(أنا) التي يقولها زيد دليل على وجوده وتمامه وغير ذلك محال
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الله
الجزء والصفحة:
ج3/ ص145-151
2025-08-12
390
إن عمّر زيد خمسين سنة ثمّ مات، فذلك يعني أن علّة وجود حياة زيد امتلكت العلّيّة حتى الخمسين من عمره، ومن الآن فصاعداً لن يكون هناك وجوداً لعلّة حياته، إذاً فهو ليس موجوداً.
وتؤول جميع الامور العدميّة إلى محدوديّة الامور الوجوديّة. وعلى هذا يكون عُمُر زيد الذي دام خمسين سنة قد قُيّد في سجل العلّة والمعلول الثابت لعالم الخلق ونظامه البديع والأمثل والذي هو مُسَبَّب من لدن مُسَبِّب الأسباب، وهذا الأمر لا يقبل التغيير وهو عين الخير والرحمة.
وهكذا قُدِّر لزيد أن يوهبَ عُمُراً مقداره خمسون سنة وذلك في سجلّ علل امور العالم. وتُعتبر حياته التي دامت خمسين عاماً أمراً وجوديّاً وهي عين الخير والرحمة، وأمّا عدم حياته بعد هذا المقطع الزمنيّ والذي نعبّر عنه بالفقدان والشرّ والضرر فهو أمر عدميّ. فهو لا شيء لعدم تحقّق علّة وجوده في الخارج، وما كان من حياته التي دامت خمسين سنة والتي هي أمر وجوديّ هي عين الخير والرحمة والصلاح والحكمة. فما ذا ينتظر زيد أكثر من ذلك؟ وما الذي يريده من نظام الخَلق؟
وهنا لو قال (زيد): لِمَ لم يبلُغ عمري الستّين؟ لِمَ لم تُضَف عليه عشرُ سنوات اخرى؟
نقول جواباً عليه: أوّلًا لو كانت قد اضيفَت عشر سنوات أخرى على عُمُرك وأصبح ستّين لاعترضتَ بنفس هذا الكلام عند احتضارك وقُلتَ: هلّا بَلَغْتُ السبعين. لِمَ لا تُضاف على عُمُري عشر سنوات أخرى، وهكذا دواليك، فحتّى لو عمّر زيد ألف سنة لتمنّى عند حضور الموت والفقدان أن يكون عمره ألف سنة وعشراً. وهكذا صعوداً حتى نشهد زيداً وقد وصل عمره الملايين والمليارات؛ ومع ذلك فهو لا يرغب في الموت، لأنّ الموت يكون حينها أمراً عدميّاً كذلك وشرّاً ونقصاً وفقداناً وقطع حياة ومعيشة وتكمن مصداقيّة ذلك في «حُكْمُ الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد».
والخلاصة أن زيداً يطلب الحياة الأبديّة والخلود.
كان هذا مثالًا عن الحياة. أمّا ما يخصّ جميع نقائص زيد ومحدوديّاته فإنّ الأمر على هذا المنوال كذلك. فلو فرضنا أن زيداً حائز على عشر درجات من درجات العلم فسنراه يشكو من عدم حصوله على درجات أعلى من العلم. ويقول في نفسه: لِمَ لم أحصل على مائة أو ألف درجة من العلم؛ وهلمّ جرّا.
ولو امتلك زيد مثلًا مائة درجة من القوّة والقدرة بحيث يستطيع بها رفع ثقل مقداره مائة كيلو غرام، فسنراه يتذمّر من عدم قدرته على رفع مائة وعشرين كيلو غرام أو خمسمائة كيلو غرام ... وهكذا دواليك، ولن نشهد زيداً في أيّة مرحلة قانعاً بما عنده من دون أن يتذمّر أو يطلب الزيادة.
وعلى هذا لا يمكن إيقاف زيد عند حدّه، فتارة نراه يطلب الحياة الأبديّة، وتارة أخرى يلهث وراء العلم والقوّة السرمديّين، وأخرى لا ينفكّ يطلب شئوناً وامتيازات غير محدودة؛ وكلّ ذلك في هذه الدنيا المقيّدة والمحدّدة بآلاف الحدود ومختلف القيود وأنواع النواقص. فهل مطالب زيد هذه وامنيّاته ممكنة الحصول أو التحقّق حسب ذهنيّتنا، أم أن طلبه هذا من الله هو مُغالاة وإلحاح وهراء وشَكاة؟!
كان هذا هو الجواب الأوّل بهذا الخصوص.
وأمّا جوابنا الثاني لزيد فهو: أنت تقول: لِمَ لَم أكُن هو دون أنا؟ لِمَ لَم أكن سلطاناً؟ لِمَ لَم أكُن الشيخ الطوسيّ؟ لِمَ لَم أكُن أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام؟
وهنا نقف عند كلامك الأوّل، ويكفينا ذلك إلى يوم القيامة وهو حسبنا. نقول: أ لم تَقلْ: «أنا»؟! فما معنى «أنا»؟!
إنّها تعني زيداً الذي يُدعى أبوه ب- «حَسن»، وامّه «فاطمة»، والذي وُلِدَ (أي زيد) في مدينة مشهد المقدّسة، على مقربة من الحرم الرضويّ الشريف. ساعة طلوع الفجر، من يوم الأربعاء، من شهر ذي الحجّة، عام 1390 ه-، حيث كان الفصل مثلًا ربيعاً وكان الطقس جميلًا ومعتدلًا، وكانت مُوَلِّدَتك السيّدة فلانة المحترمة؛ وكان جَدّك هو الذي سمّاك زيداً وقد شارك ذوو قرباك ومعارفك في مراسم نحر عقيقتك، مضافاً إلى آلاف الخصائص والميّزات الأخرى التي تتميّز بها.
ولو تجاوزنا أصل وجودك، فهناك الكثير من العوارض والمميّزات الزمانيّة والمكانيّة، والفعل والانفعال والكيف والكَمّ والعلّة والمعلول وغيرها والتي تضافرت مجتمعة وتدخّلت في وجودك وتشخُّصاتك، وقامت بمجموعها بإنشائك وجَعلتْ منك فرداً يُدعى زيداً.
والآن تقول: لِمَ لَم أكُن الشيخ الطوسيّ؟ لِمَ لَم أكُن العلّامة الحلّيّ؟ لِمَ لَم أكُن السيّد بحر العلوم؟ فالشيخ الطوسيّ مثلًا اسمه محمّد وأبوه يُدعى حَسَن وولادته كانت في خراسان وقد عاش قبل ألف عام، وتيّارات معلوماته وانفعالاته وخواصّه وآلاف بل بملايين الامور والفوارق التي تختلف اختلافاً كبيراً مع ما لديك أنت منها.[1]
إن عبارة «لِمَ لم أكن هو» تُبطل نفسها بنفسها؛ فكلمة أنا تعني أنا، وهو تعني هو. أن الآثار والخواصّ والميّزات المتعلّقة ب- «أنا» مؤثّرة في وجود زيد لدرجة أنّنا لو استبدلنا شعرة واحدة من جسمه بشعرة أخرى فإنّ وجود زيد سينعدم أصلًا ولن يكون زيداً البتة. كما لو فرضناً مثلًا: أن حسن الذي هو والد زيد يكون عمّه حسين، حيث سنكون قد ارتكبنا خطاً كبيراً وضللنا السبيل، وهكذا الأمر في تنظيم وترتيب سلسلة العلل والمعلولات العجيبة والمحيّرة والمنظّمة الدقيقة لدرجة أنّنا لو قمنا باستبدال شعرة من جسمه ووضعها بالقرب من شفتيه معتبرين ذلك أمراً غير مهمّ في عالم الخلق ومعدوم الوجود والخلقة، فالحقيقة أنّنا بذلك نبتعد عن الواقع وننأ عن عالم الخلقة وأسرار الخليقة وسلسلة المراتب والعلل.
والآن افترضوا أنّنا أكملنا كلّ ما يعتبره زيد نقصاً فيه وجعلنا منه إنساناً كامل الوجود والعلم والحياة والقدرة في إطار الإنسانيّة فإنّ زيداً وبالرغم من كلّ ذلك سيقول: لِمَ لم تتوفّر في صفات وخصوصيّات الحيوانات والجمادات والنباتات الموجودة على الأرض؟
لِمَ لم يكن جسمي بحجم جسم الفيل؟ لِمَ لا أملك قرنين متشابكين كقرنَي الغزال؟ لِمَ لم تصبح قامتي مثل شجرة الصنوبر؟ لِمَ لا أنير كالبدر في ليلة تمامه أو مثل كوكب الزهرة؟
وذلك لقول الحكماء: الذاتيّ لا يُعلَّل؛ اي أنّه لا يجب البحث عن علّة وجود الامور التي هي آثار وخصوصيّات لازمة لذات الشيء ولا يجب الاستقصاء عنها بأيّ نحوٍ كان!.
[1] قال العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ قدّس سرّه في« طبقات أعلام الشيعة»، في المُجلّد الموسوم ب-« النابِس في القرن الخامس»، ص 161 و162، تحت اسم: محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن أبو جعفر الطوسيّ- شيخ الطائفة: «وُلِدَ في خراسان في شهر رمضان من سنة 385 ه، اي لأربع سنين مضين على وفاة الصدوق (توفّي 381 ه) وفي السنة التي تُوفّي فيها هارون بن موسى التلعُكبرى. سافر إلى العراق سنة 408 ه (وهو في الثالثة والعشرين من العمر)، وتتلمذ خمس سنين على يد الشيخ المفيد( توفّي 413 ه) وثلاثاً على يد الغضائريّ (توفّي 411 ه). وكان تلميذاً كذلك لابن حاشر البَزّاز وابن أبي جيد وابن الصلت، وكلّهم توفّوا بعد سنة 408 ه-، وقال بعضهم أن النجاشيّ( 372- 450 ه) كان من بين أساتذته أيضاً.
... عاصر السيّد المرتضى( توفّي 436 ه) 28 سنة إلّا أنّه لم يُدرك السيّد الرضيّ-( توفّي 406 ه). عَيّنه الخليفة العبّاسيّ القائم بأمر الله استاذاً لعلم الكلام في بغداد، فاجتمع حوله الطلّاب والعلماء حتى بلغ عدد العلماء الذين درسوا عنده ال-« 300» ... وظلّ محتفظاً بمنصبه هذا حتى سقوط بغداد بِيَد السلاجقة الأتراك.
دخل طُغرُل بك بغداد سنة 447 ه- وأحرق« خزانة الكُتُب التي وَقفها الوزير أبو نَصر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كُتُباً منها« معجم البلدان» لياقوت الحمويّ، مادّة بَيْنُ السُّورَين. وكانت مدّة حُكم طُغرُل بك من سنة 429 إلى 455 ه-. فوقعت فتنة بين الشيعة والسنّة عام 448 ه- وفي ذلك يقول ابن الجوزيّ: وفرّ أبو جعفر الطوسيّ وأغاروا على داره( في الكاظميّة). وقال في حوادث سنة 449 ه- في شهر صفر من هذه السنة هَدّموا دار أبو جعفر الطوسيّ المتكلّم الشيعيّ في الكرخ مع سقفه وساووه بالتراب، وأمّا الكتب والدفاتر التي وُجِدَت فيها والمنبر الذي كان يجلس عليه أثناء تدريسه وثلاثة أعلام بيضاء كانوا يحملونها إلى كربلا أثناء العزاء الحسينيّ وغلّاية للشاي، جاءوا بكلّ ذلك خارجاً وأحرقوها في مكان في ناحية الكرخ. فهاجر الشيخ على أثر ذلك إلى النجف الأشرف وأقام دعائم وأركان الحوزة فيها. وقال بعضهم: بل كانت الحوزة في النجف موجودة قبله...
... ظلّ الشيخ مدّة اثنتي عشر سنة في النجف حتى تُوفّي ليلة الاثنين 22 محرّم سنة 460 ه، فتصدّى لغسله ودفنه تلامذته وهم: الحسن بن المهديّ والسليقيّ والحسن بن عبد الواحد العَيْن زربي وأبو الحسن اللؤلؤيّ، ودُفِنَ في داره هناك. فتحوّلت داره إلى مسجد وهو اليوم من أشهر المساجد الموجودة في النجف الأشرف، ويقع عند الباب الشماليّ لصحن الأمير عليه السلام والمعروف كذلك ب«باب الطوسيّ».
نعم، لَم يكن مرادنا أو هدفنا من إيراد هذه النبذة عن حياة شيخ الطائفة إلّا لكي نطّلع على الزوايا المختلفة والحالات المتباينة وجَري الامور لهذا الرجل العظيم والفقيه المتكلّم وحامي مذهب الشيعة، ونقول لزيد، الذي يكرّر دوماً هذه العبارة: لِمَ لَم أكُن الشيخ الطوسيّ: أن سبب عدم كونك الشيخ الطوسيّ هو عدم تعيين كلّ تلك الحوادث لك منذ ولادة الشيخ حتى وفاته. وإنّيّة زيد هي السبب الوحيد في كونه «هوَ هوَ» وليس أحداً غير ال«هوَ»، وهذه ال«إنّيّة» هي التي تُبطل كلّ ادّعاءاته وطلباته.
و تجدر الإشارة إلى ذِكر نقطة مهمّة وردت في عبارة المرحوم العلّامة الطهرانيّ والتي نقلناها عن كتابه «النابس» وهي: اخذ ما وُجد من دَفاتِره وكرسيّ كان يَجلِس عليه لِلكلامِ، واخرِج إلى الكرخِ، واضيفَ إليه ثَلاثةُ سَناجيقَ بيضٍ فاحرِق الجميعُ. وجاء في أصل عبارات ابن الجوزيّ في «المنتظم في تأريخ الامم والملوك» ج 16، ص 16، في حوادث سنة 449 ه (طبعة سنة 1412 هجريّة قمريّة)، ما يلي: واخذ ما وُجد من دَفاترِه وكرسيّ كانَ يَجلِس عليه لِلكلامِ واخرِج ذلك إلى الكرخِ واضيفَ إليه ثَلاثةُ مَجانيقَ بيضٍ كان الزُّوّار من أهلِ الكرخِ قديماً يَحمِلونها معَهم إذا قَصدوا زيارةَ الكوفةِ فاحرِق الجميعُ.
وهنا يجب القول أن عبارة «مناجيق بيض» الواردة في المجلّد المطبوع لكتاب ابن الجوزيّ قد وردت كذلك في نُسخ أخرى من كُتب التأريخ وهو لا يتعدّى كونه تصحيفاً أو تحريفاً.
و الصحيح هو ما ورد في عبارات العلّامة الطهرانيّ «ثلاثة سناجيق بيض».
جاء في «أقرب الموارد» السِّنْجَق: اللِواءُ والدَّائِرةُ تحتَ لواءٍ واحدٍ، فارِسيّة، ج: سناجق.
وعلى هذا فكلمة «سناجق» هي الأصحّ والمقصود بها أعلام وألوية بيضاء كانت موجودة في دار الشيخ وكانت تُحمل من قِبل الزوّار الشيعة في الكرخ عند زيارتهم الكوفة وقبر أمير المؤمنين عليه السلام وسيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام في مواكب العزاء.
الاكثر قراءة في التوحيد
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة