتنازعون فيها كأسا " أي يتعاطون كأس الخمر هم وجلساؤهم بتجاذب " لا
لغو فيها ولا تأثيم " أي لا يجري بينهم
باطل لان اللغو ما يلغى، ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا
من شرب الخمر، والتأثيم تفعيل من الاثم يقال: أثمه: إذا جعله ذا إثم، يعني
أن تلك الكأس لا تجعلهم آثمين، وقيل: معناه: لا يتسابون عليها ولا يؤثم بعضهم بعضا
" ويطوف عليهم " للخدمة " غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون " في الحسن
والصباحة والصفاء والبياض. والمكنون: المصون المخزون،
وقيل: إنه ليس على الغلمان مشقة في خدمة أهل الجنة، بل لهم في ذلك اللذة والسرور،
إذ ليست تلك الدار دار محنة، وذكر عن الحسن
أنه قال: قيل: يارسول الله الخادم كاللؤلؤ فكيف المخدوم ؟ فقال: والذي نفسي بيده
إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب " وأقبل بعضهم
على بعض يتساءلون " أي يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا، عن ابن
عباس، وهو قوله: " قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين " أي خائفين في دار الدنيا
من العذاب " فمن الله علينا " بالمغفرة " ووقينا عذاب السموم
" أي عذاب جهنم، والسموم من أسماء جهنم، عن الحسن،
وقيل: إن المعني: يسأل بعضهم بعضا عما فعلوه
في الدنيا فاستحقوا به المصير إلى الثواب والكون في الجنان فيقولون: إنا كنا في دار
التكليف مشفقين أي خائفين رقيقي القلب، والسموم: الحر الذي يدخل في مسام البدن
يتألم به، وأصله من السم الذي هو مخرج النفس، وكل خرق سم، أو من السم الذي
يقتل، قال الزجاج: يريد عذاب سموم جهنم وهو
ما يوجد من لفحها وحرها " إنا كنا من قبل " أي في الدنيا " ندعوه
" أي ندعو الله ونوحده ونعبده " إنه هو البر
" أي اللطيف، وقيل: الصادق فيما وعده " الرحيم " بعباده.
وفي قوله تعالى: " إن المتقين في جنات ونهر " أي أنهار، لأنه اسم جنس يقع على
القليل والكثير، والنهر هو المجري الواسع من مجاري الماء " في مقعد صدق
" أي مجلس حق لا لغو فيه ولا تأثيم، وقيل: وصفه
بالصدق لكونه رفيعا مرضيا، وقيل: لدوام النعيم
به، وقيل: لان الله صدق وعد أوليائه فيه " عند مليك مقتدر " أي عند الله سبحانه،
فهو المالك القادر الذي لا يعجزه شئ، وليس المراد قرب المكان، بل إنهم في كنفه
وجواره وكفايته حيث تنالهم غواشي رحمته وفضله. وقال البيضاوي في قوله تعالى:
" ولمن خاف مقام ربه " أي موقفه الذي
يقف فيه العباد للحساب، أو قيامه على أحواله، من قام
عليه: إذا راقبه، أو مقام الخائف عند ربه للحساب بأحد المعنيين، فأضاف إلى الرب تفخيما
وتهويلا " جنتان " جنة للخائف الانسي، وجنة للخائف الجني، فإن الخطاب للفريقين،
والمعنى: لكل خائفين منكما أو لكل واحد جنة لعقيدته، واخرى لعمله، أو جنة لفعل
الطاعات واخرى لترك المعاصي، أو جنة يثاب بها، واخرى يتفضل بها عليه، أو روحانية
وجسمانية، وكذا ما جاء مثنى بعد. وقال الطبرسي رحمه الله: أي جنة عدن، وجنة
النعيم، وقيل: بستانان: إحديهما داخل القصر، والاخرى خارج القصر، كما يشتهي الانسان
في الدنيا، وقيل: إحدى الجنتين منزله، والاخرى منزل أزواجه وخدمه، وقيل: جنة
من ذهب وجنة من فضة. وقال البيضاوي " ذواتا أفنان ": أنواع من الاشجار والثمار، جمع
فن، أو أغصان جمع فنن، وهي الغصنة التي تنشعب من فرع الشجر، وتخصيصها بالذكر لأنها
التي تورق وتثمر وتمد الظل " فيهما عينان تجريان " حيث شاءوا في الأعالي والاسافل، وقيل: إحداهما التسنيم، والاخرى السلسبيل " فيهما من كل فاكهة
زوجان " صنفان: غريب ومعروف، أو رطب ويابس. وقال
الطبرسي " بطائنها من إستبرق ": أي من ديباج
غليظ، ولم يذكر الظهارة لان البطانة تدل على أن الظهارة فوق الاستبرق، وقيل: إن الظهارة
من سندس وهو الديباج الرقيق، وروي عن ابن مسعود أنه قال: هذه البطائن فما
ظنكم بالظهائر ؟ وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظهائر ؟ قال: هذا مما
قال الله: " فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين " " وجنا الجنتين
دان " الجنى: الثمر المجتنى، أي تدنو الثمرة حتى
يجنيها ولي الله إن شاء قائما وإن شاء قاعدا،
عن ابن عباس، وقيل: ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها فيتناولونها متكئين،
فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم فيتناولونها مضطجعين، لا يرد أيديهم عنها بعد
ولا شوك، عن مجاهد " فيهن " أي في الفرش التي ذكرها، أو في الجنان لأنها
معلومة " قاصرات الطرف " على أزواجهن،
قال أبو ذر (ابن زيد خ ل): إنها تقول لزوجها: وعزة ربي
ما أرى شيئا في الجنة أحسن منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك، وجعلك زوجي " لم يطمثهن
" أي لم يقتضهن، والاقتضاض: النكاح بالتدمية، المعنى: لم يطأهن ولم يغشهن
" إنس قبلهم ولا جان " فهن أبكار لأنهن خلقن في الجنة، فعلى هذا القول هن
من حور الجنة، وقيل: هن من نساء الدنيا لم
يمسسهن منذ انشئن خلق، عن الشعبي والكلبي، أي لم
يجامعهن في هذا الخلق الذي انشئن فيه إنس ولا جان، قال الزجاج: في هذه الآية دليل
على أن الجني يغشى كما يغشى الانسي، وقال ضمرة بن حبيب: فيها دليل على أن للجن ثوابا
وأزواجا من الحور، فالإنسيات للأنس، والجنيات للجن، قال البلخي: والمعنى أن ما يهب
الله لمؤمني الانس من الحور لم يطمثهن إنس، وما يهب الله لمؤمني الجن من الحور
لم يطمثهن جان " كأنهن الياقوت والمرجان " أي هن على صفاء الياقوت وفي بياض المرجان،
عن الحسن وقتادة، وقال الحسن: والمرجان أشد اللؤلؤ بياضا وهو صغاره. وفي الحديث:
إن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقها من وراء سبعين
حلة من حرير. وعن ابن مسعود: يرى كما يرى السلك من وراء الياقوت " هل جزاء الاحسان
إلا الاحسان " أي ليس جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة، وقيل:
هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله إلا الجنة
؟ عن ابن عباس، وعن أنس قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الآية فقال:
هل تدرون ما يقول ربكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن ربكم يقول: هل جزاء
من أنعمنا عليه بالتوحيد إلا الجنة ؟ وقيل: معناه: هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم
إلا أن تحسنوا في شكره وعبادته ؟.
وروى العياشي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن عثمان
بن عيسى، عن علي ابن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: آية في كتاب
الله مسجلة، قلت: ماهي ؟ قال: قول الله تعالى: " هل جزاء الاحسان إلا الاحسان
" جرت في الكافر والمؤمن و البر والفاجر، ومن صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ
به، وليس المكافأة أن تصنع كما صنع حتى تربي، فإن صنعت كما صنع كان له الفضل
بالابتداء. " ومن دونهما جنتان " أي ومن دون الجنتين اللتين ذكرناهما جنتان اخريان
دون الجنتين الاوليين، فإنهما أقرب إلى قصره ومجالسه في قصره ليتضاعف له السرور
بالتنقل من جنة إلى جنة على ما هو معروف من طبع البشر في شهوة مثل ذلك، ومعنى
(دون) هنا: مكان قريب من الشيء بالإضافة إلى غيره مما ليس له مثل قربه، وقيل: إن المعنى
أنهما دون الجنتين الاوليين في الفضل، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله
أنه قال: جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب أبنيتها وما فيهما. وروى
العياشي بالإسناد إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك أخبرني عن المؤمن
تكون له امرأة مؤمنة يدخلان الجنة يتزوج أحدهما بالآخر ؟ فقال: يا أبا محمد
إن الله حكم عدل، إن كان هو أفضل منها خير هو فإن اختارها كانت من أزواجه، وإن كانت
هي خيرا منها خيرها فإن اختارته كان زوجا لها. قال: وقال أبو عبد الله عليه السلام:
لا تقولن: إن الجنة واحدة إن الله يقول: "
ومن دونهما جنتان " ولا تقولن: درجة واحدة إن الله يقول: " درجات بعضها فوق
بعض " إنما تفاضل القوم بالأعمال، قال: وقلت له:
إن المؤمنين يدخلان الجنة فيكون أحدهما أرفع
مكانا من الآخر فيشتهي أن يلقى صاحبه، قال: من كان فوقه فله أن يهبط ومن كان تحته
لم يكن له أن يصعد لأنه لا يبلغ ذلك المكان ولكنهم إذا أحبوا ذلك واشتهوه التقوا
على الاسرة. وعن العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: إن الناس
يتعجبون منا إذا قلنا: يخرج قوم من جهنم فيدخلون الجنة، فيقولون لنا: فيكونون
مع أولياء الله في الجنة ؟ فقال: يا علاء إن الله يقول: " ومن دونهما جنتان "
لا والله لا يكونون مع أولياء الله، قلت: كانوا كافرين ؟ قال عليه السلام: لا والله
لو كانوا كافرين ما دخلوا الجنة، قلت: كانوا مؤمنين ؟ قال: لا والله لو كانوا مؤمنين
ما دخلوا النار ولكن بين ذلك. وتأويل ذلك - لو صح الخبر -: أنهم لم يكونوا من أفاضل
المؤمنين وخيارهم. ثم وصف الجنتين فقال: " مدهامتان " أي من خضرتهما قد اسودتا
من الري، وكل نبت أخضر فتمام خضرته أن يضرب إلى السواد وهو على أتم ما يكون من الحسن
" فيهما عينان نضاختان " أي فوارتان بالماء تنبع من أصلهما ثم تجريان، عن الحسن،
قال ابن عباس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور، وقيل: تنضخان
بأنواع الخيرات " فيهما فاكهة " يعني ألوان الفاكهة " ونخل ورمان
" وحكى الزجاج عن يونس النحوي أن النخل والرمان
من أفضل الفاكهة، وإنما فصلا بالواو لفضلهما
" فيهن " أي في الجنات الاربع " خيرات حسان " أي نساء خيرات الاخلاق
حسان الوجوه، روته ام سلمة عن النبي صلى الله
عليه وآله. وقيل: " خيرات " فاضلات في الصلاح
والجمال عن الحسن، حسان في المناظر والالوان، وقيل: إنهن من نساء الدنيا ترد عليهم
في الجنة وهن أجل من الحور العين، وقيل: " خيرات ": مختارات، عن جرير بن
عبد الله، وقيل لسن بذربات ولا زفرات ولا نخرات
ولا متطلعات ولا متسومات ولا متسلطات ولا
طماحات ولا طوافات في الطرق ولا يغرن ولا يؤذين.
وقال عقبة بن عبد الغافر: نساء أهل الجنة
تأخذ بعضهن بأيدي بعضهن ويتغنين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا
نسخط، ونحن المقيمات فلا نظعن ونحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام. وقالت عائشة:
إن الحور العين إذا قلن هذه المقالة أجابتهن المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصليات
وما صليتن، ونحن الصائمات وما صمتن، ونحن المتوضيات وما توضيتن، ونحن المتصدقات
وما تصدقتن، فغلبنهن والله " حور " أي بيض حسان البياض، ومنه العين الحوراء
إذا كانت شديدة بياض البياض شديدة سواد السواد، وبذلك يتم حسن العين " مقصورات
في الخيام " أي محبوسات في الحجال، مستورات في القباب، عن ابن عباس وغيره، والمعنى
أنهن مصونات مخدرات لا يبتذلن، وقيل: " مقصورات " أي قصرن على أزواجهن فلا يردن
بدلا منهم، وقيل: إن لكل زوجة خيمة طولها ستون ميلا، عن ابن مسعود، وروي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: الخيمة درة واحدة طولها في الهواء ستون ميلا، في كل زاوية
منها أهل للمؤمنين، لا يراه الآخرون. وعن ابن عباس قال: الخيمة درة مجوفة فرسخ
في فرسخ فيها أربعة آلاف مصراع من ذهب. وعن أنس، عن النبي صلى الله عليه وآله قال:
مررت ليلة اسرى بي بنهر حافتاه قباب المرجان فنوديت منه: السلام عليك يارسول الله،
فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء حور من الحور العين استأذن ربهن عزوجل أن يسلمن
عليك فأذن لهن، فقلن، نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس، أزواج
رجال كرام. ثم قرأ صلى الله عليه وآله: " حور مقصورات في الخيام لم يطمثهن
" الآية. الوجه في التكرير الابانة عن أن
صفة الحور المقصورات في الخيام كصفة القاصرات
الطرف " متكئين على رفرف خضر " أي على
فرش مرتفعة، عن الجبائي، وقيل: الرفرف: رياض الجنة، والواحدة: رفرفة، عن ابن جبير،
وقيل: هي المجالس (الطنافس خ ل) عن ابن عباس وغيره، وقيل: هي المرافق يعني الوسائد،
عن الحسن " وعبقري حسان " أي وزرابي حسان عن ابن عباس وغيره، وهي الطنافس، وقيل:
العبقري: الديباج، وقيل: هي البسط، قال القتيبي: كل ثوب موشى فهو عبقري، وهو جمع
ولذلك قال: " حسان ". وفي قوله تعالى: " ثلة من الاولين " أي جماعة
كثيرة العدد من الاولين من الامم الماضية " وقليل
من الآخرين " من امة محمد صلى الله عليه وآله، لان
من سبق إلى إجابة نبينا صلى الله عليه وآله قليل بالإضافة إلى من سبق إلى إجابة النبيين
قبله، عن جماعة من المفسرين، وقيل: معناه: جماعة من أوائل هذه الامة، وقليل من أواخرهم
ممن قرب حالهم من حال اولئك " على سرر موضونة " أي منسوجة، كما يوضن حلق الدرع
فيدخل بعضها في بعض، قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والجواهر "
متكئين عليها متقابلين " أي متحاذين كل واحد منهم بإزاء الآخر، وذلك أعظم في باب السرور
" ويطوف عليهم ولدان " أي وصفاء وغلمان للخدمة " مخلدون " أي باقون
لا يموتون ولا يهرمون ولا يتغيرون، وقيل: مقرطون،
والخلدة: القرط. واختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم
يكن لهم حسنات فيثابون عليها ولا سيئات فيعاقبون
عليها فانزلوا هذه المنزلة، عن علي عليه السلام والحسن، وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وآله أنه سئل عن أطفال المشركين فقال: هم خدم أهل الجنة. وقيل: هم من خذم
الجنة على صورة الولدان خلقوا لخدمة أهل الجنة. " بأكواب " وهي القداح الواسعة الرؤوس
لا خراطيم لها " وأباريق " وهي التي لها خراطيم وعرى، وهو الذي برق من صفاء لونه
" وكأس من معين " أي ويطوفون أيضا عليهم بكأس من خمر معين، أي ظاهر للعيون
جار " لا يصدعون عنها " أي لا يأخذهم
من شربها صداع، وقيل: لا يتفرقون عنها " ولا ينزفون
" أي لا تنزف عقولهم بالسكر، أولا يفنى خمرهم على القراءة الاخرى " وفاكهة مما
يتخيرون " أي مما يختارونه ويشتهونه " ولحم طير مما يشتهون " فإن أهل
الجنة إذا اشتهوا لحم الطير خلق الله لهم لحم الطير
نضيجا حتى لا يحتاج إلى ذبح الطير وإيلامه، قال
ابن عباس: يخطر على قلبه الطير فيصير ممثلا بين يديه على ما اشتهى " وحور عين كأمثال
اللؤلؤ المكنون " أي الدر المخزون المصون في الصدف لم تمسه الايدي " لا يسمعون
فيها لغوا " أي مالا فائدة فيه من الكلام " ولا تأثيما " أي لا يقول
بعضهم لبعض: أثمت لانهم لا يتكلمون بما فيه إثم،
عن ابن عباس، وقيل: لا يتخالفون على شرب الخمر
ولا يأثمون بشربها كما في الدنيا " إلا قيلا سلاما سلاما " أي لا يسمعون
إلا قول بعضهم لبعض على وجه التحية: سلاما سلاما،
والتقدير: سلمك الله سلاما " في سدر مخضود
" أي نبق منزوع الشوكة قد خضد شوكه أي قطع، وقيل: هو الذي خضد بكثرة حمله وذهاب
شوكه، وقيل: هو الموقر حملا " وطلح منضود " قال ابن عباس وغيره: هو شجر الموز،
وقيل: هو شجر له ظل بارد طيب، عن الحسن، وقيل: هو شجر يكون باليمن وبالحجاز من أحسن
الشجر منظرا، وإنما ذكر هاتين الشجرتين لان العرب كانوا يعرفون ذلك، فإن عامة
أشجارهم ام غيلان ذات أنوار ورائحة طيبة، وروت العامة عن علي عليه السلام أنه قرأ
عنده رجل " وطلح منضود " فقال: ما شأن الطلح ؟ إنما هو " وطلع
" كقوله: " ونخل طلعها هضيم ". فقيل له: ألا نغيره
؟ فقال: إن القرآن لا يغير اليوم ولا يحول، رواه عنه
ابنه الحسن عليه السلام وقيس بن سعد، ورواه أصحابنا عن يعقوب بن شعيب قال: قلت لابي
عبد الله عليه السلام: " وطلح منضود " قال: لا " وطلع منضود "
والمنضود الذي بعضه على بعض نضد بالحمل من أو له إلى آخره
فليس له سوق بارزة، فمن عروقه إلى أفنانه ثمر كله " وظل ممدود
" أي دائم لا تنسخه الشمس فهو ثابت لا يزول، وقد ورد في الخبر
أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها، اقرؤوا إن شئتم: "
وظل ممدود " وروي أيضا: أن أوقات الجنة كغدوات الصيف لا يكون فيه حر ولا برد
" وماء مسكوب " أي مصبوب يجري الليل
والنهار ولا ينقطع عنهم فهو مسكوب بسكب الله إياه في مجاريه،
وقيل: مصبوب على الخمر ليشرب بالمزاج، وقيل: مسكوب يجري دائما في غير اخدود
عن سفيان وجماعة، وقيل: مسكوب ليشرب على
ما يرى من حسنه وصفائه لا يحتاجون إلى تعب في استقائه " وفاكهة كثيرة " أي وثمار
مختلفة كثيرة غير قليلة، والوجه في تكرير ذكر الفاكهة البيان عن اختلاف صفاتها،
فذكرت أولا بأنها متخيرة، وذكرت هنا بأنها كثيرة " لا مقطوعة ولا ممنوعة
" أي لا ينقطع كما تنقطع فواكه الدنيا في
الشتاء وفي أوقات مخصوصة، ولا تمتنع ببعد متناول
أو شوك يؤذي اليد كما يكون ذلك في الدنيا، وقيل: إنها لا مقطوعة بالأزمان ولا
ممنوعة بالأثمان لا يتوصل إليها إلا بالثمن " وفرش مرفوعة " أي بسط عالية،
كما يقال: بناء مرفوع، وقيل: " مرفوع
" بعضها فوق بعض، عن الحسن والفراء، وقيل: معناه: ونساء
مرتفعات القدر في عقولهن وحسنهن وكمالهن، عن الجبائي، قال: ولذلك عقبه بقوله: "
إنا أنشأناهن إنشاء " ويقال لامرأة الرجل: فراشه، ومنه قوله صلى الله عليه وآله: الولد
للفراش " إنا أنشأناهن إنشاء " أي خلقناهن خلقا جديدا، قال ابن عباس: يعني النساء
الآدميات والعجز الشمط، يقول: خلقناهن بعد الكبر والهرم في الدنيا خلقا آخر، وقيل:
معناه أنشأنا الحور العين كماهن عليه على هيأتهن لم ينتقلن من حال إلى حال كما
يكون في الدنيا " فجعلناهن أبكارا " أي عذاري، وقيل: لا يأتيهن أزواجهن إلا وجدوهن
أبكارا " عربا " أي متحننات على أزواجهن متحببات إليهم، وقيل: عاشقات (خاشعات
خ ل) لأزواجهن، عن ابن عباس، وقيل: العروب اللعوب مع زوجها، آنسة به كما يأنس
العرب بكلام العربي " أترابا " أي متشابهات مستويات في السن، وقيل: أمثال أزواجهن
في السن " لأصحاب اليمين " أي هذا الذي ذكرناه لأصحاب اليمين جزاء وثوابا على
طاعتهم " ثلة من الاولين وثلة من الآخرين " أي جماعة من الامم الماضية، وجماعة من مؤمني
هذه الامة، وذهب جماعة إلى أن الثلتين جميعا من هذه الامة. وفي قوله تعالى:
" قد أحسن الله له رزقا " أي يعطيه أحسن ما يعطى أحد، وذلك مبالغة في وصف نعيم
الجنة. وفي قوله تعالى: " أيطمع كل امرئ منهم " أي من هؤلاء المنافقين
" أن يدخل جنة نعيم " كما يدخل اولئك الموصوفون
قبل هذا، و إنما قال هذا لانهم كانوا يقولون:
إن كان الامر على ما قال محمد - صلى الله عليه وآله - فإن لنا في الآخرة
عند الله أفضل مما للمؤمنين كما أعطانا في الدنيا أفضل مما أعطاهم " كلا
" أي لا يكون ذلك ولا يدخلونها. وفي قوله
تعالى: " يشربون من كأس " إناء فيه شراب " كان
مزاجها " أي ما يمازجها " كافورا " وهو اسم عين ماء في الجنة، ويدل
عليه قوله: " عينا " وهي كالمفسرة للكافور،
وقيل: يعني الكافور الذي له رائحة طيبة، والمعنى: يمازجه
ريح الكافور وليس ككافور الدنيا، قال قتادة: يمزج بالكافور ويختم بالمسك وقيل:
معناه: طيب بالكافور والمسك والزنجبيل " عينا يشرب بها عباد الله " أي أولياؤه،
عن ابن عباس، أي هذا الشراب من عين يشربها أولياء الله " يفجرونها تفجيرا "
أي يقودون تلك العين حيث شاءوا من منازلهم وقصورهم، عن مجاهد، والتفجير: تشقيق الارض
ليجري الماء قال: وأنهار الجنة تجري بغير اخدود، فإذا اراد المؤمن أن يجري نهرا
خط خطا فينبع الماء من ذلك الموضع ويجري بغير تعب " وجزاهم بما صبروا " أي بصبرهم
على طاعته واجتناب معاصيه وتحمل محن الدنيا وشدائدها " جنة " يسكنونها
" وحريرا " من لباس الجنة يلبسونه ويفرشونه
" لا يرون فيها شمسا " يتأذون بحرها " ولا
زمهريرا " يتأذون ببرده " ودانية عليهم ظلالها " يعني أن أفياء أشجار
تلك الجنة قريبة منهم، وقيل: إن ظلال الجنة لا تنسخها
الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا " وذللت قطوفها
تذليلا " أي وسخرت وسهل أخذ ثمارها تسخيرا، إن قام ارتفعت بقدره، وإن قعد نزلت
عليه حتى ينالها، وإن اضطجع نزلت حتى تنالها يده، وقيل: معناه: لا يرد أيديهم عنها
بعد ولا شوك " كانت قواريرا " أي زجاجا " قواريرا من فضة " قال
الصادق عليه السلام: ينفذ البصر في فضة الجنة كما ينفذ
في الزجاج. والمعنى أن أصلها من فضة فاجتمع
لها بياض الفضة وصفاء القوارير فيرى من خارجها ما في داخلها، قال أبو علي: إن سئل
فقيل: كيف يكون القوارير من فضة، وإنما القوارير من الرمل دونها ؟ فالقول في ذلك
أن الشيء إذا قاربه شئ واشتدت ملابسته له قيل: إنه من كذا وإن لم يكن منه في الحقيقة،
فعلى هذا يجوز قوارير من فضة أي هي في صفاء الفضة ونقائها، ويجوز تقدير حذف
المضاف، أي من صفاء الفضة، وقوارير الثانية بدل من الاولى وليست بتكرار،
وقيل: إن قوارير كل أرض من تربتها، وأرض الجنة فضة ولذلك كانت قواريرها مثل
الفضة، عن ابن عباس " قدروها تقديرا " أي قدروا
الكأس على قدر ريهم لا يزيد ولا ينقص من الري، والضمير في قدروها للسقاة والخدام
الذين يسقون، فإنهم يقدرونها ثم يسقون، وقيل: قدروها على قدر ملء الكف، أي كانت
الاكواب على قدر ما اشتهوا لم تعظم ولم تثقل الكف عن حملها، وقيل: قدروها في أنفسهم
قبل مجيئها على صفة فجاءت على ما قدروا، والضمير في قدروا للشاربين " ويسقون فيها
" أي في الجنة " كأسا كان مزاجها زنجبيلا " قال مقاتل: لا يشبه زنجبيل
الدنيا.
وقال ابن عباس: كلما ذكر الله في القرآن
مما في الجنة وسماه ليس له مثل في الدنيا، ولكن
سماه الله بالاسم الذي يعرف، والزنجبيل مما كانت العرب تستطيبه فلذلك ذكره الله
في القرآن ووعدهم أنهم يسقون في الجنة الكأس الممزوجة بزنجيل الجنة. " عينا فيها
تسمى سلسبيلا " أي الزنجبيل من عين تسمى سلسبيلا، قال ابن الاعرابي: لم أسمع
السلسبيل إلا في القرآن، وقال الزجاج: هو صفة لما كان في غايه السلاسة، يعنى أنها
سلسة تتسلسل في الحلق، وقيل: سميت سلسبيلا لأنها تسيل عليهم في الطرق وفي منازلهم
ينبع من أصل العرش من جنة عدن إلى أهل الجنان، وقيل: سميت بذلك لأنها ينقاد ماؤها
لهم يصرفونها حيث شاءوا " حسبتهم لؤلؤا منثورا " أي من الصفاء وحسن المنظر والكثرة
فذكر لونهم وكثرتهم، وقيل: إنما شبههم بالمنثور لانتشارهم في الخدمة فلو كانوا
صفا لشبهوا بالمنظوم " وإذا رأيت ثم " أي إذا رأيت ببصرك ثم يعني الجنة، وقيل:
إن تقديره: وإذا رأيت الاشياء ثم " رأيت نعيما " خطيرا " وملكا كبيرا
" لا يزول ولا يفنى، عن الصادق عليه السلام.
وقيل: كبيرا أي واسعا، يعني أن نعيم الجنة لا يوصف
كثرة وإنما يوصف بعضها، وقيل: الملك الكبير: استيذان الملائكة عليهم وتحيتهم بالسلام، وقيل: هو أنه لا يريدون شيئا إلا
قدروا عليه، وقيل: هو أن أدناهم منزلة ينظر
في ملكه من ألف عام يرى أقصاه كما يرى أدناه، وقيل: هو الملك الدائم الابدي في نفاذ
الامر وحصول الاماني " عاليهم ثياب سندس " من جعله ظرفا فهو بمنزلة قولك: فوقهم
ثياب سندس، ومن جعله حالا فهو بمنزلة قولك: تعلوهم ثياب سندس، وهو ما رق من الثياب
فيلبسونها، وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال في معناه: تعلوهم الثياب فيلبسونها
" خضر وإستبرق " وهو ما غلظ منها، ولا يراد بها الغلظ في السلك إنما يراد به الثخانة
في النسج قال ابن عباس: أما رأيت الرجل عليه ثياب والذي يعلوها أفضلها ؟ وحلوا
أساور من فضة " الفضة الشفافة وهي التي يرى ما وراؤها كما يرى من البلورة وهي أفضل
من الدر والياقوت، وهما أفضلان من الذهب فتلك الفضة أفضل من الذهب، والفضة والذهب
هما أثمان الاشياء، وقيل: إنهم يحلون بالذهب تارة وبالفضة اخرى ليجمعوا محاسن
الحلية، كما قال تعالى: " يحلون فيها من أساور من ذهب " والفضة وإن كانت
دنية الثمن فهي في غاية الحسن، خاصة إذا كانت
بالصفة التي ذكرها، والغرض في الآخرة ما يكثر
الاستلذاذ والسرور به لا ما يكثر ثمنه لأنه ليست هناك أثمان " وسقاهم ربهم شرابا
طهورا " أي طاهرا من الاقذار والاقذاء لم تدنسها الايدي ولم تدسها الارجل كخمر
الدينا، وقيل: " طهورا " لا يصير بولا نجسا، ولكن يصير رشحا في أبدانهم كرشح المسك،
وإن الرجل من أهل الجنة يقسم له شهوة مائة رجل من أهل الدنيا وأكلهم ونهمتهم،
فإذا أكل ما شاء سقي شرابا طهورا فيطهر بطنه ويصير ما أكل رشحا يخرج من جلده
أطيب ريحا من المسك الاذفر، ويضمر بطنه وتعود شهوته، عن إبراهيم التيمي وأبي قلابة،
وقيل يطهرهم من كل شئ سوى الله إذ لا طاهر من تدنس بشئ من الاكوان إلا الله، رووه
عن جعفر بن محمد عليه السلام " إن هذا " أي ما وصف من النعيم " كان
لكم جزاء " أي مكافاة على أعمالكم الحسنة " وكان
سعيكم " في مرضات الله " مشكورا " أي مقبولا مرضيا
جوزيتم عليه. وفي قوله تعالى: " إن المتقين في ظلال " من أشجار الجنة
" وعيون " جارية بين أيديهم
في غير اخدود، لان ذلك أمتع لهم بما يرونه من حسن مياهها وصفائها، وقيل: عيون
أي ينابيع ماء يجري خلال الاشجار. وفي قوله تعالى: " مفازا " أي فوزا ونجاة إلى
حال السلامة والسرور، وقيل: المفاز: موضع الفوز " وكواعب أترابا " أي جواري تكعب
ثديهن مستويات في السن " وكأسا دهاقا " أي مترعة مملوءة، وقيل: متتابعة على شاربيها،
اخذ من متابعة الشد في الدهق، وقيل: على قدر ريهم، عن مقاتل " ولا كذابا
" أي ولا تكذيب بعضهم لبعض ومن قرأ بالتخفيف
يريد: ولا مكاذبة، وقيل: كذبا " عطاء حسابا
" أي كافيا، وقيل: أي كثيرا، وقيل: حسابا على قدر الاستحقاق وبحسب العمل. وفي قوله
تعالى: " على الارائك ينظرون " إلى ما اعطوا من النعيم والكرامة، وقيل: ينظرون إلى
عدوهم حين يعذبون " تعرف في وجوههم نضرة النعيم " أي إذا رأيتهم عرفت أنهم
من أهل النعمة بما ترى في وجوههم من النور
والحسن والبياض والبهجة، قال عطاء: وذلك أن الله
تعالى قد زاد في جمالهم وألوانهم مالا يصفه واصف. " يسقون من رحيق " أي من
خمر صافية خالصة من كل غش " مختوم
" وهو الذي له ختام، أي عاقبة، وقيل: مختوم في الآنية بالمسك
وهو غير الخمر التي تجري في الانهار، وقيل: هو مختوم أي ممنوع من أن تمسه يد حتى
يفك ختمه للأبرار، ثم فسر المختوم بقوله: " ختامه مسك " أي آخر طعمه ريح
المسك إذا رفع الشارب فاه من آخر شرابه وجد ريحه
كريح المسك، وقيل: ختم إناؤه بالمسك بدلا من الطين
الذي يختم به الشراب في الدنيا، وعن أبي الدرداء، هو تراب أبيض من الفضة يختمون
به شرابهم، ولو أن رجلا من أهل الدينا أدخل إصبعه فيه ثم أخرجها لم يبق ذو روح
إلا وجد طيبها ثم رغب فيها، فقال: " وفي ذلك فليتنافس المتنافسون " أي فليرغب الراغبون
بالمبادرة إلى طاعة الله سبحانه، وفي الحديث: من صام لله في يوم صائف سقاه الله
على الظماء من الرحيق المختوم. وفي وصية النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين
عليه السلام: يا علي من ترك الخمر لله سقاه الله من الرحيق المختوم. " ومزاجه
من تسنيم " أي ومزاج ذلك الشراب الذي وصفناه وهو ما يمزج به من تسنيم وهو عين
في الجنة، وهو أشرف شراب في الجنة، قال مسروق: يشربها المقربون صرفا
ويمزج بها كأس أصحاب اليمين فيطيب، وروى ميمون
بن مهران أن ابن عباس سئل عن تسنيم فقال: هذا مما يقول الله عزوجل: " فلا تعلم نفس
ما اخفي لهم من قرة أعين " ونحو هذا قول الحسن: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. وقيل:
هو شراب ينصب عليهم من علو انصبابا، وقيل: هو نهر يجري في الهواء فينصب في أواني
أهل الجنة بحسب الحاجة ثم فسره سبحانه بقوله: " عينا يشرب بها المقربون
" أي هي خالصة للمقربين يشربونها صرفا، ويمزج
لسائر أهل الجنة، عن ابن مسعود وابن عباس " إن الذين
أجرموا " يعني كفار قريش ومترفيهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل
وأصحابهم " كانوا من الذين آمنوا " يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
مثل عمار وخباب وبلال وغيرهم " يضحكون
" على وجه السخرية بهم والاستهزاء في دار الدنيا "
وإذا مروا بهم " يعني وإذا مر المؤمنون بهؤلاء المشركين " يتغامزون
" أي يشير بعضهم إلى بعض بالأعين والحواجب استهزاء
بهم، أي يقول هؤلاء إنهم على حق، وإن محمدا يأتيه
الوحي، وإنه رسول، وإنا نبعث ونحو ذلك، وقيل: نزلت في علي بن أبي طالب عليه السلام
وذلك أنه كان في نفر من المسلمين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله فسخر منهم
المنافقون وضحكوا وتغامزوا ثم رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الاصلع فضحكنا
منه، فنزلت الآية قبل أن يصل علي عليه السلام وأصحابه إلى النبي صلى الله عليه
وآله عن مقاتل والكلبي، وذكر الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل
بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إن الذين أجرموا منافقوا قريش، والذين
آمنوا علي بن أبي طالب وأصحابه " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين
" يعني وإذا رجع هؤلاء الكفار إلى أهلهم رجعوا
معجبين بماهم فيه يتفكهون بذكرهم " وإذا
رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " لانهم تركوا التنعم رجاء ثواب لا حقيقة له
" وما ارسلوا عليهم حافظين " أي ولم
يرسل هؤلاء الكفار حافظين على المؤمنين ما هم عليه وما
كلفوا حفظ أعمالهم، فكيف يطعنون عليهم، وقيل: معناه: وما ارسلوا عليهم شاهدين
" فاليوم " يعني يوم القيامة "
الذين آمنوا من الكفار يضحكون " كما ضحك الكفار منهم في الدنيا
وذلك أنه يفتح للكفار باب إلى الجنة ويقال لهم: اخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليه اغلق
دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا فيضحك منهم المؤمنون، عن أبي
صالح، وقيل: يضحكون من الكفار إذا رأوهم في العذاب وأنفسهم في
النعيم، وقيل إن الوجه في ضحك أهل الجنة من أهل
النار أنهم لما كانوا أعداء الله وأعداءهم جعل الله سبحانه لهم سرورا في تعذيبهم
" عل الارائك ينظرون " يعني المؤمنين ينظرون إلى تعذيب أعدائهم الكفار على سرر
في الحجال " هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " أي هل جوزي الكفار إذا فعل
بهم هذا الذي ذكر ما كانوا يفعلونه من السخرية
بالمؤمنين في الدنيا، وهو استفهام يراد به التقرير، و" ثوب " بمعني
اثيب، وقيل: معناه: يتصل بما قبله ويكون التقدير: إن الذين
آمنوا ينظرون هل جوزي الكفار بأعمالهم. وفي قوله تعالى: " غير ممنون " أي غير
منقوص، وقيل: غير مقطوع، وقيل: غير محسوب، وقيل: غير مكدر بما يؤذي ويغم.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 8 / صفحة [ 81 ]
تاريخ النشر : 2023-05-30