النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
الإمام المهدي "عج" وهجرة الأنبياء وغيبتهم
المؤلف :
الشيخ محمد السند
المصدر :
الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية
الجزء والصفحة :
ص305-332
2025-05-21
51
يبيّن القرآن الكريم ويبرز لنا أنَّ النبيّ إبراهيم عليه السلام حينما أراد أن يقوم بمشروع الإصلاح الإلهي ، استعصى عليه المجتمع النمرودي والنظام النمرودي ، فأخذ موقع الانسحاب في السطح الظاهر وليس انسحاباً في الواقع ؛ لأنَّه عليه السلام لم يترك مجتمعات الشرق الأوسط سدىً وعبثاً ، بل استطاع أن يحوّلها من الوثنية إلى الملّة الحنيفية ، وهذا مشروع جبّار جدَّاً ، فانسحب كما نسمّيه انسحاباً تكتيكياً أو تدبيرياً مؤقّتاً بتوقيت من الله عز وجل ، سواء طال أمده كما في النبيّ نوح أو لم يطل كما في غيره من الأنبياء ، المهمّ أنَّه في سنن الله تعالى أنَّه في السطح الحسّي المعلن الظاهر قد ينسحب المصلح ويغيب ويهاجر بحسب الإدراك الحسّي ، أو بحسب الحياة المعتادة المبصرة بأدوات الحسّ ، وإن كان هو ليس بغائب في الحقيقة ، فهنا أيضاً يستعرض لنا القرآن الكريم هجرة وغيبة النبيّ إبراهيم عليه السلام ، وإن كانت هي غيبة نسبية وليس غيبة مطلقة كما في النبيّ عيسى أو في الإمام المهدي ، فما يقصّه لنا القرآن الكريم حول النبيّ إبراهيم : ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ( مريم : 48 ) ، فعندما يستعصى المجتمع للإصلاح في السُنّة الإلهية يتَّخذ المصلح دور الانسحاب في الظاهر ، كي لا يصفّى أو يباد أو يسلّم بأيدي جلاوزة نظم الشرّ ، فالنبيّ إبراهيم اتَّخذ أسلوب الغيبة النسبية وهو أسلوب الهجرة ، ( وَأَعْتَزِلُكُمْ ) هو نفس التعبير الذي مرَّ في سورة الصافات : ( إِنِّي ذاهِبٌ ) ، وهذا ليس انكفاءاً وانحساراً حقيقياً من أنبياء الله والمصلحين كما يروق للبعض أن يقول : أين الإمام وخليفة النبيّ الثاني عشر المعدّ للإصلاح ؟ وكيف ينكفئ أو ينحسر عن أداء المسؤولية ؟ وإنَّما هو تدبير وتكتيك من النشاط في السطح المعلن إلى النشاط الخفي ، كي يُفسح له المجال بشكل أرحب وأوسع ليمارس أداء دوره ، فهذه سُنّة إلهية في كلّ الأنبياء ، كما في النبيّ إبراهيم ، ومرَّ بنا في النبيّ عيسى ، فلمَّا اعتزلهم وما يعبدون أيَّده بالنصر الإلهي ؛ لأنَّ أسباب القوى ومعادلات القوّة تجتمع وتتركَّز لديه في حركته وانطلاقه ونشاطه وأدائه ، بخلاف ما يكون علناً ومكبَّلًا ومقيَّداً ، وهذه نظرية أمنية في السُنّة الإلهية للأنبياء والرسل والمصلحين الإلهيين يبيّنها القرآن الكريم ، وهي الآن في البشرية أصبحت من أبجديات العلم السياسي والعلم الأمني والعلم الاستراتيجي ، وكذلك في سورة العنكبوت ترد الهجرة والغيبة النسبية للنبيّ إبراهيم : ( فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي ) ( العنكبوت : 26 ) ، انكفاء وانحسار سطحي في الحسّ المعلن ، لا في الحقيقة ، وإلَّا فالنبيّ إبراهيم عاد بعد ذلك مظفراً مؤيّداً منصوراً بأن قَلَبَ المجتمعات في الشرق الأوسط وبما فيها العراق أيضاً من الملّة الوثنية إلى الملّة الحنيفية المسلمة ، وهذا عمل عظيم جبّار قام به شيخ الأنبياء وهو النبيّ إبراهيم ، ولا تستطيع مئات وعشرات الدول أن تقلب عادات وأعراف المجتمعات فضلًا عن عقيدتها ، ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، إذن هو قد أمَّ الناس ، لكن بالتدبير تحت السطح وبالتدبير الخفي ، لا بالتدبير المعلن حتَّى لا يكبَّل حينذاك بأغلال وبمقاومة وبتصفية أنظمة الشرّ ، فكانت النتيجة النصر والظفر المؤيَّد من قبل الله تعالى في إنجاز هذا المشروع الإلهي الكبير .
فهذه سنن يستعرضها لنا القرآن الكريم دواليك متتالية في الأنبياء والرسل ؛ للتدليل على أنَّ هذه سُنّة إلهية متكرّرة دائبة دائمة ، يكرّرها القرآن الكريم لنا في النبيّ إبراهيم وفي النبيّ موسى وفي النبيّ عيسى وختاماً بالمهدي المنتظر عليه السلام ، وكذلك في النبيّ يونس عندما استعصى عليه مجتمعه في الإصلاح ، فابتعد عليه السلام عنهم ، ولكنَّها لم تكن هجرة ، بل كانت متاركة ، وإنَّما يتلو الهجرة عودة للإصلاح ، ( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) ( يونس : 98 ) ، وفي سورة الصافات حول النبيّ يونس : ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ . . . ) ، إلى أن تقول الآيات الكريمة : ( وَأَرْسَلْناهُ ) ، تجديد الدور والقيام بالمسؤولية أكثر : ( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) ( الصافات : 148 139 ) ، وهذه ظاهرة أخرى في نبيّ رابع يستعرضها لنا القرآن الكريم ، وهي هجرة وغيبة النبيّ يونس ، كما هاجر وغاب النبيّ عيسى والنبيّ موسى والنبيّ إبراهيم ، وهناك سلسلة من الأنبياء أيضاً على هذا المنوال .
الهجرة والغياب الحسّي عن المجتمعات الفاسدة :
هذه الظاهرة السابعة التي نحن فيها هي من الظواهر القرآنية العظيمة التي بيَّنها الله عز وجل في قرآنه الكريم ، وهي دلائل نيّرة وبيّنة على ما امتحن به المسلمون والمؤمنون ، محن اعتقادية وعقيدية في ظلّ وظرف قرون متطاولة من غيبة آخر العترة النبوية الإمام المهدي عليه السلام ، والتي هي عقيدة يؤاخذ عليها ويحاسب عليها كلّ مسلم وكلّ مؤمن بما سطر الله عز وجل وشيَّد ودلَّل وعزَّز بيّنات ودلائل وآيات هذه العقيدة في قرآنه الحكيم ، وهي من الدلائل على إمامة أهل البيت عليهم السلام ولاسيّما الإمام الثاني عشر الذي وعد الباري تعالى بأن يظهر على يديه الدين كلّه في أرجاء الأرض كافّة ولو كره الكافرون والمشركون ، هذا الوعد الإلهي العظيم سيكون إنجازه على يد المهدي من ذرّية النبيّ وولد فاطمة وعلي ، فالعقيدة بحياته وببقائه في ظلّ هذه القرون وفي العصر الراهن كما بيَّن لنا القرآن الكريم في الظاهرة السادسة التي مرَّ استعراضها في النبيّ عيسى ، وأنَّ القرآن آخَذَ اليهود والنصارى وسلب عنهم الإيمان على مقالتهم بتصفية وإبادة النبيّ عيسى ، أي محاسبتهم على عدم القول ببقاء حياة هذا الموعود به ليكون له دور في دولة الإصلاح الشامل دولة الإمام المهدي ، فالعقيدة بالإمام المهدي عليه السلام وحياته إذن عقيدة في صلب الإيمان بصدق الوعد الإلهي بأن يظهر هذا الدين على الدين كلّه على أرجاء الأرض كافّة ، فبأهل البيت يختم الله عواقب الأمور ويصلحها ويفشي القسط والعدل في أرجاء الأرض كافّة ، وقد أقام القرآن الكريم على هذه العقيدة شواهد عديدة في سنن الأنبياء ، ومرَّ بنا استعراض ستّ ظواهر ، ودخلنا في الظاهرة السابعة التي هي متَّصلة ومرتبطة بالظاهرة السادسة ، وهي من ظواهر القرآن الكريم للدلالة على العقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، وهي ظاهرة هجرة الأنبياء كسُنّة مشتركة ، فكما مرَّ في الظاهرة السادسة في آخر محطّة من رفع الله تعالى للنبيّ عيسى وإبعاده عن مكر وكيد اليهود : ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ( النساء : 158 ) ، وأيضاً في قوله تعالى : ( وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ( آل عمران : 55 ) ، وقد تكرَّر نفس هذا المطلب في النبيّ إبراهيم عندما هاجر وغاب نسبياً عن المجتمع النمرودي ، عندما كان موقف قومه في قوله تعالى : ( فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ ) ( العنكبوت : 24 ) ، هنا عندما يستعصي النظام الاجتماعي السياسي على المصلح الإلهي ، يبدأ المجتمع بخطّة الإبادة والتصفية لوليّ الله وحجّته ، فمن ثَمَّ يكون التدبير الإلهي في الانكفاء الظاهري ، أي في الانكفاء بحسب الصورة الظاهرة وليس بحسب الواقع ، نظير ما يذكره القرآن الكريم من تحريم الفرار من القتال أو الإدبار بدل الكرّ على الجبهة المقابلة ، إلَّا متحرّفاً ، فيقول : ( وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ) ( الأنفال : 16 ) ، يعني قد يستدبر المقاتل والمقاوم ، ولكن ليس لأجل التقاعس ، وليس لأجل الفرار ، وإنَّما لأجل التحرّف ، أي التدبير ورسم الخطّة من جديد لأجل القيام بهذه المهمّة والمسؤولية ، فهذا في الواقع ليس انكفاءاً ولا انحساراً حقيقة ولا غياباً حقيقة ، وإنَّما هو تدبير جدّي جهدي أكثر جدّية وقوّة وصرامة وجدوائية في القيام بالمسؤولية ، وبعد أن رأى قومه أن يقتلوه أو يحرّقوه قال : ( إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( العنكبوت : 26 ) ، هنا استشهد النبيّ إبراهيم في هجرته وغيبته عن المجتمع النمرودي لحفظ نفسه ولإنجاز التدبير بشكل أكثر فاعلية وفي خفاء ، استشهد بعزّة الله وحكمته وقدرته ، يعني أنَّ من عِزّ قدرة الله في تدبير الأمور للمصلحين الإلهيين وحكمته أن ينكفئوا بحسب الظاهر ، وإن كانوا بحسب الواقع مقبلين مقدمين لأجل الإنجاز بشكل أكثر جدوائي وأكثر قوّة للمهمّة الموكَّلة إليهم ، هذا ما مرَّ في النبيّ إبراهيم . فكما أنَّ الله عز وجل في رفعه للنبيّ عيسى استشهد بأنَّ ذلك من عزّة ومنعة قدرة الله : ( بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) ( النساء : 158 ) .
إذن هذه الهجرة والسُنّة للغياب سُنّة مشتركة في الأنبياء ، ليس لأجل الفرار كما قد يتخيَّل المتخيّلون ، وإنَّما لأجل معاودة الإقدام بتدبير أكثر قوّة وأكثر فاعلية ، وكذلك في ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيّ موسى : ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ( القصص : 21 ) ، هذا الخروج ليس خروج هروب وتقاعس وإلى الأبد ، وإنَّما لأجل استعادة القوّة ونظم القوّة والتدبير ، لكي يكون الإقدام اللاحق إقداماً مؤثّراً ، كذلك ما قصَّته سورة الشعراء : ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( الشعراء : 21 ) ، وفي يونس أيضاً مرَّت الآيات الكريمة أنَّه عندما خرج من قومه عندما استعصوا عليه عاود في التدبير الإلهي : ( وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) ( الصافات : 147 و 148 ) ، وأيضاً كانت هجرة النبيّ يونس وغيابه عنهم نوعاً من التدبير أيضاً ، بحيث آل بهم الأمر إلى الإيمان : ( فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ) ( يونس : 98 ) .
فهذه هي سيرة متكرّرة في الأنبياء ، وكذلك في سيرة سيّد الأنبياء ، وإن كانت هذه يمكن اعتبارها ظاهرة ثامنة ، ولكن بشكل مشترك نريد أن نسلّط الضوء على الجهة التي يتساوى عندها الأنبياء . نلاحظ أيضاً في سيرة سيّد الأنبياء محمّد صلى الله عليه وآله هجرته عندما أرادت قريش أن تبيده وتصفّيه ، فهنا كانت سُنّة الله وهي الهجرة ، وقبل هجرته غاب في الغار صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيّام ، إلى أن أذن الله له بالظهور والخروج ، فهذا ليس انكفاء وانحساراً وفراراً حقيقةً ، وإنَّما هو استعادة تدبير واستعادة قوى ونظم برمجي لنفس القيام بمسؤولية ومسار أداء الواجب الإلهي وإنجاز الأهداف الإلهية ، وكذلك في أمر النبيّ المسلمين بالهجرة إلى الحبشة ، وكانت مؤقّتة ، وكذلك لإخفاء النبيّ للدعوة الإسلاميّة إلى أن أمره الله عز وجل بأن يصدع بالأمر .
فنرى أنَّ هناك سُنّة إلهية مشتركة في جميع الأنبياء هي الهجرة أو الغياب ، وهي في الحقيقة إعادة إقدام بشكل قوي مدبَّر ، ولكي ينجز الظفر والنصر ، طالت هذه الهجرة أم قصرت ، كما في النبيّ عيسى فهي الآن قد طالت ، لكن بتدبير من الله وحكمة ، وكما في النبيّ نوح ، حيث تستعرض لنا رواية أخرى عنهم عليهم السلام إبطاء نوح عليه السلام وأنَّه لمَّا استنزل العقوبة على قومه من السماء بعد أن طال الأمد ، أسفر الصبح عن الليل ، وصرح الحقّ عن محضه ، وصفي الإيمان من الكدر ، ليصدق وعده بأن يستخلف في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل الولاء ، ويمكّن لهم دينهم[1] ، يعني هناك سُنّة إلهية في الامتحان البشري ، بأنَّ برنامج الإصلاح للسطح الظاهر يتمّ بنحو التدريج وبنحو خفي ، إلى أن ينتهي به المآل أن يظهر إلى العلن ، وهذه أيضاً سُنّة وحكمة يستعرضها لنا القرآن الكريم في النبيّ نوح .
وهذه الظواهر السبعة القرآنية ، ونحن في الظاهرة السابعة من هجرة الأنبياء وغيبتهم عن مجتمعاتهم لئلَّا يكبَّلوا بالقيود والأعراف الظالمة السياسية لتلك المجتمعات التي تقع على عاتقهم وكاهلهم مسؤولية إصلاحها وإقامة الصلاح والإصلاح فيهم ، أقام الله عز وجل الظواهر القرآنية العديدة كآيات مغزاها الشهادة لهذه العقيدة ، مضافاً إلى الاعتقاد بنبوّات الأنبياء السابقين وأدوارهم ، لذلك عندما يستعرض القرآن الكريم في سورة الزخرف أنَّ النبيّ عيسى سيكون من رموز الإصلاح في دولة الإمام المهدي : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) أي النبيّ عيسى ( فَلا تَمْتَرُنَّ بِها ) ( الزخرف : 61 ) ، بما تفيض الآيات وتبدي الآيات ، وهذا الخطاب الإلهي قبل ذلك : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ) ( الزخرف : 57 ) .
فمن البيّن الظاهر أنَّ استعراض الله عز وجل للأنبياء مضافاً إلى حكمة لزوم وجوب الاعتقاد بنبوّاتهم وبرسالاتهم وبمبادئ التوحيد والعقيدة التي بعثوا بها ، يفيدنا القرآن وينادي بأنَّ استعراضه لهم ولظواهرهم هو لحكمة إلهية ، والدواعي لهذه الحكمة الإلهية هي كونهم أمثالًا لما يُبتلى به جمهور هذه الأمّة وأجيال هذه الأمّة الإسلاميّة من وظائف اعتقادية ، وأمثالًا لما تمتحن به هذه الأمّة من محاور عقائدية ، وأيّ محنة الآن أعظم من هذه المحنة والامتحان الذي امتحن به المسلمون ، وامتحن به المؤمنون في أن يعتقدوا بوجود العترة المقرونة كثقل مع القرآن وعدل له وهم أصحاب الفيء ، وأصحاب الخمس وأصحاب دعوة إبراهيم في ذرّيته من الإمامة من نسل إسماعيل ، وأصحاب كثير من الأوسمة القرآنية التي تستعرضها طوائف آيات القرآن الكريم ، وأنَّهم المطهَّرون الذين يمسّون الكتاب ، وأنَّ الله سيجري على أيديهم وعده بإفشاء العدل والقسط في الأرض وإظهار الدين ، هذه عقيدة قرآنية أصيلة ، وهي من الامتحانات والمحن العقائدية الكبرى ، ذكر القرآن الكريم هذه الفرائض الاعتقادية وأقام الله عز وجل المثال والظواهر والشواهد لها ، مضافاً إلى لزوم الاعتقاد بهذه الأمور وبنبوّات الأنبياء .
يستعرض القرآن الكريم حكمة أخرى وذلك في قوله : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) ، أنَّ ذكر النبيّ عيسى عليه السلام ، بل جميع الأنبياء السابقين فيما جرى عليهم من أحوال وأحداث وسنن ، إلى جانب الفريضة الأولى الأصلية في الاعتقاد بهم وبنبوّاتهم ، هناك حكمة أخرى ثانية وهي أنَّهم مثل ضُرب لما يبتلى به المسلمون أيضاً في عقائدهم بالحجج المنصوبين عليهم من قِبَل الله تعالى ، فهذا صريح القرآن يقول : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) ، في نفس الآيات التي تستعرض أنَّ عيسى سوف ينزل ويظهر لدولة الإصلاح في سورة الزخرف : ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ) ( الزخرف : 61 ) ، فليستيقظ هؤلاء الذين يصدّون عن التدبّر في ظاهرة النبيّ عيسى ، كمثل لما يلزم عليهم الاعتقاد به في شريعة خاتم المرسلين ، وما الشيء الذي يشابه في شريعة خاتم المرسلين لظاهرة النبيّ عيسى من غيبته وحماية وحراسة الله له ؟ ألا وهي ظاهرة الإمام المهدي عليه السلام من طول غيبته ، كطول غيبة النبيّ عيسى وحراسة الله له وإعداده وادّخاره للإمام المهدي ليقوما بدولة الإصلاح ، وكذلك في جميع الأنبياء في الظاهرة السابعة التي نحن فيها من هجرتهم وغيبتهم وانكفائهم في الظاهر عن مسرح الأحداث ليقدموا مرَّة أخرى في التدبير وإنجاز الوعد الإلهي .
ومرَّ بنا في هجرة النبيّ إبراهيم ، أنَّ قيام النبيّ إبراهيم بهذا الإنجاز الحضاري المخلَّد ؛ وهو الملّة الحنيفية التي لا زالت تركة إلهية عظيمة ورثتها البشرية إلى يومنا هذا ، فالأديان السماوية الباقية هي كلّها متشعّبة من الملّة الحنيفية ، ومن الواضح أنَّه ليس عملًا فردياً ، وقد خاطبه الله بجعل منصب له : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، بل هذا الإنجاز يقوم به في الواقع مجموعة من عناصر الشبكة الإلهية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف وفي سور أخرى ، كالخضر أنَّه : ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، كلّ منهم موصوف بأنَّه : ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، هذه في الواقع ليست شبكة وجدت بنحو المصادفة والاتّفاق في زمن النبيّ موسى ، بل هي في الواقع كما يحدّثنا القرآن الكريم أنَّها من سنن الله في إقامة الإصلاح وإقامة برامج السماء في مجتمعات الأرض ، وفي الطبيعة البشرية على يد الأنبياء والرسل والأئمّة الخلفاء ، أن يقوموا بالإمامة في الأرض : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 30 ) ، إنَّ وجود الخليفة في الأرض هو لدرء الفساد في الدماء وسفكها ، أي لإقامة الإصلاح ، وهذه مجموعة من السنن والظواهر القرآنية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم حول الأنبياء طالت أم قصرت ، وهذه الغيبة والهجرة عندهم في سننهم كما مرَّ بنا في استعراض حديث عن الأئمّة عليهم السلام حول طول برنامج الإصلاح الذي قام به نوح ، وإن كانت هي ظاهرة نستطيع أن نسمّيها ثامنة ، ولكن أيّاً ما كان نستطيع أن ندرجها في الظاهرة السابعة من إبطاء الوعد بالإصلاح والنصر والظفر الذي وعد به النبيّ نوح عليه السلام ، فإبطاء النبيّ نوح عندما استنزل من الله عز وجل الظفر والنصر من السماء على قومه ، وطال هذا الانجاز الإلهي ما يقارب من العشرة قرون ، لكن أسفر الصبح عن الليل ، وصرح الحقّ عن محضه ، وصفي الإيمان من الكدر ، هو أحد حكم الله عز وجل في تدريجية الإصلاح وإطالة الوعد ، كي يصدق الباري تعالى وعده بأن يستخلف في الأرض الذين أخلصوا في التوحيد والإيمان والذين اعتصموا بحبل الولاء ، وليمكّن لهم دينهم ويبدّل خوفهم أمناً ، وهذه سُنّة إلهية في الإبطاء ، وهي كظاهرة ثامنة ذكرناها وهي في الواقع إلى جانب الظاهرة السابعة ، ( وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) ، كي تخلص العبادة له تعالى : ( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ( النور : 55 ) ، فكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين ، ومع وجود من دان بالإيمان ولكن لم يصْفُ قلبه ، ومن أسرَّ منهم النفاق ونشأت سرائره على النفاق والضلال فيكاشفونهم بالعدواة والحرب ؟
هذه الظواهر الثمانية في الواقع هي ظواهر قرآنية مفعمة ضربت مثلًا كفرائض اعتقادية وكأمثال لما تمتحن به هذه الأمّة من عقائد ومحاور تجاه خلفاء النبيّ الأئمّة الاثني عشر ، وثاني عشرهم الإمام المهدي عليه السلام ، بما وعد به العالم الإسلامي والعالم البشري من دولة الإصلاح .
جهة الاشتراك بين الهجرة والغيبة :
اتَّضح أنَّ سُنّة الهجرة هي سُنّة إلهية في الأنبياء ، واستعرضها لنا القرآن الكريم في مجمل أو جلّ الأنبياء السابقين ، كما مرَّ بنا في النبيّ إبراهيم ، والنبيّ موسى ، والنبيّ عيسى ، وأيضاً في النبيّ يونس ، والنبيّ يوسف إنَّ صحَّ إطلاق الهجرة على ابتعاده عن أبيه وإخوته . المهمّ أنَّ هناك سلسلة من الهجرات التي استعرضها لنا القرآن الكريم في الأنبياء ، للتدليل على أنَّ هذه سُنّة جارية من الله عز وجل ، وكذلك في سيّد الأنبياء ، والرعيل الأوّل من الذين استجابوا لدعوة الإسلام في الهجرة الأولى للحبشة بقيادة جعفر بن أبي طالب ، وأيضاً في الهجرة الثانية إلى المدينة المنوَّرة عندما بات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في فراش النبيّ صلى الله عليه وآله ، واختفى سيّد الأنبياء في الغار ، ثمّ هاجر إلى المدينة المنوَّرة ، ولحق به علي بن أبي طالب ، ثمّ إنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يدخل المدينة حتَّى لحق به ابن عمّه علي بن أبي طالب مع الفواطم وفيهنَّ فاطمة الزهراء وفاطمة بنت أسد ، المهمّ أنَّ هذه الهجرات في الحقيقة نراها تتكرَّر دواليك عند الأنبياء ، وإذا أردنا أن نمعن بشيء من التحليل وبشيء من الاتّعاظ والعبرة في هجرة الأنبياء عن المجتمعات الفاسدة ، باعتبار أنَّ النظام الظالم الجائر الذي لا يعتمد شريعة العدالة السماوية بالتالي يكون نظاماً ينتج ويثمر الرجس والنجاسات الخلقية والمادية وما شابه ذلك ، سواء وعاها البشر ، أو غفل عنها ، فانسحاب الأنبياء إن صحَّ أن يطلق عليه التكتيكي أو المناوري هو لأجل القيام بإقدام أشدّ ثباتاً للإصلاح ، فإنَّ عملية الانكفاء في الظاهر ثمّ الانقضاض على بؤرة الفساد سُنّة إلهية في الأنبياء سمّيت هجرة وسمّيت غيبة خفاء ؛ لأنَّ الغيبة في الواقع نوع من الهجرة ، والهجرة هي نوع اختفاء أيضاً ونوع ابتعاد عن السطح المعلن ، وكذلك في الغيبة ، فهناك جهة اشتراك واضحة إذن بين الغيبة والهجرة ، وهي نوع من الانكفاء والانحسار في المواجهة الظاهرية ، وإن كان هناك في الواقع إمساك بأزمّة الأمور في الباطن .
هذه جهة اشتراك بين هجرات الأنبياء وهي ظاهرة سابعة قرآنية في غيبة الإمام المهدي وغيبة حجج الله ، وأنَّ ذلك ليس ببدع في سنن الله تعالى في أنبيائه ، بل هي نوع من المناورة ونوع من المحاسبة لإبقاء مسيرة الإصلاح ولإبقاء دفّة النهضة الإلهية قدماً لتثبيت وإقامة وإنجاء بُنى وأعمدة الإصلاح ، فهذه جنبة اشتراك .
الفوارق بين الهجرة والغيبة :
أمَّا جنبة الافتراق بين الهجرة أو هجرات الأنبياء ، وبين الغيبة التي يقاوم بها بعض منهم كما مرَّ بنا أو هي واقعة في مسيرة الإمام المهدي عليه السلام والتي هي طبعاً بمعنى غيبة خفاء وليست غيبة وجود ، أنَّ هناك فرقاً فيزيائياً إن صحّ التعبير أو فرقاً حسّياً مادّياً بين الهجرة والغيبة ، وهو أنَّه في الهجرة ربَّما يكون ابتعاد في الوجود ، أو ابتعاد بدني يكون بين النبيّ المهاجر أو الوصيّ والحجّة المهاجر والمجتمع الفاسد ، يكون نوع من الابتعاد البدني أو الابتعاد الجغرافي ، وإن لم يكن هو ابتعاد في التدبير ، وإن لم يكن هو ابتعاد في التفاعل مع الواقع الفاسد لأجل إصلاحه ، ولكنَّه ابتعاد جغرافي ، أمَّا في الغيبة فليس هناك في البين ابتعاد جغرافي ولا ابتعاد بدني ، وإنَّما هو عبارة عن اختفاء في المعرفة واختفاء في الشعور واختفاء في علم البشر ، يعني بعبارة أخرى الاختفاء عن إدراك البشر ، أو الاختفاء عن انتباه البشر للحجّة ، في حين أنَّه حاضر ، ومن ثَمَّ مرَّ بنا مراراً في منطق القرآن الكريم في الأنبياء السابقين ، وكذلك في الإمام المهدي عليه السلام ، وبضرورة أحاديث المسلمين أيضاً ، أنَّ الغيبة مقابل الظهور ، والظهور يقابله الخفاء ، وليست الغيبة مقابل حضور أو ابتعاد أو مزايلة كما في الهجرة .
وفي الغيبة امتياز إيجابي تتميَّز به على الهجرة ، وهو عدم الابتعاد البدني ، وليس الابتعاد الحضوري ، ولا الابتعاد عن كبد مركز الحدث ، بينما في الصورة الظاهرة في الهجرة يبدو هناك ابتعاد عن الساحة الساخنة الملتهبة الملتحمة في الحدث إلى أن تكون هناك مناورة للانقضاض مرَّةً أخرى ، وهذا جانب مهمّ في الفرق بين الغيبة والهجرة .
وهناك فارق آخر أيضاً بين الغيبة والهجرة في الأنبياء ، هو أنَّ في ظلّ الغيبة يتمّ مباشرة وعلاج مواضع ومفاصل الداء والمرض ، والانحراف في نظام المجتمع بشكل مباشر وبشكل عمقي وبشكل من الداخل ، بخلاف الهجرة ، فالهجرة تتمّ فيها معالجة المرض في بدن وجسم النظام الاجتماعي من الخارج ، ومن الواضح أنَّ المعالجة من الداخل لا ريب أنَّها تكون أكثر تثبيتاً وأكثر تأثيراً عن المعالجة من الخارج ، فالمعالجة من أعماق الداخل في الواقع معالجة تكون أساسية وبنيوية وجذرية وفيها دوام وثبات ، بخلاف المعالجة عندما تكون من الخارج والتي قد تكون معالجة مسكّنة لبعض الوقت ، ولكن ما أن يذهب ذلك المسكّن ، فقد يحدث انقلاب أو ارتداد ، كما حذَّر منه القرآن الكريم في قوله تعالى : ( وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ) ( آل عمران : 144 ) ، وإن كانت معالجة النبيّ صلى الله عليه وآله للبشرية لا زالت مستمرّة ، ومعاجلة خلفه والثاني عشر من ولده الإمام المهدي هي يد من أيادي نبيّ الرحمة وسيّد الأنبياء ، ولكن القصد هنا بيان الفرق بين معالجة الهجرة في الواقع وبين معالجة الغيبة ، أنَّه في الغيبة تكون معالجة داخلية من الأعماق يتمّ بها انتشال البشرية من الانحراف .
والمغزى العظيم الذي تؤكّده هذه الظاهرة المنتشرة بشكل وافر وسيع جدَّاً في كثير أو في أكثر الأنبياء الذين استعرض لنا القرآن الكريم حياتهم ، وكذلك بقيّة الحجج والأوصياء هي ظاهرة الهجرة عن المجتمعات الفاسدة والأنظمة الجائرة والعروش الفرعونية أو النمرودية أو غيرها ، أو اللوبي الحبري اليهودي وما شابه ذلك كما في النبيّ عيسى عليه السلام ، فهذه الهجرة المنتشرة كظاهرة وسيعة ومتّسعة الأمثولة في كثير من الأنبياء مغزاها أنَّه ليس في التدبير الإلهي أو في سُنّة الله في الأمر الجاري أن تكون الأمور ( كن فيكون ) ، وإنَّما الأمور تأخذ منحة تدريجية ، في حين أنَّ هذه المنحة التدريجية التي تأخذ سياسة السماء والسياسة الإلهية في الإصلاح فيها نوع من المشاورة ، فليست إذن هي حالة على شاكلة وسيرة واحدة ، ولا هي دفعية ، بل تدريجية تتَّخذ أساليب وأدواراً وألواناً ، وإقداماً وإحجاماً ، وكرَّاً وفرَّاً ، وهذا الفرّ ليس فراراً ، وإن كان في صورته وظاهره كذلك ، بل هو تحرّف للقتال ، لقتال الفساد ، ولمواجهته ، فهو أسلوب المناورة وأسلوب التدبير وأسلوب المنهجة والتكيّف .
فليس حينئذٍ إلَّا عبطاً ، ومن برود من التفكير أن يظنّ الظانّ أنَّ أسلوب المصلحين في السنن الإلهية ، المصلحين من قبل السماء أن يتَّخذوا شاكلة واحدة ونمطاً واحداً من البرنامج ، ومن نظام الدعوة والإصلاح ، بل في الواقع هناك نظم وبدائل وفصول كثيرة يمرُّ بها مسير الإصلاح لكي يصل إلى النتيجة والغاية ، وهذه نكتة مهمّة أخرى يجب أن نستفيدها من الهجرة ، من هجرة الأنبياء ، أنَّ هناك نوعاً من الغروب ، ثمّ الطلوع ، نوعاً من غشيان ليل الظلمة ، ثمّ يسفر الصباح عن نوره وعن ضيائه وعن نفعه ، فبالتالي لا يظنّ الظانّ أنَّ السُنّة الإلهية في الإصلاح هي دائماً نهار ودائماً صباح ، بل قد يكون هناك نوع من الفترة والأوقات التي تمرُّ بها تكوير الليل والنهار ، فإذن هناك نوع من الطلوع والغروب والأفول والظهور وما شابه ذلك .
الفترة بين الأنبياء والحجج :
في الحقيقة نستطيع أن نضمّ إلى هذه الظاهرة السابعة فقرة أخرى مهمّة جدَّاً ، ألا وهي فقرة ما عرف بالفترة ، وفي اصطلاح الشريعة ولسانها تكون الفترة تقريباً ظاهرة تابعة ومنضمّة إلى ظواهر الأنبياء ، كظاهرة الهجرة ، هناك ظاهرة الفترة بين الرسل ، وقد ورد هذا التعبير أيضاً في القرآن الكريم : ( قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ) ( المائدة : 19 ) ، الفترة في الواقع فتور ، وهو نوع من الغروب في الظاهر لدعوة السماء ، أو البرنامج الإلهي حسب العلن الظاهر ، ولكن ليس هو انقطاع ، وليس هو انسداد إلى الأبد ، وإنَّما هو أيضاً نوع من التدبير الإلهي في سُنّة التدريج في الإصلاح ، فيتبيَّن لنا إذن أنَّ سُنّة الإصلاح فيها ليل ونهار ، وفيها طلوع وأفول ، وفيها بزوغ وفيها غروب ، فليست إذن هي على شاكلة واحدة ؛ حتَّى يصل إلى نهاية المحطّة من الإصلاح الشامل التامّ العامّ في أرجاء الكرة الأرضية كافّة ، كما وعد به الباري تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) ، إظهار الدين : ( وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) ( الذارايات : 56 ) ، ففيه انتظار وفيه ترقّب وفيه توقّع .
فالانتظار يحمل معنى البصيرة من النظر ، وهذا نستفيده من هذه العناوين بكثرة حول شأن الإمام المهدي عليه السلام ، وهذه العناوين الثلاثة في الحقيقة هي كلّها مستقاة أيضاً من السنن التي جرت في الأنبياء السابقين ، هجراتهم ، أو الفترات .
الانتظار يعني أنَّ ثاقب النظر يرى المستقبل وأمل المستقبل وتغيّر المستقبل ، وأنَّ المسيرة ليست على شاكلة واحدة ، وليست سرمدية الليل ، بل سيبزغ الصبح ، ( أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ) ( هود : 81 ) .
الانتظار يحمل معنى البصيرة للمستقبل من خلال ما يتَّعظ به المسلم والمؤمن والقارئ للقرآن الكريم في ظواهر قصص الأنبياء السابقين وسنن الله في برنامج الإصلاح والدفع بعجلة مشروع الهداية والفلاح .
والانتظار أيضاً يعني التوقّع ، ويعني ما سيقع ، وكيفية مساهمة المؤمن نفسه في التوقع ،
( منتظر لأمركم ، مرتقب لدولتكم )
كما ورد في الزيارة الجامعة[2]، وفي زيارة أمير المؤمنين عليه السلام والدعاء عنده ورد أيضاً : ( معتصم بحبلكم ، متوقّع لدولتكم )[3]، فالتوقّع من الوقع ، وبالتالي الوقوع إذ كان صفة من صفات المؤمن أنَّه متوقّع أي مشارك فيها سيكون من وقوع حدث مهمّ عظيم في الوعد الإلهي المضمون إنجازه ، فلا يكون المنتظر منتظراً بدون أن يكون متوقّعاً ، أي مشاركاً ومساهماً في وقوع هذه الحدث والوعد الإلهي العظيم ، كما يبيّن لنا القرآن الكريم في هذه الظاهرة السابعة من هجرات الأنبياء أنَّ المهاجرين من المخلصين ممَّن احتفَّ بالنبيّ صلى الله عليه وآله ، المؤمن منهم والذي كانت هجرته لله ولرسوله لا للأثرة والأموال وطمع الدنيا ، يخصُّ القرآن الكريم المديح بالصافي النيّة منهم بقوله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) ( النور : 55 ) ، فالمؤمن منهم ممَّن كان صحيح النيّة في برنامج الهجرة هو أيضاً كان مساهماً في وقوع الإصلاح . فالمتوقِّع إذن صفة للمؤمن تجاه العقيدة بالإمام المهدي نستخلصها من هجرات الأنبياء ومن كان معهم من المخلصين ، المتوقّعين ، المنتظرين ، والانتظار بلا توقّع يعني انتظاراً بلا مشاركة وإسهام ، وهذا انتظار سلبي ، والمترقّب في الحقيقة هو الذي يكون له نوع من الرقابة ، وهو عبارة عن تحمّل المسؤولية أيضاً ، وهو ضمانة وحراسة لمسيرة الإصلاح ، وهذا أيضاً بُعد آخر في سيرة الأنبياء ومن معهم من المخلصين ، أنَّ المؤمن يجب أن يتَّعظ في هذا الجانب ، أن يكون منتظراً ، ومتوقّعاً مساهماً في الواقع ، ومترقّباً ، أي يحافظ على حراسة وسلامة واستدامة واستمرار مسيرة الإصلاح ، وهذه أيضاً نوع من المساهمة .
إذن ما نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة ظاهرة الهجرة المنتشرة في الأنبياء ، وظاهرة الفترات هو جملة من النقاط والفوائد الاعتقادية والعقدية مرتبطة ومتَّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، من أنَّها سُنّة جارية لله عز وجل في أنبيائه وحججه ، من حالة المناورة ، وحالة التدبير ، وحال الأفول ثمّ الطلوع ، مع فارق إيجابي كثير في الغيبة عن الهجرة ، كما مرَّ ، كأسلوب وبرنامج وأداة وآلية للإصلاح ، مضافاً إلى ما نستثمره من مسؤولية اتّباع أولئك المصلحين الإلهيين ووظيفتهم .
هذا ما نستطيع على أيّة حال في هذه العجالة أن نستخلصه من هذه الظاهرة السابعة ، وهي ظاهرة هجرة الأنبياء والفترات التي تخلَّلت بينهم ، ونبدأ الحديث بعون الله تعالى عن الظاهرة الثامنة وهي ظاهرة إبطاء الإصلاح في سيرة النبيّ نوح عليه السلام .
تأخّر إنجاز الوعد الإلهي :
هناك أوجه تشابه متماثلة كثيرة من زوايا متعدّدة ومتنوّعة بين الظاهرة القرآنية وهي ما سرده وقصَّه واستعرضه القرآن الكريم من سيرة النبيّ نوح وسُنّة الله فيه وبين العقيدة بالإمام المهدي عليه السلام وغيبته ، ونحن بقدر جهدنا نستعرض بعض الأمور منها ، فمن تلك الأوجه المماثلة هو طول الطريق للوصول إلى فترة إنجاز الوعد الإلهي في الإصلاح ، أو قد يعبَّر عنه كما ورد في جملة من الروايات في بيان هذه الظاهرة القرآنية إبطاء الوعد الإلهي لإنجاز الإصلاح ، هذا الإبطاء كما يخبرنا القرآن الكريم : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) ( العنكبوت : 14 و 15 ) ، فالملفت أوّلًا في ظاهرة النبيّ نوح طول مدّة إنجاز الوعد الإلهي ما يقارب من عشرة قرون إلَّا نصف قرن ، هذه المدّة الممتدّة الطويلة البعيدة الأمد ، إذن وجه المماثلة واضح بين ظاهرة النبيّ نوح القرآنية والعقيدة بحياة الإمام المهدي ، وسوف يختم نجاح هذا الدين القويم على أرجاء الأرض كافّة بأهل البيت عليهم السلام الذين بهم يختم الله هذه الخاتمة المشرفة النيّرة الشامخة العظيمة ، فكما بدأ وانتشر دين الإسلام بأهل البيت وهم النبيّ وأهل بيته عليهم السلام فإنَّ الله عز وجل سيختم بهم العاقبة الحسنة والمضيئة المشرقة لهذا الدين ، هذا لا يختلف فيه اثنان من المسلمين ، وإن اختلفوا في الاعتقاد بحياة الإمام المهدي الآن وطول مدّة غيبته وحياته ، فإذن هذه عظة من القرآن الكريم لهذه الأمّة بأن سيقع في هذه الأمّة أيضاً إبطاء في إنجاز الوعد الإلهي العظيم ، هذا الإنجاز وهذا الحدث الهائل الكبير الذي تستعدّ البشرية لوقوعه ، برغم هذا الإبطاء إلَّا أنَّه لا يؤدّي إلى اليأس من روح الله ، ( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ( يوسف : 87 ) ، كيف وقد استعرض وبيَّن لنا القرآن الكريم أنَّ سُنّة الله تجري في أدوار من الإصلاح أنَّه قد يمتدّ ويطول به الزمن ، كي تتهيَّأ البشرية وتمرّ في حالة إعداد لوقوع هذا الإصلاح العظيم ، وقد كان طوفان النبيّ نوح حدثاً مجلجلًا للبشرية ، لذلك يعبّر القرآن الكريم عنه بالقول : ( وَجَعَلْناها ) ، يعني هذا الطوفان العظيم : ( وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) ، فهذا الطوفان مضرب مثل واضح ، لأنَّ فيه هزَّة للبشرية والكرة الأرضية بشكل عارم شامل عامّ ، وهذا ما يدلّل على أنَّ الباري تعالى في سُنّته في الإصلاح المجلجل الذي يأخذ أبعاداً في أرجاء الأرض كافّة أنَّه يبطئ وقوعه ويتمادى طولًا وامتداداً وأجلًا في الكتاب المحتوم لوقوعه ، وهذا أوّل وجه شبه بين ظاهرة النبيّ نوح وظاهرة الإمام المهدي عليه السلام ، فقد وردت في الأحاديث إشارة إلى مثل هذه الزاوية من الشبه بين ظاهرة الإصلاح الموعود به النبيّ نوح وظاهرة الإصلاح الموعود به في الدين الإسلامي لإنجازه على يد المهدي من ذرّية الرسول صلى الله عليه وآله الثاني عشر من خلفاء النبيّ صلى الله عليه وآله ، ومن هذا الوجه كان على المؤمنين أن لا ييأسوا من روح الله ولا يخفق إيمانهم ولا ينقطع ولا يزول ، ولا ينعدم والعياذ بالله إيمانهم عن هذه العقيدة العظيمة بالوعد الإلهي بالإصلاح في أرجاء الأرض كافّة بسبب تطاول وتأخّر هذا الإصلاح وإنجاز هذا الوعد الكبير العظيم ، بل يجب عليهم أن يزيدهم ذلك من الوثوق ومن الإيمان بوقوع هذا الإصلاح ، فهو نوع من الاختبار العظيم ، كي يصدق الله وعده بأن يستخلف الله في الأرض الذين أخلصوا التوحيد والإيمان واعتصموا بحبل ولاية الله ورسله وأوصيائه وحججه ويمكّن لهم ويبدّلهم من بعد خوفهم أمناً ، ولكي تخلص العبادة له ، إذ كيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمن في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب بين المخلصين من المؤمنين ، وبين من أسرَّ منهم النفاق فيكاشفونهم بالعداوة والحرب . فلن يكون هناك صفاء في البشرية إلَّا عندما يزداد تسليط نار المحنة ونار الامتحان والفتن ، كالمعدن يفتن بالنار إلى أن يصفو ، ومن الواضح أنَّ الصفاء الذي لا شوب فيه يحتاج إلى طول مدّة . إذن هذا وجه شبه أوّل عظيم بين ظاهرة النبي نوح وظاهرة الإمام المهدي عليه السلام وهو إبطاء إنجاز الوعد الإلهي واتّعاظ المؤمنين ، ومغزى ذلك هو نوع من الإصلاح الجذري العمقي الداخلي في الجسم والطبيعة إلى أن يبقى الخالص ليتمّ به الإصلاح التامّ ، هذا أوّل وجه شبه بين الظاهرتين .
وجه الشبه الثاني الذي يمكن أن نستخلصه أيضاً هو طول عمر النبيّ نوح ، فإنَّه ليس ذلك على الله بعزيز ، فقد ورد في الروايات عنهم عليهم السلام وهذه الروايات التي وردت في الواقع معتضدة بمحكم الكتاب الذي ورد في طول فترة عهد دعوة النبيّ نوح ، فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنَّ مدّة طول عمر نوح كانت ألفي وثلاثمائة سنة ، كان قد عاش ثمانمائة وخمسين سنة قبل بعثته رسولًا إلى قومه ليدعوهم إلى توحيد الله وشريعته ، ثمّ مكث في قومه يدعوهم ألف سنة إلَّا خمسين عاماً ، يعني تسعمائة وخمسين سنة ، هذه هي فترة الدعوة إلى أن أنجز الوعد الإلهي ، وبعد ذلك عاش قرابة الخمسمائة سنة بعد الدعوة ، أي بعد أن انجز له الوعد الإلهي ليقيم مجتمع الإصلاح والصلاح ، بأن مصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان[4]، يعني أنَّ العمران الذي حدث في المجتمع البشري بعد الطوفان الذي اجتاح وجه الكرة الأرضية كافّة واجتاح المجتمعات البشرية وقضى عليها ، فأنشأ بعد ذلك المجتمعات والبلدان هو من اليد الشريفة للنبيّ نوح في إقامة هذا العمران عمران الصلاح والإصلاح ، فإذن هذه الحقبة الطويلة من عمر النبيّ نوح عِظة أخرى عظيمة في المثل بين طول عمره وطول عمر الإمام المهدي عليه السلام . بعبارة أخرى هذا برهان بيّن من القرآن الكريم في أنَّ من حججه من يطول عمره وتبطئ خاتمة الإصلاح على يديه في الإنجاز للوعد الإلهي ، وبالتالي هذه سُنّة من الله عز وجل في إطالة عمر ذلك المصلح المعدّ للإصلاح الكبير والمدوي في الكرة الأرضية ، في الإصلاح الجذري الشامل سُنّة من الله وهي إطالة عمر ذلك المصلح ، وبالتالي إبطاء إنجاز الوعد ؛ لأنَّه احتاج إلى نوع من الإعداد العظيم الطويل الأمد ، هذا وجه شبه ثانٍ أيضاً بين النبيّ نوح والإمام المهدي .
وهناك أيضاً وجه آخر من المماثلة في الواقع تحقّق ومرَّ حدوثه في النبيّ نوح عليه السلام ، وأيضاً في الإمام المهدي ، وهو أنَّ النبيّ نوحاً بعد أن وقع هذا الزلزال المدوي في الأرض وهو الطوفان ، وكان في الواقع إنجازاً للوعد الإلهي للإصلاح أوعد القوم به ، بعد ذلك قام النبيّ نوح بتمصير الأمصار وأسكن ولده البلدان ، ففي الحقيقة هي بداية حياة بشرية ذات طابع متكامل إصلاحي لما خلَّفته البشرية قبل الطوفان ، ومن ثَمَّ عُرف أنَّ الطوفان كان محطّة مهمّة بشرية تعتبر خاتمة لحقبة ، وفاتحة لحقبة جديدة ، فاتحة لحقبة عمرانية متمدّنة متطوّرة في مسار النهج الإلهي والنهج المعيشي في سكن الأرض ، وهي محطّة تاريخية مهمّة في عمر البشرية وحياة البشر على وجه الأرض ، ما يدلّل على أنَّ هناك نقلة مدنية ونقلة تكاملية واضحة بعد إنجاز الوعد الإلهي على يد نوح ، وهذا في الواقع ما تشير إليه الآيات الكريمة وبشكل خطوط عامّة عريضة من أنَّ إظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ( التوبة : 33 ) ، وسوف يكون هو حقبة المتّقين : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، وهي عاقبة الإصلاح في الأرض ليستخلف الله عز وجل الذين استضعفوا : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً ) ( النور : 55 ) ، وأنَّه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) ( الأعراف : 96 ) ، والتعبير بالقروية هو في مقابل التمدّن في اصطلاح القرآن الكريم في الاستعمال الظاهري لا التأويلي ، بل في مقابل الإيمان وفي مقابل انتهاج نهج الإيمان ونظام الإيمان ومسار الإيمان والالتزام ببرنامج الإيمان يطلق عليه القرآن الكريم القروية ، فإذا آمنوا وانتهجوا رؤية الإيمان فسيرسل الله عز وجل حينئذٍ عليهم خيرات وكنوزاً ، وهذا هو المفاد الحقيقي من الآية الكريمة ، أو من الروايات التي رواها الفريقان .
الخاتمة :
من الواضح أنَّ قصص الأنبياء عقيدة وإيمان ومعرفة ربّانية ودينية أصيلة ، كذلك هي أيضاً عِظة وعبرة ، كما يحدّثنا القرآن الكريم مثلًا في سورة ( يوسف : 111 ) : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ، إذن ليست قصصهم هي مجرَّد سرد قصصي ، وإنَّما هي معرفة عقدية واعتقادية بهم وإيمان بهم ، وهو أيضاً عبور وعبرة لنعبر منها إلى عقيدة أخرى مماثلة ؛ لأنَّ العبور من شيء إلى شيء إنَّما يكون من المماثل إلى المماثل ، وإلَّا إذا لم يكن هناك وجه صلة ولا نسبة مماثلة فكيف يكون العبور من الشيء إلى شيء أجنبي عنه لا صلة له به ، فالعبرة أخذت من العبور . إذن ما استعرضه لنا القرآن الكريم من قصص الأنبياء وأمثالهم في الوقت الذي هو معرفة وإيمان بكتب الله ورسله وملائكته ، أيضاً هو عبرة وعبور للانتقال إلى محاور وأركان اعتقادية أخرى .
فما هي الأركان الاعتقادية الأخرى ؟
هي ما افترض علينا القرآن الكريم الاعتقاد بهم : ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب : 33 ) ، وهؤلاء في هذه الأمّة هم الذين باهل بهم النبيّ الأكرم والذين خصَّهم القرآن الكريم بخصائص ومقامات ، ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة : 79 77 ) ، فالمطهَّرون هم أهل آية التطهير ، وقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ . . . ) ، إلى أن تقول الآية : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ( آل عمران : 7 ) ، وهم أهل البيت عليهم السلام ودورهم في إنجاز وعد الله وإصلاح البشرية .
ومن ثَمَّ يستعرض لنا القرآن الكريم ظواهر الأنبياء السابقين يقول : ( وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا ) ( الزخرف : 57 ) ، فما يستعرضه لنا القرآن في النبيّ عيسى في الوقت الذي هو عقيدة هو مثل كذلك ، والمثل لمماثل ، والعبرة لعبور إلى مماثل ، وكذلك في نفس ما استعرضه لنا القرآن الكريم أيضاً في ظاهرة النبيّ نوح يقول تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ * فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) ( العنكبوت : 14 و 15 ) ، والآية يستدلُّ بها على ذي الآية ، والآية يعبر منها إلى ذي الآية ، والآية بمعنى العلامة ، فالعلامة يعبر منها إلى ذي العلامة ، والآيات القرآنية كلّها طافحة على أنَّ ما قصَّه لنا القرآن الكريم واستعرضه من ظواهر في النبيّ نوح هي في الواقع حكمة وعظة وعبرة وعبور ومثل وتمثّل لما يجري في هذه الأمّة من فرائض اعتقادية في حجج الله في هذه الأمّة ، أوَلم يخبرنا القرآن الكريم في سورة الحجّ في آخر آية منها : ( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) ( الحج : 78 ) ، فمن اجتبى ؟ هل كلّ الأمّة الإسلاميّة ؟ أم ثلّة منها ؟ لننظر الآية الكريمة ماذا تقصُّ علينا وماذا تستعرض لنا وماذا تسمعنا : ( هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ ) ، إذن هناك ثلّة خاصّة من هذه الأمّة التي هي من نسل إبراهيم وإسماعيل ، ( هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ ) ، إبراهيم سمّى الذرّية هو وإسماعيل في دعائه : ( رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ ) ( البقرة : 128 ) ، ثمّ تقول الآية التي بعدها : ( رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ( البقرة : 129 ) ، إذن هم ذوو صلة بسيّد الأنبياء وخاتم الأنبياء ، وأنَّ أهل البيت مجتبون بلفظة سورة الحجّ ، وهذا مقام اجتباء من الله عز وجل لثُلّة من هذه الأمّة اصطفاهم على البشرية ، فالعبور من هذه الظاهرة وما تقدَّم في الواقع من ظواهر عديدة ، العبور من تلك الظواهر القرآنية بتوصية وبتعليم من القرآن الكريم : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ) ، اعبروا أيّها المؤمنون الكرام إلى ما هو راهن من محاور اعتقادية عقدية قد ذكرها وتلاها عليكم القرآن الكريم في نبيّه وأهل بيته المطهّرين ، لتعتقدوا بذلك ، ولنكون نحن وإيّاكم قد نجونا وانتفعنا ببصائر القرآن الكريم ، كآيات ومثل للاعتقاد بما هو معاش وراهن من العقيدة في أهل البيت عليهم السلام ، وما يعده الله عز وجل لهم من دور إلهي عظيم .
[1] كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام ، قال : ( . . . وأمَّا إبطاء نوح عليه السلام : فإنَّه لمَّا استنزلت العقوبة على قومه من السماء بعث الله عز وجل الروح الأمين عليه السلام بسبع نويات ، فقال : يا نبيّ الله ، إنَّ الله تبارك وتعالى يقول لك : إنَّ هؤلاء خلائقي وعبادي ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلَّا بعد تأكيد الدعوة وإلزام الحجّة ، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك ، فإنّي مثيبك عليه ، وأغرس هذه النوى ، فإنَّ لك في نباتها وبلوغها وإدراكها إذا أثمرت الفرج والخلاص ، فبشّر بذلك من تبعك من المؤمنين . فلمَّا نبتت الأشجار وتأزَّرت وتسوَّقت وتغصَّنت وأثمرت وزها التمر عليها بعد زمان طويل استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ويعاود الصبر والاجتهاد ، ويؤكّد الحجّة على قومه ، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به ، فارتدَّ منهم ثلاثمائة رجل ، وقالوا : لو كان ما يدَّعيه نوح حقّاً لما وقع في وعد ربّه خلف . ثمّ إنَّ الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كلّ مرَّة بأن يغرسها مرَّة بعد أخرى إلى أن غرسها سبع مرَّات ، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتدّ منه طائفة بعد طائفة إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلًا ، فأوحى الله تبارك وتعالى عند ذلك إليه ، وقال : يا نوح الآن أسفر الصبح عن الليل لعينك حين صرح الحقّ عن محضه وصفي الأمر للإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة ، فلو أنّي أهلكت الكفّار وأبقيت من قد ارتدّ من الطوائف التي كانت آمنت بك لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك واعتصموا بحبل نبوّتك بأن أستخلفهم في الأرض وأمكّن لهم دينهم وأبدّل خوفهم بالأمن ، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشكّ من قلوبهم ، وكيف يكون الاستخلاف والتمكين وبدل الخوف بالأمن منّي لهم مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدّوا وخبث طينهم وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق ، وسنوح الضلالة ، فلو أنَّهم تسنَّموا منّي الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف إذا أهلكت أعداءهم لنشقوا روائح صفاته ، ولاستحكمت سرائر نفاقهم ، تأبّدت حبال ضلالة قلوبهم ، ولكاشفوا إخوانهم بالعداوة ، وحاربوهم على طلب الرئاسة ، والتفرّد بالأمر والنهي ، وكيف يكون التمكين في الدين وانتشار الأمر في المؤمنين مع إثارة الفتن وإيقاع الحروب ، كلَّا وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا ) . قال الصادق عليه السلام : ( وكذلك القائم ، فإنَّه تمتدّ أيّام غيبته ليصرح الحقّ عن محضه ، ويصفو الإيمان من الكدر بارتداد كلّ من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسّوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم عليه السلام ) . أنظر : ( كمال الدين : 355 و 356 / باب 33 / ح 50 ) .
[2] المزار لابن المشهدي : 530 .
[3] المزار لابن المشهدي : 250 .
[4] روى الكليني في ( الكافي 284 : 8 و 285 / ح 329 و 430 ) بسنده ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : ( عاش نوح عليه السلام ألفي سنة وثلاثمائة سنة ، منها ثمانمائة وخمسين سنة قبل أن يبعث ، وألف سنة إلَّا خمسين عاماً وهو في قومه يدعوهم ، وخمسمائة عام بعدما نزل من السفينة ونضب الماء ، فمصَّر الأمصار وأسكن ولده البلدان . . . ) .