قيمة الوثائق الديموطيقية في العهد البطلمي الأول في تفهُّم حياة الشعب المصري من كل الوجوه
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 459 ــ 461
2025-11-04
43
تحدثنا في الجزء الأول من هذه الموسوعة (1) عن وجود نوع من الكتابة تُدعَى بالكتابة الديموطيقية، ثم تناولنا في الجزء الحادي عشر من نفس الموسوعة (2) الكلام عن أصل هذه الكتابة، واللغة التي نشأت عنها، وانتشارها منذ بداية الأسرة الخامسة والعشرين حتى بداية عهد البطالمة، وهو العصر الذي أصبحت فيه الديموطيقية من حيث اللغة والكتابة هي السائدة في البلاد المصرية بين أفراد الشعب المصري الأصيل، لدرجة أن لفظة ديموطيقية أصبحت تُطلَق على اللغة المصرية بوجه عام، كما تشير إلى ذلك المراسيم التي صدرت في عهد البطالمة. على أنه كان يُستَعمل بجانبها اللغة الإغريقية التي كانت لغة الشعب المستعمر وقتئذٍ طوال مدة حكمهم من أول عهد الإسكندر الأكبر حتى نهاية العهد الروماني.
أما اللغة المصرية القديمة، أو الكلام المقدس كما عبَّر عنه المصريون منذ أقدم العهود فكانت منذ بداية انتشار الديموطيقية، أو بعبارة أخرى اللغة العامية آخذة في الانزواء شيئًا فشيئًا في العهد البطلمي وما بعده، حتى أصبحت لا تُستعمَل إلا على جدران المعابد التي كانت لا تزال منتشرة في طول البلاد وعرضها انتشارًا عظيمًا لا يقل عما كان عليه في أزهى عصور الدولة المصرية القديمة في أبهى عصورها، ومع ذلك فإن ما كان يظهر منها في صورة مراسيم ملكية وضعتها الكهنة عن طيب خاطر بأمر من الملك كان يتبعها ترجمة باللغة الديموطيقية، وأخرى باللغة الإغريقية التي كانت وقتئذٍ من الوجهة القانونية اللغة الرسمية للبلاد.
ولما كان الشعب المصري الأصيل متمسكًا بتقاليده القديمة منذ أقدم العهود؛ فإنه استمر في تدوين كل شئونه باللغة الديموطيقية، ولم يحاول قط تعلم اللغة الإغريقية حتى دخل الإسلام البلاد، ومن أجل ذلك يجد الباحث في تاريخ عصر البطالمة أن مصر كانت تتألف بوجه عامٍّ من شعبين منفصلين الواحد منهما عن الآخر؛ من حيث الثقافة والدين والحياة الاجتماعية والتقاليد، وقد حتَّم ذلك على الباحث في تاريخ مصر في عهد البطالمة أن يفحص تاريخ الشعب المصري في تلك الفترة بوصفه وحدة قائمة بذاتها في كل أحواله، وإن الرابطة التي تربطه بالشعب المقدوني الإغريقي الذي كان يسيطر على أرض الكنانة وقتئذٍ لا تتعدَّى خيطًا رفيعًا جدًّا قد يُقطَع في أية لحظة، وإن شُقَّة الخلاف بينهما كانت واسعة إلى حدٍّ بعيد، وإن التأثير الذي أحدثه كلٌّ من الشعبين على الآخر لم يكن عميقًا بدرجة محسَّة، وبخاصة من الجانب الإغريقي، وذلك لأن الشعب المصري — كما نعلم — كان متمسكًا بمصريته إلى أقصى درجة من حيث التقاليد الدينية، وطرق الحياة التي مارسها منذ آلاف السنين؛ وذلك في حين نشاهد أن الشعب المستعمر وهو الشعب المقدوني الإغريقي كانت له حضارته النامية، وهي التي أخذ ينشرها في مصر وغيرها من بلدان آسيا، وقد أخذت هذه الحضارة تتطور على مرِّ الأزمان، وأخذ المستعمرون يفيدون منها على حساب الشعب المصري المستضعف، لدرجة أن أصبحت البلاد المصرية ضيعة يستغلها ملوك البطالمة لأنفسهم ومن حولهم لحسابهم الخاص، في حين كان الشعب المصري يئنُّ تحت عبْء الفقر والحرمان من جرَّاء الضرائب الفادحة، وسوء المعاملة في بلاده هو.
وعلى أية حال ازدهرت على ضفاف النيل حضارة هيلانستيكية على حدة كان لها شأن عظيم من حيث تقدُّم العلوم الإغريقية، والآداب الإغريقية؛ فكانت في الواقع مدينة إغريقية لحمًا ودمًا، ولا تمُتُّ إلى الحضارة المصرية في شيء اللهمَّ إلا ما نقله المستعمرون الإغريق منذ أزمان طويلة مضت.
ومما يُؤسَف له جد الأسف أن الشعب المصري لم يَسِر في ركب الحضارة مع المقدونيين والإغريق الذين استعمروا البلاد، بل ظلَّ جامدًا قابعًا في عقر داره منعزلًا عن العالم الخارجي وعن المستعمر الذي كان لا يتصل به إلا في فلاحة الأرض والأعمال اليدوية الأخرى التي كانت تحتاج إلى مجهود بدني؛ هذا بالإضافة إلى أن أكبر سبيل للتفاهم بين الشعبين وهي اللغة كانت معدومة بينهما؛ وذلك لأن الإغريقي كان لا يُقدِم على تعلم اللغة المصرية، لأنه لم يكن في حاجة إليها؛ لأنه السيد، وأكثر من ذلك، لأنها كانت لغة معقدة صعبة حتى على أهلها، ولا نزاع في أن عدم اختلاط المصري بالعالم الخارجي وقتئذٍ يرجع أصله إلى عامل اللغة.
.........................................
1- راجع مصر القديمة الجزء الأول.
2- راجع مصر القديمة الجزء الحادي عشر.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة