سلسلة مفاهيم في الفيزياء
الجزء الخامس الثمانون: النقطة الأخيرة في سطر النظرية الكمية: ما بعد شرودنغر وصياغة جديدة للواقع
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
21/12/2025
في هذا المقال الختامي من سلسلة مفاهيم في الفيزياء فيما يخص النظرية الكمية، نتأمل في مسار النظريات والفرضيات التي واكبت تطور النظرية الكمية منذ نشأتها. لقد شهدت الفيزياء الكمية منذ بدايات القرن العشرين جدالات حادة حول طبيعة الواقع، بدءًا من مسألة المتغيرات المخفية، والتي طرحها أينشتاين و«بودولسكي» و«روزن» في مفارقة EPR الشهيرة، وصولًا إلى عوامل خارجية مؤثرة، وحتى فرضيات تأثير الوعي على الجسيمات. هذه النقاشات لم تكن مجرد محاولات فلسفية، بل تعكس الحاجة إلى تفسير الظواهر التي تتجاوز حدود التجربة التقليدية، مثل التراكب الكمومي والتشابك الكمي، والتي تبدو أحيانًا متناقضة مع الحدس الكلاسيكي للزمان والمكان.
لقد رأى آينشتاين أن النظرية الكمية غير مكتملة، وشاركه في هذا الرأي عدد كبير من العلماء والمفكرين. لم يكن رفضهم لصحتها التجريبية، فقد أثبتت التجارب صحة توقعاتها، بل كان اعتراضهم على محدوديتها المفاهيمية أمام التساؤلات الكونية الكبرى: ما طبيعة الواقع؟ هل يمكن للنظرية الكمية أن تقدم تفسيرًا شاملًا للكون؟ هل الواقع مستقل عن المراقب، أم أن دور المراقب أساسي في تحديده؟
ولنمدّ التفكير خطوة إضافية، نقترح تصورًا جديدًا: إدخال عامل خارجي إلى معادلة شرودنغر يمثل تأثيرًا محتملاً خارج حدود النظرية المحلية التقليدية. هذا العامل يفتح آفاقًا لتفسير الظواهر الكمومية في سياقات أوسع، ويقترح أن الواقع ليس ثابتًا بشكل مطلق، بل يتأثر بعوامل تتجاوز التجربة الأرضية المباشرة. الافتراضات الأساسية لهذا العامل هي:
1. تغيره مع الزمان والمكان: أي أنه ليس ثابتًا، بل ديناميكي، ويعكس احتمالية التفاعل مع متغيرات كونية قد تكون غير مرصودة حاليًا.
2. احتواؤه على معامل يعكس تأثير الوعي أو الإدراك الكمومي: مستندًا إلى جدالات فلسفية وعلمية حول دور المراقب في انهيار الدالة الموجية، هذا المعامل قد يوفر إطارًا رياضيًا لدراسة تأثير المراقب على الواقع الكمومي.
3. مقاومته للتأثيرات التقليدية مثل الحرارة والمجالات الكهرومغناطيسية: لضمان أنه يمثل عاملًا خارج نطاق الفيزياء الكلاسيكية المعروفة.
4. ارتباطه بسلوك الدالة الموجية المتغيرة مع الزمان والمكان: بما يسمح بإعادة تفسير التراكب الكمومي والتشابك على نطاقات غير محلية.
5. إمكانية إعادة تشكيل بنية معادلة شرودنغر عند تعميمها على نطاق كوني: حيث تتحول المعادلة من صياغة محلية إلى صياغة تتضمن تأثيرات خارجية أو «غير محلية» على مستوى الكون.
الشكل الجديد لمعادلة شرودنغر، مع هذا العامل الخارجي، يشير إلى أن التجربة على مقياس الأرض قد تظهر متطابقة مع النظرية التقليدية، حيث يصبح المؤثر مساويًا للصفر. إلا أن هذا التصور يسمح بالتوسع إلى نطاقات أكبر، مثل النظام الشمسي أو المجرات، لتفسير ظواهر لا يمكن للمعادلة التقليدية التعامل معها بدقة.
يسلط هذا التصور الضوء على سؤال جوهري: إذا نجحت هذه الصيغة اللا–محلية في تفسير التجارب على نطاق محلي، فهل تصبح النظرية الكمية نظرية كونية متكاملة؟
الجواب: لا. لأن النظرية، وإن أصبحت لا–محلية على مقياس الأرض، فهي تبقى محدودة عند الانتقال إلى نطاق المجرات والمجموعات الكونية، حيث تظهر متغيرات جديدة لم يتمكن العلم بعد من صياغتها رياضيًا أو تجربتها عمليًا. وهذا يشير إلى أن التوسع الكوني للنظرية الكمومية يتطلب مفاهيم وأدوات جديدة، وربما إعادة صياغة أساسية للفهم الكمي.
حين ندرك أن مجرتنا ليست سوى نقطة في كون شاسع يحتضن ملايين المجرات الأخرى، يتضح لنا أن تعميم النظرية الكمية على هذا الاتساع يتطلب تحررًا فكريًا عميقًا وحدودًا جديدة للرياضيات والفيزياء التجريبية. كما يتطلب إدراكًا لحدود العقل البشري والنماذج التي يمكن تحويلها إلى معادلات قابلة للحل أو اختبار التجربة.
بهذا المقال، نختتم سلسلة مفاهيم في الفيزياء فيما يخص النظرية الكمية بعد رحلة امتدت عبر 85 جزءًا. لم تكن هذه السلسلة مجرد عرض لنظريات، بل جولة فكرية مستمرة في أعماق التحديات التي تواجه الفيزياء المعاصرة، وفضولًا علميًا يطرح أسئلة لم تُجب بعد. ربما لا نملك كل الإجابات، لكننا نملك الشجاعة لاستكشاف الأسئلة – وهذا هو جوهر العلم. والسلسلة ستستمر في الأجزاء القادمة لتتناول فضاءات أوسع من النظرية الكمية، حيث عجزت هذه الأخيرة عن الإجابة عن بعض الأسئلة المحورية حول طبيعة الكون.
يتبع في الجزء 86.







د.فاضل حسن شريف
منذ 24 دقيقة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN