الوضع الليلي
انماط الصفحة الرئيسية

النمط الأول

النمط الثاني

0

تنويه

تمت اضافة الميزات التالية

1

الوضع الليلي جربه الآن

2

انماط الصفحة الرئيسية

النمط الاول

النمط الثاني

يمكنك تغيير الاعدادات مستقبلاً من خلال الايقونة على يسار الشاشة

1
المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النبي الأعظم محمد بن عبد الله

أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)

آبائه

زوجاته واولاده

الولادة والنشأة

حاله قبل البعثة

حاله بعد البعثة

حاله بعد الهجرة

شهادة النبي وآخر الأيام

التراث النبوي الشريف

معجزاته

قضايا عامة

الإمام علي بن أبي طالب

الولادة والنشأة

مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)

حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله

حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)

حياته في عهد الخلفاء الثلاثة

بيعته و ماجرى في حكمه

أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته

شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة

التراث العلوي الشريف

قضايا عامة

السيدة فاطمة الزهراء

الولادة والنشأة

مناقبها

شهادتها والأيام الأخيرة

التراث الفاطمي الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي المجتبى

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)

التراث الحسني الشريف

صلح الامام الحسن (عليه السّلام)

أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته

شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة

قضايا عامة

الإمام الحسين بن علي الشهيد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)

الأحداث ما قبل عاشوراء

استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء

الأحداث ما بعد عاشوراء

التراث الحسينيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن الحسين السجّاد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)

شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)

التراث السجّاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الباقر

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)

شهادة الامام الباقر (عليه السلام)

التراث الباقريّ الشريف

قضايا عامة

الإمام جعفر بن محمد الصادق

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)

شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)

التراث الصادقيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام موسى بن جعفر الكاظم

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)

شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)

التراث الكاظميّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن موسى الرّضا

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)

موقفه السياسي وولاية العهد

شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة

التراث الرضوي الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الجواد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

التراث الجواديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن محمد الهادي

الولادة والنشأة

مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

التراث الهاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي العسكري

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

التراث العسكري الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن الحسن المهدي

الولادة والنشأة

خصائصه ومناقبه

الغيبة الصغرى

السفراء الاربعة

الغيبة الكبرى

علامات الظهور

تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى

مشاهدة الإمام المهدي (ع)

الدولة المهدوية

قضايا عامة

وجه الشبه بين النبي يوسف "ع" والإمام المهدي "عج"

المؤلف :   الشيخ محمد السند

المصدر :   الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية

الجزء والصفحة :   ص59-121

2025-05-20

49

الظاهرة الثانية التي نستوحيها من القرآن الكريم ، هي ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام ، قال تعالى : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ ) ( يوسف : 3 1 ) .

وفي ذيل السورة نفسها : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ( يوسف : 111 ) ، إذن يجب أن نعتبر ، ولا يكون ذلك عبور غفلة من دون تفكّر ، يجب أن نتَّعظ بما فيه من محاور ووقفات اعتقادية وعقدية .

ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام وارتباطها بالمصلح الإلهي :

تحمل ظاهرة النبيّ يوسف الكثير من المعالم لظاهرة المصلح المنجي المنقذ ، وهنا وقفات تستحقّ وتسترعي التأمّل والتدبّر ، قال تعالى : ( إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ ) ( يوسف : 4 ) ، وهذا نوع من الفتح الربّاني يُبشّر به النبيّ يوسف عليه السلام ، نوع من التمكين والسلطة والقدرة ، هذه فاتحة قصَّة النبيّ يوسف ، وهو أنَّ هناك وعداً بالفتح ، وعداً بالظهور ، وعداً بالتمكين في الأرض ، ( قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) ( يوسف : 5 ) ، يعني هذه النبوءة الإلهية بأنَّ يوسف سوف يظهر ، وسوف يمكّن له الله عز وجل في الأرض ، هذه البشارة الإلهية بنفسها تستدعي الحسد والمكيدة من الأقرباء للنبيّ يوسف فضلًا عن البُعداء من الأصدقاء ، وفضلًا عن الأعداء . فإذا كان هذا حال الإخوة وحال الأصدقاء ، فكيف بحال البُعداء والأعداء ؟ ! لأنَّهم أولى لأن يكيدوه ، فإن طالعت ظاهرة النبيّ يوسف التي يحدّثنا عنها القرآن الكريم تجد البشارة بظهوره وبتمكينه في الأرض ، وأنَّ هذه البشارة بنفسها تستدعي لأن تتحسَّب القوى لتدبير مكائد للحيلولة دون تحقّق تلك البشارة الإلهية ، وللوقوف دون وصوله إلى مثل تلك المكانة وذلك الاجتباء والتمكين في الأرض ، ( وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ) ( يوسف : 6 ) ، كما هو الحال فيما ورد في الإمام المهدي عليه السلام أنَّه يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلًا بعدما مُلئت ظلماً وجوراً .

البشارة هنا كانت ليوسف عليه السلام ، وهناك بشارة للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بشَّره الله عز وجل بها ، أنَّه مهما تقدَّم الزمن وطال فسيُظهر الله هذا الدين على يدي رجل من ذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وهو المهدي عليه السلام ، ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، للأرجاء كافّة ، هذا الوعد وهو خاتمة الدين الإسلامي سوف يطبَّق على أرجاء الكرة الأرضية ، ولم يتحقَّق إلى الآن ، ولم يتسنَّ لأحد أن يحقّقه على يديه . وفي الواقع إنَّ أهل البيت عليهم السلام بهم فتح الله وبهم يختم [1]

نشاهد في ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام أنَّ هناك بشارة إلهية لتمكينه وظهوره للإصلاح ، وهي تُعبّر عن نوع من الظهور والغلبة والتمكين ، وإن كان لها تأويل خاصّ ذُكر في روايات أهل البيت عليهم السلام[2]، وقد ذُكر في ذيل هذه السورة[3].

وفي القرآن الكريم أيضاً هناك بشارة خالدة ذكرها في ثلاث سور هي سورة ( الفتح : 28 ) ، وسورة ( التوبة : 33 ) ، وسورة ( الصفّ : 9 ) : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، نعم هذه البشارة الإلهية قد أنبأ القرآن الكريم بها ، وأنَّها ستتحقَّق لنبيّ الإسلام ولدين الإسلام على يد رجل من ذرّية هذا النبيّ يدعى المهدي عليه السلام ، وهذه ملحمة عظيمة في القرآن ، وهو أنَّ هذا الدين بدءاً بالنبيّ صلى الله عليه وآله وبنصرة علي بن أبي طالب عليه السلام للنبيّ ، فقد قام الدين بسيف علي ونصرته للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وسيختم له في الانتشار في الأرض والتمكين في الأرض على يد أهل البيت ، فبهم بُدئ الدين وبهم سيُختَم في أرجاء الكرة الأرضية ، هذه بشارة قرآنية عظيمة أكَّدها القرآن الكريم ، وفي الواقع تتناغم مع كثير من السور القرآنية ، كقوله تعالى : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) ، فإنَّ هذه آيات تنادي بأعلى صوتها خفّاقة وترنّ في اذن البشرية واذن القارئ للقرآن الكريم أنَّ هناك بشارة وعد بها سيّد الأنبياء ، ووعد بها المسلمون ، أنَّ هناك ظهوراً لهذا الدين على يد رجل من ذرّية سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، فهذه إشارة إلى ظاهرة النبيّ يوسف وتشابهها مع ظاهرة الإمام المهدي عليه السلام .

إذن هناك اجتباء للظهور والتمكين في الأرض ، وكما اجتُبي النبيّ يوسف لذلك . فكذلك اجتُبي الإمام المهدي بنصّ حديث النبيّ المتواتر ، وقال تعالى : ( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) ( يوسف : 7 ) ، يعني هناك عِظات وعبر تمرُّ عليكم في ظاهرة النبيّ يوسف يجب أن لا تعبروها بغفلةٍ .

إنَّها ظاهرة تستدعي الإمعان والتدبّر بعمق ، وفي الحقيقة إنَّ هذه التوصية من القرآن الكريم بأن نقف مليّاً متدبّرين ظاهرة النبيّ يوسف ، ليس ذلك إلَّا لظاهرة الغيبة فيها ، فالنبيّ يوسف الذي وُعد بالظهور والتمكين في الأرض يطالعنا القرآن الكريم أنَّ له غيبة ابتدأت من الجبّ كما ستأتي بقيّة الآيات ، وفيها إجابات للأسئلة التي لديهم ، وعلامات يهتدون بها ، وتشفي غليل صدورهم .

أيضاً ما في قوله الله تعالى في هذه السورة : ( اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ ) ( يوسف : 9 ) ، هذه ظاهرة موجودة في حياة النبيّ يوسف ، حيث أنَّه عليه السلام وعد بأنَّه سيُقلَّد مسؤولية في الأرض ، وظهوراً وإصلاحاً وتمكيناً ، فبدأ الخصم يتربَّص به ومن حواليه كما مرَّ بنا في النبيّ موسى .

من الطبيعي أنَّ قوى البشرية سواء أكانت معتدلة أم غاشمة ظالمة يؤرقها في الواقع بروز قوّة جديدة ستسيطر وتقتدر وتتمكَّن في الأرض ، وقد طالعنا التاريخ أنَّ آباء النبيّ تعرَّضوا لمحاولات غيلة واغتيال من اليهود الذين هاجروا من الشام إلى خيبر ، إلى المدينة إلى أطراف مكّة مرَّات وكرَّات من الكهنة ، أو حتَّى ربَّما من قريش ، نعم حاولوا الغيلة والاغتيال والتصفية لآباء النبيّ لعلمهم بتوسط الكهنة والبشائر الإلهية في الديانات السابقة في الإنجيل والتوراة أنَّ هناك سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم وسيظهر ويمكّن له الله في الأرض ، ومن طبيعي يكون هناك من يتطلَّع إلى ظهوره ، إلى غلبته ، إلى مقام التمكين له في القدرة والسيطرة لإصلاح شؤون البشر في الأرض ، فتحدق به حينئذٍ القوى المنافسة أو القوى المعادية لتصفيته وإبادته ، وهذا في الواقع أوّل طالع ينبّهنا ويذكّرنا به القرآن الكريم في شخصية النبيّ يوسف ، وكما مرَّ بنا أيضاً في شخصية النبيّ موسى عليه السلام .

بعد ذلك يواصل القرآن الكريم سرد ظاهرة النبيّ يوسف ، ونستعرض تلك المواقف التي لها صلة بالإمام المهدي عليه السلام : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ) ( يوسف : 15 ) ، هنا نوع من المؤامرة ، أرادوا أن يدبّروها وينفذوها لإبادة النبيّ يوسف .

قد يسأل السائل : لماذا يستعرض القرآن الكريم هنا بدء غيبة النبيّ يوسف عن ذويه وأهله ، بل غيبته حتَّى عن أبيه النبيّ يعقوب عليه السلام ، الذي هو نبيّ من الأنبياء وإمام من الأئمّة كما ذكر ذلك القرآن الكريم : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) ( الأنبياء : 73 ) ، إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فيعقوب مع كونه نبيّاً من أنبياء الله غُيّب عنه ابنه النبيّ يوسف ، إذن غيبة حجّة من حجج الله قد تحصل حتَّى عن الخاصّة فضلًا عن عامّة الناس ، فإذا تأكَّد الخطر المحدق بوليّ الله الذي وُعد أن يكون مصلحاً متمكّناً في الأرض يدبّر ويدير الإصلاح في الأرض ، هذا الوليّ والحجّة لله قد يُغيّب استتاراً أمنياً من الله حراسة له وضمانة له ، حتَّى عن خاصّته وذويه ، فضلًا عن العامّة ، ولا تكون غيبته مبطلة لحجّته ولا تبطل تلك البشارة التي وعدَ بها لتُنفّذ على يديه من قِبَل الله عز وجل .

هناك نوع من التشابه في تغييب يوسف عليه السلام في الجُبّ مع غيبة الإمام المهدي عليه السلام في سرداب الغيبة .

كثير من الأقلام الرخيصة والألسن الخفيفة تستهزئ بغيبة الإمام المهدي في السرداب ( سرداب الغيبة ) ، في الواقع هذا السؤال كأنَّما يسأله نفس السائل القارئ للقرآن فيقول : ما صلة غيبة النبيّ يوسف عن أبيه وذويه إلى أن ظهر للإصلاح في الأرض ، بالجُبّ والبئر ؟ وهل النبيّ يوسف عليه السلام عندما غاب عن ذويه بقي في الجُبّ والبئر ؟

كلَّا ، بل هي في الواقع حدث تاريخي حدث للنبيّ يوسف في الجُبّ والبئر ، وقد بدأت غيبته من محاولة تصفيته في الجُبّ ، ومن ثَمَّ ذكرها القرآن الكريم كأوّل محطّة لبدء الغيبة ، وهكذا الحال جرى في شأن الإمام المهدي عليه السلام ، حيث إنَّ بيت أبيه وجدّه كان هناك وكانت تُبنى السراديب للبرودة في الصيف ، ولا زال في كثير من البلدان كالعراق وإيران وبلدان كثيرة تُبنى السراديب تحت البيوت وقاية من الحرّ الشديد ولأجل البرودة ، فجلاوزة النظام العبّاسي وصلت إليهم الأنباء أنَّ ولد الإمام الحسن العسكري وهو المهدي في سرداب بيت أبيه ، فكبسوا ذلك السرداب لتصفية الإمام المهدي عليه السلام كما صنع أولئك الظالمون للنبيّ يوسف ، إلَّا أنَّ الله عز وجل كما أحبط مخطَّط إخوة يوسف في يوسف وجعل كيدهم هباءً منثوراً ، كذلك جعل الله عز وجل كيد جلاوزة النظام العبّاسي في مداهمة الإمام المهدي في سرداب بيت أبيه ، حيث أعمى الله وأغشى أبصارهم كما في خروج النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم عندما أرادت قريش أن تداهم النبيّ وتقتله في بدء الهجرة من مكّة إلى المدينة ، فخرج النبيّ من بين أيديهم بغشاوة من الله على أبصارهم فلم يبصروه ، كذلك خروج الإمام في ذلك الوقت عندما كبسوا السرداب في بيت أبيه وكان هو فيه ، فأغشى الله أبصارهم ، فخرج وبدأت غيبته ، ففي الحقيقة هذه محطّة أخرى بارزة ظاهرة ناصعة في حياة النبيّ يوسف ، أنَّ بدء غيبته بدأت من الجُبّ .

ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام وشبهها بغيبة الإمام المهدي عليه السلام :

للنبيّ يوسف غيبة مع كونه حجّة من الله مبعوثاً للإصلاح في الأرض ، له غيبة يستعرضها لنا القرآن الكريم ، وقد اشتدَّت وتوغَّلت في الخفاء إلى درجة أن يخفى النبيّ يوسف عليه السلام حتَّى عن أبيه وعن ذويه وإخوته وأهله ، فهذه شدّة المحنة ، فالغيبة من وليّ الله وحجّته تتناول وتشمل حتَّى الخاصّة فضلًا عن العامّة ، لِمَ ؟ ذلك لأنَّ هذا المصلح يُعدّ لدور مهمّ خطير ، فمن ثَمَّ يكون البرنامج الأمني الإلهي في حراسة له وضمانة خاصّة ، لكي لا تصل إليه يد الطامعين ويد الأعداء ، فيستهلُّ القرآن الكريم في بدء غيبة النبيّ عن أبيه وذويه وأهله وخاصّته بذكر المؤامرة التي دُبّرت وكيدت له من قِبَل إخوته الطامعين في إبادته وتصفيته ، بما سوَّلت لهم أنفسهم في المخطَّط الذي دبَّروه ، وهو جعله في البئر وغيابت الجُبّ . فلا يأتي آتٍ ويقول : ما صلة الجُبّ وغيابت الجُبّ ووضع يوسف فيه والتآمر عليه وهو في الجُبّ بعقيدة الإمام المهدي عليه السلام ، ويروق لهم استرخاصاً لذهنيتهم التشنيع والهَرْج بالسرداب .

بدأ مسلسل غيبة النبيّ يوسف عن ذويه بالجُبّ كمشهد تاريخي عندما حصلت المؤامرة والتواطؤ لتصفيته وإبادته ، لذلك يذكرها القرآن كمشهد ، هي مؤامرة كابدت النبيّ يوسف وبدأت في تلك الحقبة بدتوفي ذلك المشهد . وقد ذكرها القرآن ، هكذا الحال فيما يشاهد في سرداب الغيبة الموجود في حرم العسكريين عليهما السلام والذي تطاولت الأيدي الآثمة المجرمة المبغضة للنبيّ وأهل بيته بتفجيره وتخريبه[4]، فإنَّ جلاوزة النظام العبّاسي قد كبسوا الإمام المهدي في سرداب بيت أبيه في تلك الآونة ، فوصل إليهم الخبر أنَّ الإمام المهدي عليه السلام ابن الإمام الحسن العسكري في بيت أبيه في السرداب ، فكبسوه بُغية تصفيته ، كما أراد إخوة يوسف أن يبيدوا ويُصفّوا النبيّ يوسف في البئر ، وهو نوع من الحفرة في الأرض ، وكما أرادت قريش تصفية سيّد الأنبياء قبل هجرته فخرج النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من بين أيديهم بعد أن أغشى الله أبصارهم ، فقد خرج الإمام المهدي من سرداب بيت أبيه أمام جلاوزة النظام العبّاسي وهم لا يرونه[5].

المشكلة في الكثير من هذه الأذهان التي لا تريد أن تبحث عن الحقيقة ، وشغلها الشاغل التكذيب بآيات الله وحقائق الدين ، وحقائق القرآن الكريم بدل أن تتفهَّم معنى الغيبة ، هنا غيبة النبيّ يوسف ليس معناها انطماس وانطمار النبيّ يوسف في الأرض ، كلَّا إنَّما هي مؤامرة جرت له بوضعه في البئر ، بعد ذلك أتت سيّارة ، ( وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ ) ( يوسف : 19 ) ، تدبير الله عز وجل ، يُدبّر حينئذٍ وليّه المصلح الموعود كما يحدّثنا القرآن الكريم : ( وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) ( يوسف : 21 ) ، إذن هذا نوع من التمكين التدريجي من الله تعالى ، يكيد كيد الكائدين ومكر الماكرين .

ومؤامرة المتواطئين هي بنفسها حلقات متدرّجة لتدبير الله عز وجل كما يقول : ( وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف : 21 ) ، يعني هذه المكائد وهذه المؤامرات وهذه التواطؤات لتصفية وليّ الله المصلح المنقذ تبوء بالفشل ، بل تصبّ في مسيرة وبرنامج دبّره الله عز وجل لوصول وليه إلى منصّة الظهور ومنصّة الاستخلاف في الأرض ، وضعه في الجُبّ كان محطّة انطلاق لغيبته ، وكذلك كان السرداب في بيت الإمام الحسن العسكري في سامراء وهي أكبر قاعدة عسكرية في العالم آنذاك ، حيث حصلت تعبئة عسكرية واستنفار من الدولة العبّاسية العظمى تخوّفاً وتحسّباً من ظهور الإمام المهدي واستيلائه على مقدّرات الأمور ؛ فكبست ذلك السرداب ، هذا هو المراد من سرداب الغيبة للإمام المهدي عليه السلام .

هناك من التشابه بين ظاهرة النبيّ يوسف والإمام المهدي حتَّى في بدء الغيبة ، فقد بدأت غيبة النبيّ يوسف عليه السلام عندما ( ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف : 15 ) ، هنا إلتفاتة جميلة ( وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ ) إلى النبيّ يوسف : ( لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ماذا يعني ؟ يعني هذه الغيبة التي ستبدأ للنبيّ يوسف من البئر ، ويغيب عن إخوته وعن أبيه ، ليست انطماراً في الأرض ، وإنَّما يخفى على شعورهم ، الغيبة ليست غيبة وجود ولا غيبة حضور ، إنَّما غيبة شعور ، يعني الأطراف الأخرى لا يشعرون به ، غيبة هوية ، غيبة خفاء ، واستتار وسرّية ، لذلك رُكّز أيضاً في غيبة النبيّ يوسف التي فيها تشابه مع غيبة الإمام المهدي ، بقوله : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ، كما مرَّ في غيبة النبيّ موسى عليه السلام : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً ) ( القصص : 8 ) ، ثمّ بعد ذلك تواصل الآية وتقول : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( القصص : 9 ) ، فإذن الغيبة في المصطلح القرآني والمفهوم القرآني وفي الحقيقة القرآنية التي تتكرّر في ظواهر القرآن المتّصلة بالعقيدة بالإمام المهدي هي أنَّ الغيبة بمعنى عدم الشعور بالغائب ، لا عدم وجود الغائب ، عدم الشعور بوليّ الله المصلح ، عدم المعرفة بوليّ الله المنقذ المنجي مع كونه حاضراً في ساحة الحدث ، إذن الغيبة يتابعها القرآن بإمعان وعمق ودقّة ليُفهمها المسلمين ويفهمها القرّاء للقرآن الكريم ، أنَّ معنى الغيبة لأولياء الله والحجج بمعنى عدم شعوركم بهم ، عدم معرفتكم بهويتهم ، لا عدم وجودهم ، لا مزايلتهم لساحة الحدث ، لا مزايلتهم لتدبير الأمور ، هم حاضرون ، لكن أنتم لا تشعرون بهم ، لا تشعرون بهويتهم ، ثمّ تواصل الآيات الكريمة : ( وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ * قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ * وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ) ( يوسف : 18 16 ) ، يعني أنَّهم أشاعوا الخبر أنَّ يوسف قد صفّي ، أو قد مات أو قُتل ، أي ليس له وجود كما قد أشيع الخبر في الدولة العبّاسية آنذاك ، هذا الخبر هو حارس للإمام المهدي ، وهو أن لا خلف للإمام الحسن العسكري عليه السلام ، أو أنَّ السلطة العبّاسية كبست على السرداب وصفّته وقتلته ، ولم يستطع أن يخرج من بين أيديهم ولم يغشَ الله عز وجل أبصارهم بغشاوة ، فهنا إذن وقفة تأمّل جيّدة وهي أنَّه أشيع الخبر في غيبة النبيّ يوسف أنَّه قد ابيدَ وقُتِل .

ثمّ يأتي التعبير القرآني : ( وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ . . . وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ) ( يوسف : 19 و 20 ) ، لا يدرون من هو ، أنظر تعامل البشر هنا ، هو في حالة تفاعل وفي حالة تعاطي مع النبيّ يوسف ، وهذا هو المصلح لهم ، لكن لا يدرون ولا يشعرون كما مرَّ بنا في عامل الخفاء ، ( وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ) ( يوسف : 21 ) ، تمكين من الله ليوسف في الأرض ، يفتح له السبل للتدرج في نفوذ القدرة ، وفي أن يتبوَّأ مقاماً ومكانة في البشر ليصير نافذ اليد مبسوط القدرة ، فهذا برنامج في الواقع تدريجي ، تمكين تدريجي من الله عز وجل لقدرة يوسف في الأرض بشكل خفي ومستتر ، وهذه سُنّة الله ، إنَّه غالب على أمر يوسف ليسوسه وليدبّره وليحيطه ، ( وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ) ، أي تأويل الرؤيا[6] أو الإخبار عن حوادث الزمان التي تؤدّي إلى العلم بما يحتاج إليه[7]، ( وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ) ، أي تدبير الله قضاءه وقدره يمضي بلا عائق رغم كيد الكائدين ورغم مكر الماكرين . نعم ، ما يقدّره الله للمصلح وللمنقذ هو كائن ولن يعوقه شيء ولن يقف أمامه حائل بتاتاً ، ( وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) بذلك التدبير الإلهي .

ويوسف حصلت له الغيبة وهو في صغره ، قبل أن يبلغ أشدّه ، وهي كما مرَّت بنا في النبيّ موسى عليه السلام أيضاً فقد حصل له الخفاء والغيبة في صغره ، وهذا ما حصل للإمام المهدي عليه السلام ، وهذا تدبير الله لوليّه المصلح المنقذ الذي يريد أن يظهره الله على الدين كلّه ولو كره المشركون .

( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ( يوسف : 22 ) ، و ( المحسن ) مقام عالٍ يأتي من الإحسان فوق مقام التقوى والورع وقريب من الاصطفاء في حجج الله ، يأتيهم الله عز وجل بالعلم والحكمة وهو غير وحي النبوّة ووحي الشريعة والرسالة ، فإذن هناك قناة غير النبوّة وغير قناة الرسالة ، قناة أخرى يؤكّدها القرآن الكريم في فقرات ومحطّات عديدة وتسمّى ب - ( العلم اللدنّي ) العلم الإيتائي من الله عز وجل ، الحكمة التي يؤتيها الله عز وجل كما آتاها لقمان ، إذ لم يكن نبيّاً ولا رسولًا ولا إماماً ، وإنَّما كان حجّة من الحجج آتاه الله الحكمة ، هذه المفردات وهي المقامات الاعتقادية لا تجد لها تفسيراً في غير مدرسة أهل البيت من بين المدارس الإسلاميّة ، مدرسة أهل البيت تقول : إنَّ لله حججاً أنبياء كانوا أو رسلًا أو أئمّة ، أو قد يكون النبيّ رسولًا وإماماً أيضاً ، أو حجّة من حجج الله وليس بإمام ولا رسول ولا نبيّ ، وإن كانت الحجّية ثابتة أيضاً للمقامات الثلاثة الاوَل أيضاً كما كان الحال في مريم ، وكما مرَّ بنا في ظاهرة امّ النبيّ موسى ، حيث أوحي إليها ولم يكن وحياً نبوياً ولا وحي رسالة ، وإنَّما هو الوحي اللدنّي والإيعاز لهذا البرنامج الخاصّ ، كما أوحي لمريم ببرنامج خاصّ سيطالعنا به الحديث لاحقاً إن شاء الله تعالى .

بعد ذلك يطالعنا القرآن الكريم بمجمل مسلسل أحداث للنبيّ يوسف تجري عليه في غيبته ، غيبة خفاء وسرّية ، غيبة عدم معرفة البشر بهويته ، وعدم معرفة بشخصيته ، عدم الشعور بنسبه وحسبه ، ولكن يتعاطون معه . فيحدّثنا القرآن الكريم بمسلسل من الأحداث الأخرى التي تجري على النبيّ يوسف ، إلى أن تصل إلى هذا الموضع في القرآن الكريم أنَّه قال : ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ( يوسف : 33 ) ، وهنا تعاطي وتفاعل مع الأحداث للنبيّ يوسف في ظلّ غيبته ، لا أنَّه ناءٍ ، وهذه النقطة لها صلة بالعقيدة بالإمام المهدي وغيبته ، غيبة خفاء هيأة وعدم الشعور بوليّ الله المصلح المنقذ الموعود المنتظر ، لا أنَّه نائي ، لا أنَّه مقصي ، وليست هي مزايلة عن ساحة الحدث وعن مسرح الحياة ، بل هو موجود يتفاعل مع الأحداث من دون شعور البشر به ، ومن دون شعور بكيفية التدبير الإلهي الذي يوصله درجة فدرجة ، محطّة فمحطّة إلى منصّة الظهور ، إلَّا أن يكذّب الناس بذلك ، أو يُكذّبوا النبيّ يعقوب الذي بشّر بظهور ابنه يوسف في الأرض وبالتمكين له ، أو يُكذّبوا بغيبة النبيّ يوسف ويقولون : لن يكون هناك يوسف موعود سيظهر ويمكَّن له في الأرض ويتغلَّب على الفساد ، لكن ( وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ، يكذّبون بما لا يعلمون ، فهنا يؤكّد القرآن الكريم على أنَّ الغيبة والخفاء لا تنافي مقتضى قضاء الله وقدره للوصول إلى ظهور موعوده المبشّر به لإصلاح الأرض .

( وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ( يوسف : 36 ) ، إذن تفاعل وليّ الله الموعود في تلك الحقبة أن يجري عليه ما يجري على البقيّة حتَّى من دخول السجن ، مع أنَّ وليّ الله موعود بالظفر والتمكين في الأرض تصل به حياته إلى أن يقبع في أرض السجن ، لكن هذا لا ينافي تدبير الله عز وجل ، بل هذا يصبُّ في مسلسل تدبير الله النافذ الغالب على أمره ، فهذه إذن محطّات شاهدة تدلّل على أنَّ وليّ الله في غيبته وخفائه لا ينافي وجوده في مسرح الحياة وتفاعله مع مجريات الحياة .

بعد ذلك أنظر كيف تجري الأحداث ، ( نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) ، أنظر بثّه للعلوم أيضاً : ( قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ ) ( يوسف : 36 و 37 ) . الآن يطالعنا القرآن الكريم أيضاً فيما سيجري للملك ، ( وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ) ( يوسف : 43 ) ، إذن أزمة اقتصادية ستحلُّ بالبشرية يُراد لها تدبير نافذ ، يُراد لها نظام اقتصادي صارم ، يُراد لها نوع من البرمجة والتقشف الاقتصادي كي يواجهوا الأزمة الاقتصادية الحادّة التي ستعصف بهم ، من الذي سينجي البشرية من هذه الأزمة ؟ من الذي أعدَّه الله عز وجل للحيلولة دون وقوع هذه الأزمة التي ستجتاح البلاد ؟

الجواب : النبيّ يوسف عليه السلام هو الذي ينقذ البشرية في منعطفات حادّة يمرُّ بها النظام البشري وهو خفي عنهم ، وهم لا يشعرون به ، وهم لا يشعرون بأنَّ هذا التدبير الصالح إنَّما انبثق من هذا النبيّ ، من هذا الموعود بظهوره وبتمكينه .

بعد ذلك تطالعنا الآيات الكريمة : ( قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ ) ( يوسف : 44 ) ، أنظر إلى تدبير البشر الذي لم يكن بالمستوى المطلوب أمام هذه الأزمة التي تواجههم لولا وجود وليّ الله الذي يدبّر الأمور وهو في حالة خفاء . وهذا هو الذي نعتقده بالإمام المهدي عليه السلام في غيبته ، أل وهي غيبة خفاء هوية ، لا مزايلة عن ساحة الحدث كما مرَّ ، فهو يدبّر وينجي البشرية في حقبة تمتلئ بالأزمات الحادّة التي تعصف بها .

كما حصل الحال كذلك في الإمام المهدي عليه السلام ، فقد ذكر الذهبي في ( تاريخ الإسلام ) في ترجمة الإمام الحسن العسكري ولادة الإمام المهدي محمّد بن الحسن ، ولكنَّه عقَّب بعد ذلك وقال : إنَّه عُدم[8] ، أو كأنَّما صفَّته الدولة العبّاسية ، ولكن الحقيقة ليست كذلك ، بل هو محروس بضمانة وحراسة إلهية كما حرس الله النبيّ يوسف وحرس النبيّ موسى في الظاهرة السابقة التي ذكرها لنا القرآن الكريم ، وهو الموعود المبشَّر به بإظهار الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة ، وهو من نسل الرسول ومن ذرّية فاطمة في نصّ الفريقين المتواتر .

وتواصل الآيات سرد تعاطي النبيّ يوسف التفاعل مع الحياة العامّة ، وأبرز ذلك ما تُبيّنه لنا السورة نفسها أنَّه في تلك الأزمة العصيبة التي عصفت بمصر وكانت هي مركزاً لتموين ما حواليها من البلدان في التموين الغذائي والأزمة الاقتصادية الحادّة التي مرَّت بها ، كان من النبيّ يوسف حينذاك ذلك التدبير المهمّ المبني على أسس علمية بتوسّط ما للنبيّ يوسف من علم لدنّي ، حيث ذكر برنامجاً مهمّاً لتفاديهم تلك الأزمة ، فقال : ( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) ( يوسف : 47 ) ، لاحظ البرنامج الوقائي والتدبير الاقتصادي ، ثمّ كيفية الحفاظ على بقاء التموين الغذائي ، ( فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ) ، فلا بدَّ أن تكون هناك سياسة تقشّف ، برمجة وتدبير واضح لتفادي الأزمة المحدقة الحادّة التي سيواجهها المجتمع البشري آنذاك ، ( ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ) ( يوسف : 48 ) ، إنَّ للأولياء الحجج المبعوثين لإصلاح البشرية علماً قديماً ، وعلوم الأئمّة المنصوبين من قبل الله تعالى ليست علوماً نسبية ، وليست وليدة التجربة لتتأثَّر حينئذٍ زيادةً ونقصاناً أو صواباً وخطئاً أو تردّداً وحيرة بالمعلومات المكتسبة التي قد تكون محيطة وقد لا تكون محيطة في زوايا عديدة ، بل هو علم لدنّي بما يؤتيهم الله عز وجل من ذلك العلم ، فيه تدبير لا يخطئ الواقع .

الآن البشرية تتطلَّع إلى نظام اقتصادي عادل ، بعد أن طُرحت عدّة نُظم ، كالنظام الشيوعي ، والنظام الرأسمالي ، فوجدت أنَّها لا تتكفّل ولا توجِد العدالة ، في النظام الاقتصادي ، أو النظام القضائي ، أو النظام الاجتماعي ، أو النظام السياسي ، بل رأت أنَّ غاية ما وصلت إليه تلك النظم إنَّما هو إلى حرّية نسبية أو عدالة نسبية أو حقوق نسبية ، أمَّا الحقوق الكاملة والعدالة الكاملة والحرّية الكاملة بالمعنى الصحيح للحرّية فإلى الآن تتطلَّع البشرية إلى ذلك .

البشرية في أزمة تنظير فضلًا عن مرحلة التطبيق ، وتلك إذن مرحلة دهياء مدلهمة فيها ما فيها من عدم الأمانة وعدم الكفاءة ، بينما النظم الإلهية والتدبير الإلهي لمن يبعثهم الله أولياء تكفل حماية البشرية عمَّا ينتابها من عواصف ، وهذا معنى ضرورة لزوم الإمامة بعد النبوّة ، نعم إنَّه لا بدَّ من تدبير إلهي للبشر يكفل لهم الحياة ويحوطهم عن الوقوع في الهاوية والأخطار وما يحيط بهم من مآزق وأزمات ومنعطفات حادّة جدَّاً .

وفي الحقيقة هذا معنى أنَّ المهدي عليه السلام عندما يظهر ( يملأ الأرض قسطاً وعدلًا بعدما ملئت ظلماً وجوراً ) ، وكما أنبأ بذلك القرآن الكريم في سورة الحشر : ( ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ ) ، تدبيرها بيد الله ثمّ بعد ذلك ولاية ذوي القربى من أهل البيت ، ( فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) ، يستعرض القرآن الكريم مصرف هذه الثروات في الأرض بتدبير الله والرسول وذوي القربى أوّلًا ، ثمّ يقول تعالى : ( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) ( الحشر : 7 ) ، وهي الطبقات المحرومة ، فبسط الثروات بشكل عادل على الطبقات المحرومة إنَّما يتمّ بتدبير الله وإدارة رسوله ثمّ ذوي القربى .

وفي قصَّة يوسف نشاهد هذا التدبير الاقتصادي الذي يؤمّن البشرية من الفساد ومن الظلم ، في الحقيقة إنَّ هناك نارين نار الفساد ونار الظلم ، الفساد قد يكون عن سبب الجهل في التنظيم ، والجهل بالموضوع أو التطبيق ، أمَّا صاحب العلم اللدنّي الوليّ من أولياء الله الذي يُبعث حجّة من قِبَل الله عز وجل بما يؤتى من علم لدنّي يتفادى ذلك الخطر ، ولا يستدعي أزمة في التنظيم ولا أزمة في التطبيق ولا في العلم والإحاطة بالبيئة الموضوعية وتداعياتها ، أنظر ماذا يقول النبيّ يوسف كما في الآية الكريمة : ( قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ ) ( يوسف : 47 ) ، أي السبع سنين الأولى ، ثمّ يعطي برنامجاً للسبع سنين الثانية ، وبرنامجاً للسنة الخامسة عشرة ، بملاحظة تداعيات كلّ تدبير ، وهذه من خصائص التدبير الإلهي ، وليس صلاحية الحكم في جنب التشريع . التشريع فقط لله ، بل صلاحية الحكم في كلّ مدياته السياسية والنظمية والتدبيرية بيد الله عز وجل ، وهذا هو المفهوم الذي تتبناه المدرسة الوحيدة مدرسة أهل البيت ، إذ لديها لون من التوحيد لا يُلمس بهذه الكثافة وبهذه الشمولية وبهذا التركيز في غيرها كما هو فيها ، التوحيد في الحكم أيضاً فلا يقصرون على التشريع بأن يقال : إنَّ التشريع لله وأمَّا التطبيق والتدبير فهو بيد البشر ، أي إنَّ يد الله معزولة عن ذلك ، حاشا لله والعياذ بالله أن تقصر الربّانية عن التدبير ، بل التدبير ليس في جانبه الكوني والقضاء والقدر فقط ، بل حتَّى في جانبه التشريعي ، وفي الدرجة الأولى أنَّ الحكم لله بما ينزل على أوليائه من أوامر .

نعم هذا موقف ونقطة مهمّة في ظاهرة النبيّ يوسف يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة يوسف ، من‌أنَّ وليّ الله والإمام على البشر الخليفة لله في الأرض ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، ولم يُعبّر القرآن الكريم بالقول : إنّي جاعل في الأرض نبيّاً ، أو إنّي جاعل في الأرض رسولًا ، أو إنّي جاعل آدم خليفة ، بل قال ما له عمومية وشمولية لكلّ الأزمان من بدء خليقة البشر إلى منتهاها : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، الخليفة استخلاف قدرة وتدبير وإمامة ، وهو عنوان من عناوين الإمامة ، فالإمامة سُنّة دائمة من الله تعالى ، سواء أكان الإمام نبيّاً أم رسولًا ، كما في سنن الرسل فهو نبيّ ورسول وإمام ، وإمام الأئمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وكما في إبراهيم فهو نبيّ ورسول وإمام ، قال تعالى : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) ( البقرة : 124 ) ، وكذلك في إسحاق ويعقوب : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) ( السجدة : 24 ) ، فالإمام موقع ومنصب قد يشغله ويحتلّه النبيّ والإمام ، وقد يقوم به غير النبيّ والرسول ، لكن هذا الموقع لا يمكن أن يكون شاغراً ، لا يمكن أن يكون غير مُفعَّل في زمن الأزمان ، وهذه نكته مهمّة في حياة الرسل ، ( ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ) ( المؤمنون : 44 ) ، يعني متعاضدة يعضد بعضها البعض ، وبينها أزمنة وفترات ، وبعد رسول الله ( لا نبيّ بعدي )[9]، أي لا رسول بعدي ، ولم يقل سيّد الرسل : لا إمام بعدي ، ولم يقل : لا خليفة لله بعدي ، بل قال رسول الله صلى الله عليه وآله أنَّ بعده ( اثنا عشر خليفة أو أميراً كلّهم من قريش ) ، وفي بعض الروايات : ( من هذا البطن بني هاشم ) ، والمقصود هنا أنَّ ما تقدَّم من الآيات أنَّ النبيّ يوسف الموعود بكونه المصلح والمبشّر بالتمكين في الأرض ، يزاول دوره في إنقاذ البشرية وإصلاح المجتمع البشري قبل ظهوره ، وقبل وعي الناس ومعرفتهم وشعورهم بهويته ، وقبل إعلان شخصيته ، لكنَّه موجود في ساحة الحدث ، موجود في مركز تدبير الأمور ، ينتشل البشرية من تلك الأزمات ، ويرتفع بها إلى قُلل الكمال من دون أن يشعروا بأنَّ هذا التدبير من خليفة الله تعالى ، هذا التدبير من وليّ الله وحجّته ، هذا التدبير من الموعود المُبشّر به بأنَّه رأى ( أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ) ( يوسف : 4 ) ، نعم مبشّر بأنَّه يظهر ويمكّن في الأرض ، لكن مع ذلك لم يشعر به ذووه ولم يشعر به إخوته ولم يشعر به النظام الذي كان سائداً ، لكن مع ذلك هو يقوم بدوره .

إذن القيام بالدور الحساس المصيري من قِبَل خليفة الله ، من قِبَل الإمام الذي يستخلف في تدبير الأمور ، على أنَّه خليفة الله ، وقيام الإمام قيام من هو غائب في هويته وليس غائباً في وجوده ، وحضوره ، وتدبيره ، وتصدّيه للأمور ، إذ أنَّ قيامه بهذا الدور لا يستلزم شعور البشر بهويته إذ أنَّهم كانوا يرونه ولا يعرفونه ، يدبّر لهم ، يتعاطى معهم ، يؤثّر في مصير البشرية ، يحفظها من المنزلقات من دون أن تشعر البشرية به ، ومن دون أن تنسب البشرية هذا الإنجاز الإصلاحي لوليّ الله ولخليفة الله ، ربَّما نعرفه بأسماء أخرى ولا نعرفه باسم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل مثلًا ، المهمّ أنَّه أخذ يد البشرية عن الوقوع في مجاعات ، أو الوقوع في الموت ، أو الوقوع في قطع النسل البشري والأزمات الكثيرة ، وربَّما يتفشّى نتيجة لذلك الفساد والقتل وعواصف ومفاسد تفتّ بالنظام الاجتماعي والسياسي والأسري وكثير من تداعياته ، لكن بعد أن قام بهذا الدور المصيري في تلك الحلقات المركزية في النظام الاجتماعي السياسي ، وكما في النبيّ موسى الذي قام بأدوار كثيرة من ربط الأمل والجأش على قلوب بني إسرائيل دون أن يشعروا به أنَّه موسى قبل ظهوره ، وكان على صلة بأخيه هارون ، بل ولم يشعروا حتَّى بنبوّة هارون .

فالسؤال القائل : أيّ معنى للإمام عندما يكون غائباً نابع عن فهم مغلوط للغيبة والغياب على أنَّه بمعنى مقابلٍ للحضور وليس عدم حضور ، الغيبة عدم ظهور مع كون الحضور فعلياً ، يقوم بكلّ حيوية بالمسؤولية الإلهية الخطيرة في منعطفات المسير البشرية ، ينقذها وينتشلها من السقوط إلى الهاوية ، وهذا إذن مقطع ثمين جدَّاً في ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام ، وهو أنَّه غاب وخفيت هويته ولم يخفَ وجوده ، ولم تعدم البشرية حضوره وخيره وتدبيره وما شابه ذلك ، وهذه نكتة مهمّة جدَّاً بالغة العبرة يسطّرها لنا القرآن الكريم .

فإذا كانت عندكم أسئلة عقائدية اقرؤوها من هذه الإجابات الموجودة في سورة يوسف ، ولا تمرّوا عليها مرور عبور غفلة ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ) ، ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ) ( النساء : 82 ) ، أنظر كيف يحثّ القرآن على التدبّر ، استنطق القرآن الكريم لتلتفت إلى تلك الإجابات على أسئلتك ، فهو يجيبنا بأنَّ خليفة الله ووليّ الله غائب غيبة هوية وعدم شعور ، لا غيبة وجود ، نعم يزاول تمام دوره في عصب النظام البشري ، ولولاه لفُصِمَ وقُصِم ، يعني يقوم به لكن من دون أن يُعزى هذا الإصلاح والتدبير له .

ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ الإصلاح الذي قام به يوسف عليه السلام هو إصلاح نسبي في غيبة أولياء الله ، بخلاف ما كان بعد ظهور يوسف وبعد معرفتهم وشعورهم به ، ( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) ( يوسف : 90 ) ، نعم إنَّه لمَّا ظهر أفشى فيهم التوحيد ، وأفشى فيهم ديانة الإسلام ، ولكن قبل الظهور كانت تلك الإصلاحات نسبية مصيرية في حفظ النظام البشري يقوم بها وليّ الله ، وإن كان في ستار وسرّية وخفاء في حركته ، لذلك يُلفت القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، وأوّل مفاد قرآني له صلة بمعنى الخليفة ، بطرح القرآن الكريم تساؤل الملائكة : ( قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) ( البقرة : 30 ) ، وكأنَّما أراد الله عز وجل أن يبيّن لنا أهمّ دور يقوم به الخليفة ، وأنَّه لولا وجوده لوقع المحذور الذي ذكرته الملائكة وهو الفساد في الأرض ، أو سفك الدماء وقطع النسل البشري ، فالذي يكون ضمانة إلهية يحول دون وقوع سفك الدماء أي قطع النسل البشري هو الخليفة ، عَلِم به البشر أو لم يعلموا به ، خفيت هويته عليهم أو علموا بها ، استجابوا له أو لم يستجيبوا له ، فإنَّه قادر على أن ينفذ في نظمهم ويؤثّر فيها وإن لم يستجيبوا له باسمه وبمعرفة هويته ، فهذه إذن محطّة ووقفة قرآنية عظيمة جدَّاً يجب أن ننتهل منها نهلًا نميراً عميقاً عذباً سائغاً ، ويجب أن نلتفت إليها بجدّ .

وبعد هذا يصبح من السفه القول : إنَّه كيف جعله الله إماماً على البشر والبشر لا يعرفه ؟ فنقول : من قال : إنَّ المقامات الإلهية والمناصب الإلهية تستدعي أن يعرف البشر صاحب المقام والمنصب بنعت المقام والمنصب ؟ هاهنا النبيّ يوسف عليه السلام قد عاش وترعرع وجرى ما جرى وغاب عن ذويه وأهله قبل أن يبلغ ، بدءاً من الجُبّ حيث رموه فيه ، ثمّ ترعرع ونما ، ومن ثَمَّ كان نبيّاً مرسلًا موعوداً ومنقذاً ومصلحاً ومنجياً ، وُعد في نعومة أظفاره وبداية حياته بالبشارة بالتمكين في الأرض ، وقام بهذه الأدوار .

فهذه حقيقة قرآنية لا يستطيع أحد من المدارس الإسلاميّة الأخرى غير مدرسة أهل البيت أن تفسّر هذه الظاهرة وهذه الحقيقة القرآنية ، أنظر كيف أنَّ ثوابت العقيدة الاعتقادية في مدرسة أهل البيت كلّها ذات شواهد ، وتشاهد مع حقائق القرآن كلَّما ذكر حجج الله السابقين من الأنبياء والرسل والأئمّة ، هي في الواقع عِظات وعِبر اعتقادية للأمّة الإسلاميّة في حقبة زمانها ولأئمّة زمانها وللخلفاء المنصوبين من قِبَل الله ورسوله على المسلمين في زمنهم ، فهذه محطّة عظيمة جدَّاً ينبئنا بها القرآن الكريم وهي : أنَّ الغيبة لا تتنافى مع القيام بدور النبوّة ومسؤولياتها ، ويضطلع بمسؤولياتها وبمهامها ووظائفها النبيّ مع كون الناس يجهلون نعته ، بل يجهلون اسمه ، ويعرفونه ربَّما باسم آخر ، ومع ذلك يقوم بدوره .

أوَلم يقل النبيّ يوسف لصاحبيه في السجن : ( يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ * ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) ( يوسف : 39 و 40 ) ؟ أنظر إلى هذه الدروس التوحيدية الثبوتية ، فليس الحكم في التشريع فقط ، بل حتَّى في التدبير ، حتَّى في التنفيذ ، حتَّى في القضاء ، هذا اللون من التوحيد وما مرَّ بنا ليس له وجود إلَّا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ؛ لأنَّهم يقودوننا إلى مؤدّيات وثوابت العقيدة الاعتقادية لمدرسة أهل البيت ، إنَّ التدبير في الحكم القضائي صلاحيته أوّلًا لله حيث يشرف عليه الله تعالى ، لا أنَّ الله عز وجل معزول عن الإشراف في القضاء التشريعي وفي نظام القضاء وفصل الخصومات وفي نظام التنفيذ والقوّة والسلطة التنفيذية والسلطة التشريعية ، حاشا لله أن يكون معزولًا عن الإشراف والهيمنة ، فالحكم لله حتَّى في حكومة الرسول والحاكم الثاني هو الرسول ، هذه هي الأدبيات العقائدية لمدرسة أهل البيت ، وهكذا في حكومة علي بن أبي طالب عليه السلام فإنَّ الحاكم الأوّل في سلطة التشريع وسلطة القضاء وسلطة التنفيذ هو الله عز وجل ، والحاكم الثاني هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن انتقل إلى الدار الآخرة فإنَّه يشرف ويُطاع ممَّن بعده وهو أمير المؤمنين بما يتَّصل بالعلم اللدنّي بالله ورسوله ، وكذلك الحاكم الثالث في حكومة أمير المؤمنين عليه السلام هو أمير المؤمنين .

فالحاكم الأوّل هو الله ، ليس فقط على صعيد التشريع ، بل حتَّى على صعيد التنفيذ ، ففي السلطة القضائية ، وسلطة العسكر ، وسلطة الثقافة ، وسلطة الاقتصاد ، وكذلك الإشراف والهيمنة على جميع التفاصيل الجزئية الخطيرة هي لله عز وجل ، ويبلغ الله إرادته ومشيئته حتَّى الجزئية التنفيذية التطبيقية لوليّه وخليفته في الأرض ، وهذه الصلاحية التي هي لله للأسف في غير مدرسة أهل البيت تراها كأنَّها مزواة عن الساحة الإلهية ، مزواة عن الباري تعالى ، والعياذ بالله ، وكأنَّهم شابهوا اليهود في قولهم كما حكاه عنهم الله عز وجل بقوله : ( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا ) ( المائدة : 64 ) ، هيهاتَ ، بل تنبسط وتشمل جميع السلطات ، وكما يُحدّثنا القرآن الكريم في حكومة الرسول ، أوَليست سيرة حكومة الرسول في القرآن مسطورة في منعطفات السياسة والحرب والسلم والقضاء ، أوَلم يكن ينزل أمر إلهي خاصّ ، وإن كان تشريعاً عامّاً أيضاً ولكنَّه أيضاً تطبيق خاصّ ، في موارد النزول إعمال الولاية من الله ، وإرادة من الله لا من رسوله في تلك الموارد ، هاهنا مثلًا ابدأوا حرباً مع المعتدين ، وهاهنا اعقدوا صلحاً ، وهكذا في موارد عديدة يتعرَّض لها القرآن الكريم حتَّى في إقامة الحدود والعقوبات الجنائية . صحيح إنَّ مفاد تلك الآيات تشريع عامّ ، لكن تطبيقه من الله عبارة عن تنفيذ خاصّ .

أنظر إلى هذا التوحيد الذي هو بلون مركّز وشديد وشمولي والذي لا يوجد إلَّا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، والذي يُنبئ عنه النبيّ يوسف في قوله تعالى على لسانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) ( يوسف : 40 ) ، ليس فقط في التشريع ، بل في كلّ مجالات الحكم .

وإذا نظرنا إلى مدارس بقيّة المسلمين نجد حاكمية الله تُزوى ، لماذا ؟ ذلك لأنَّهم لا يعتقدون أنَّ الإمام منصوب من الله عز وجل ، ولا أنَّ هناك ارتباطاً بين فرد بشري معصوم وبين الله تتنزّل عليه الحكمة الإلهية والتدبير الإلهي .

حجّية الإمام مع غيبة شخصه :

مرَّ بنا أنَّ القرآن الكريم في سورة يوسف يذكّر المسلمين والمؤمنين بأنَّ جهل البشرية بوجود النبيّ يوسف لم يزعزع ولم يزلزل عنوان نبوّته ، ولم يبعده عن الاضطلاع بمسؤولية الرسالة وبمسؤولية الإمامة ، وأنَّه معدّ مصلحاً ومنقذاً بشرياً في تلك الحقبة .

وكلّ هذه المقامات كان يزاولها النبيّ يوسف في غيبته ، ويقوم بتلك الأدوار الخطيرة في مسار البشرية التي تعصف بالنظام البشري ، والتي ربَّما تؤدّي به إلى سحيق الهاوية ، وهو ينتشلها ويقوم بهذا الدور الإلهي من دون أن يعرفوا نبوّته ولا رسالته ولا حجّيته ، ولا كونه الموعود المُبشّر من قبل الله ، ولا إمامته ولا كونه خليفة لله في أرضه ، لكن ذلك لم يُبطل حجّيته ولا إمامته ولا نبوّته ولا رسالته كما أسلفنا ، ولم يكن هناك أيّ شرطية وأيّ توقّف بين معرفة الناس له بنعت الحجّة ونعت النبيّ ونعت الرسول بالنبوّة والرسالة والحجّية والإمامة والخلافة ، وقيامه بتلك الأدوار من قبل الله تعالى .

وفي الحقيقة فإنَّ هناك مغالطة في قول البعض : إنَّه ليس هناك ارتباط ، بل الارتباط قائم بين النبيّ يوسف وأهل زمانه حيث يتفاعل مع ساحة الحدث الأساسي الرئيس عندهم من دون أن يشعروا بذلك الارتباط . فعدم معرفتهم به لا يعني عدم ارتباطهم به ، ولا يعني عدم قيامه بالدور ، فالإنسان الآن في وجوده يتعاطى مع كثير من الأشياء المحيطة به من المادة لكن لا يشعر بها ، فهل يعني ذلك عدم وجودها ؟

فالأمر هنا بيّن ، ففي حالة النبيّ يوسف نرى أنَّه لم يكن معروفاً إلَّا لذويه وإخوته وأبيه النبيّ يعقوب ، وإلَّا فإنَّ أهل مصر وعزيزها وملكها ، والبلدان المجاورة لم يعرفوا شخصاً بهذا الاسم ، وبعبارة أخرى هناك الخفاء في النبيّ يوسف أشدّ ممَّا هو عليه الحال في الإمام المهدي ، الإمام المهدي يُعرف بشخصه الذي هو الثاني عشر من ذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله من ولد علي وفاطمة عليهم السلام ، وهو ابن الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، واعترف كثير من علماء المسلمين بولادته ، ومنهم الذهبي في ( تاريخ الإسلام ) كما تقدَّم ، وغيره من علماء الجمهور ممَّن اعترفوا وسلَّموا بولادته عليه السلام[10] ويعرفونه باسمه وشخصه ، وأنَّه المرشّح لأن يكون مصلحاً إلهياً ، وأنَّه الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلًا ، وهو الذي على يديه يظهر الدين على الأرجاء كافّة ، والموعود ببشارة سيّد الأنبياء ، يعرفون هذه المواصفات ، ولكن لا يعرفونه بتشخّص وجوده ، ولا يميّزون من هو المنعوت بهذه المواصفات ، لذا كانت حال الإمام المهدي أهون في الخفاء ، أمَّا في النبيّ يوسف كما يحدّثنا القرآن الكريم فإنَّ أهل مصر وكثيراً من البشر آنذاك كانوا يتعاطون مع النبيّ يوسف ومرتبطين به لكن لا يشعرون به ، لا يعرفون الاسم حتَّى على مستوى النظرية ، فضلًا على مستوى التطبيق ، يعني ليس على مستوى الفكرة فضلًا عن مستوى تشخيص الفكرة على وجود خارجي ، فالخفاء في ظاهرة النبيّ يوسف أشدّ ، ومع ذلك لم تبطل نبوّة النبيّ يوسف وحجّيته وإمامته وخلافته ومُصلحيته ، فهذا درس اعتقادي عظيم يسطّره لنا القرآن الكريم في سورة يوسف ، وليس سمراً ولا ثرثرة ، بل عِظَة وعبرة عقدية واعتقادية قبل أن تكون عبرة أخلاقية أو أدبية ، ( ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ) ( يوسف : 111 ) ، ليست هذه مفتريات ، بل ( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ بِالْهَزْلِ ) ( الطارق : 13 و 14 ) ، هو قول الله عز وجل ، فإنَّ هذا درس عقائدي عظيم يجابه به القرآن الكريم ويصدّ أكذوبة المكذّبين بالإمام المهدي ودعواهم في المنافاة بعدم شعور البشر بالارتباط وبالتالي تبطل حجّيته ، فأيّ معنى لمثل هذه المقولة الزائفة ؟

وبقيّة الآيات التي تسرد لنا ظاهرة النبيّ يوسف تقول : ( وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ * قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ( يوسف : 54 و 55 ) .

أنظر بماذا علَّل النبيّ يوسف إمامته في التدبير لذلك النظام ، قال : ( إِنِّي حَفِيظٌ ) ، يعني الأمانة العامّة التي هي بدرجة العصمة ، والتي تعني العصمة العملية في درجاتها العالية ، والعلم يعني العصمة العلمية ، وهذا الذي تذهب إليه مدرسة أهل البيت عليهم السلام في أنَّ الإمام يجب أن يتوفَّر فيه شرطا العصمة العلمية والعصمة العملية .

البشرية تعيش الآن أزمة التنظير وتطبيق التنظير في العصمة العلمية ، أزمة في تنظير النظام الاقتصادي العادل وأيّ نظام من النظم سواء النظام الرأسمالي أو النظام الشيوعي أو النظام الاشتراكي لم يؤمّن العدالة الكاملة ، ولا زال التفاوت والفارق الطبقي الفاحش المجحف للبشرية موجوداً ومتمثّلًا بالفقر البشري ، والنظام المصرفي الربوي لا زال يقصم ظهر البشرية ، فالبشرية تحتاج إلى تزويدها علماً من السماء على مستوى التنظير ، أي العصمة العلمية ، والأمانة في التطبيق ، وهي العصمة العملية .

وهنا النبيّ يوسف عليه السلام عندما يقول : ( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ) ، تُثار حول قوله عدّة تساؤلات : فهل أنَّ علم النبيّ يوسف هو تجريبي كسبي ، أم علمه لدنّي ؟ هل حفظ النبيّ يوسف عليه السلام للأمانة في التطبيق حفظ كسبه من رياضة ، أم هو حفظ نابع من عصمته في العمل ؟ قال تعالى : ( لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ ) ( يوسف : 24 ) ، إذن هو مخلص من قبل الله تعالى توجد فيه العصمة العلمية والعملية ، وهذا التعليم للنبيّ يوسف والتدبير في الأرض بماذا يُعبّر عنه النبيّ يوسف ؟ يقول : ( إِنِّي حَفِيظٌ ) ، يعني بما هو عليه من مستوى درجة الحفظ والعلم ، وهي العصمة العملية والعصمة العلمية ، هذا الحفظ الخاص وهذا العلم الخاصّ في النبيّ يوسف هو الذي يؤهّله لإمامة الأرض ولإمامة البشر ، وكذلك يقال : إنَّ القرآن معجز وفيه آيات للسائلين ، هذه سورة يوسف كما ابتدأ صدرها بقوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) ( يوسف : 7 ) ، أيّ سؤال عقدي تطرحه على سورة يوسف ستجد إن شاء الله أنت أيّها المسلم أيّها القارئ إجابة شافية وافية فيها ، شريطة التدبّر ، لا تقرأ القرآن بأهازيج فقط وتغفل التدبّر ، حفظ معنى القرآن أعظم من حفظ لفظ القرآن ، وإن كان حفظ لفظ القرآن ممدوحاً ومطلوباً ، لكن ما هو أشدّ طلباً وأشدّ رجحاناً حفظ معنى القرآن ، وحفظ بصائر القرآن .

( وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف : 21 ) ، هذا بيان وافٍ من القرآن الكريم حيث مكَّنه الله من القدرة ، أنظر كيف يتدرَّج القرآن في تهيئة الأرضية له مهما طال الزمن : مكرهم بيوسف ، وإلقاؤه في غيابت الجُبّ ، ذلك المكر يجعله الله عز وجل تدبيراً في وصوله إلى البشارة الموعودة من كونه مصلحاً ومنجياً والذي بشَّر بها الله عز وجل النبيّ يوسف في رؤياه : ( إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً . . . ) ، فرغم كيد الكائدين وحسد الحاسدين ومكر الماكرين يجعل الله مكرهم تدبيراً له ويوصله إلى الوعد الموعود ، وهذه عبرة من القرآن ، لأن لا يفقد المؤمن والمسلم أمله بما وعد به القرآن ، ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) ، فنحن نشاهد قوى عظمى متسلّطة فنقول : أيّ إمام وعد به رسول الله ، وأيّ وعد وعدنا به القرآن الكريم بقوله عز وجل : ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ونحن مغلوبون على أمرنا ؟ ! كلَّا ، لا بدَّ من بقاء هذا الأمر ؛ لأنَّ الله غالب على أمره ، كما يبشّرنا بهذا الإمام الذي يقوم بإفشاء الصلح وإنشاء العدل والقسط ( ليملأها قسطاً وعدلًا ) ، ويظهر دين جدّه .

نعم ، يُمكّن الله له كما مكَّن ليوسف ، وقد ضرب لنا القرآن مثلًا وعظة ودرساً ليتّعظ بها المسلمون ، ( وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ * وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ( يوسف : 57 و 58 ) ، أنظر هذه المحطّة من سورة يوسف ، يوسف عرف إخوته ، لكنَّهم لا يعرفونه ! أخوهم في الصغر لا يعرفونه في الكبر ، إذا كان الحال في إخوة يوسف هكذا إذ تعاطوا مع يوسف ودبَّر شؤونهم وتأثّروا به وأثَّر فيهم ، وقام بدوره ومسؤوليته فلم يشعروا به ، فهل هذا يعدم وجوده ؟ كلَّا ، فالقرآن الكريم ضرب لنا مثلًا عظيماً يريد به أن يبيّن لنا أنَّ أقرب المقرَّبين لذلك الحجّة الوليّ الغائب وهم إخوته قد رأوه في صغره ولكنَّهم لم يعرفوه في كبره ، مثل عظيم جدَّاً يعرضه لنا القرآن الكريم ، يقول : إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ، كما جاء في لسان صادق آل محمّد لبيان هذه العبرة في السورة ، قال عليه السلام : ( إنَّ في صاحب هذا الأمر لشبهاً من يوسف . . . إنَّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباطاً أولاد أنبياء دخلوا عليه فكلَّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه وكانوا إخوته وهو أخوهم لم يعرفوه حتَّى عرَّفهم نفسه ، وقال لهم : ( أَنَا يُوسُفُ ) ، فعرفوه حينئذٍ ، فما تنكر هذه الأمّة المتحيّرة أن يكون الله عز وجل يريد في وقت من الأوقات أن يستر حجّته عنهم ، لقد كان يوسف النبيّ ملك مصر ، وكان بينه وبين أبيه مسيرة ثمانية عشر يوماً ، فلو أراد أن يعلمه بمكانه لقدر على ذلك ، والله لقد سار يعقوب وولده عند البشارة تسعة أيّام من بدوهم إلى مصر ، فما تنكر هذه الأمّة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف ، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحبَ هذا الأمر يتردَّد بينهم ، ويمشي في أسواقهم ، ويطأ فرشهم ولا يعرفونه حتَّى يأذن الله له أن يعرّفهم نفسه كما أذن ليوسف حين قال له إخوته : ( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ ) ( يوسف : 90 ) )[11].

إذن المهدي عليه السلام يتردَّد فيما بين الناس ويتصدّى للأحداث ولمصير البشرية ولا نعرفه حتَّى يأذن الله له أن يعرّف نفسه لنا ، كما أذن ليوسف أن يعرّف نفسه لإخوته .

تلك عِبَر ، كلّ لقطة في هذه الآيات القرآنية تقول : إنَّ هناك عِظة وعبرة بالدرجة الأولى عقائدية واعتقادية ، فتدبَّروا فيها .

الجهل بالغيبة على مستوى النظرية والتطبيق :

هذه المحطّة التي وصلنا إليها من ظاهرة النبيّ يوسف عليه السلام وصلتنا بالعقيدة بالإمام المهدي عليه السلام ، وهي من أهمّ المحطّات في تلك الظاهرة ، حيث إنَّ النبيّ يوسف رغم نبوّته ورسالته وإمامته وخلافته لله في الأرض ، وكونه الموعود المصلح المنقذ المنجي ، إلَّا أنَّ من كان يحيط به لم يكن يعرفه لا بنعت النبوّة ولا بنعت الرسالة ، ولا بنعت الإمامة ولا بنعت الخلافة ، ولا بنعت الموعود والمصلح والمنقذ والمنجي للبشرية في تلك الحقبة ، حتَّى أنَّهم كانوا يجهلون تلك النعوت على مستوى النظرية ويجهلونها على مستوى التطبيق ، يعني لا يعرفون أنَّ هناك نبيّاً باسم يوسف ، فضلًا عن أن يعرفوا أنَّ هذا الشخص الذي يتعاطى معهم ويدبّر عصب الحياة في النظام البشري آنذاك هو النبيّ يوسف ، مع ذلك لم تبطل نبوّة النبيّ يوسف ولم تبطل حجّيته ولم يبطل دوره المضطلع به من المسؤولية الإلهية ، وكان يتعاطى مع الأحداث المصيرية في تاريخ النظام البشري آنذاك ويتصدّى لها .

هذه وقفة قرآنية تستحقّ النظر جلياً وإمعان الفكر كثيراً ، ولا نتابع هذه القصص وهذه الأحداث إلَّا بعبر ، يجب على قارئ القرآن الكريم أن يستشف من عدسة ومجهر القرآن الكريم بأنَّه حينما يُسلّط الضوء على زاوية من زوايا حياة النبيّ يوسف يجد أنَّه قد يكون غائباً ، ومع ذلك يقوم بدوره في غيبته ولا تعرفه الناس لا على مستوى النظرية ولا على مستوى التطبيق ، يعني لا يعرفونه على مستوى الفكرة ولا يعرفونه على مستوى التعاطي الخارجي ، ومع ذلك لا تبطل مناصبه ولا يبطل دوره ولا تبطل حجّيته ، ولا ينحسر الناس عن ثمار دوره ، بل ينفعهم من حيث لا يشعرون ، لذلك نرى القرآن الكريم في بدء ظاهرة النبيّ يوسف عند بدء غيبته عبَّر بهذا التعبير وذلك عندما جعلوه في غيابت الجُبّ : ( فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( يوسف : 15 ) ، يعني هو يشعر بهم ولا يشعرون به ، ومن ثَمَّ نصل إلى هذا المقطع من السورة بعد دهر طويل وأحداث جسيمة مرَّت في حياة يوسف : ( وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ) ( يوسف : 58 ) ، هو إذن يعرف الناس لكنَّهم لا يعرفونه ، لكن هذا لا يوجب عدم التعاطي مع دور النبيّ يوسف ، فقد كان في صلب الحدث والتصدّي الفعلي وكان يتعاطى مع الناس ويرتبط بهم من دون أن يشعروا بهوية الذي يرتبطون به .

فلا انقطاع بين الناس وبين النبيّ يوسف في غيبته ، لأنَّها غيبة شعور به ، غيبة معرفة به ، لا غيبة وجود ، ولا غيبة دور ، ولا غيبة التعاطي والارتباط معه ، هذا هو المعنى الصحيح لغيبة الحجج وأولياء الله تعالى ، وهذا هو من أوّليات البرنامج الأمني الإلهي ، وقد أصبح ذلك متّبعاً أيضاً حتَّى في البرامج الأمنية لنظم الدول الحديثة .

( وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) ( يوسف : 59 ) ، أنظر كيف هو يعرف أمورهم وأحوالهم ومع ذلك هم لا يفطنون لذلك ، هذا الحجاب من الله عز وجل حجاب العلم لا حجاب الوجود ، الحجاب الذي يُضرب على وليّ الله الغائب ، سواء النبيّ يوسف في غيبته أو النبيّ موسى في غيبته ، ليس حجاب عدم رؤية جسمه ووجوده ودوره ، بل هو حجاب عن معرفته ، وحجاب عن هويته ، فهو حجاب العلم ، وحجاب المعرفة ، وحجاب الشعور ، لا الاحتجاب عن أصل وجوده .

وقد يقع الكثير في هذا الخطأ وهو عدم التمييز والتفرقة بين الاحتجاب عن أصل وجوده أو الاحتجاب عن معرفة من هو الموجود ومن لديه ذلك الدور الخطير الذي يقوم ويضطلع بمسؤوليته .

اللقاء بين يوسف عليه السلام وأخيه :

( قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ) ، فانظر كم بلغ من الرتبة وموقعية التأثير وهو في مقام من الفضل والرفعة البشرية ومع ذلك لا يعرفوه بهويته ، ( فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ * قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ ) ، بعد ذلك يحدّثنا القرآن الكريم فيقول : ( وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا ) ( يوسف : 62 59 ) ، أنظر إلى ذلك التدبير ، فإنَّه يوصل الخير للبشر من دون أن يشعروا به ، من دون أن يعرفوا ممَّن وصلهم ، كما قيل : ( أبى الله أن يجري الأمور إلَّا بأسبابها ) ، و ( إذا أراد الله شيئاً هيَّأ أسبابه ) ، فوصول الخيرات للناس له أسباب ، وسُنّة الله اقتضت بأن تجري هذه الخيرات عبر الأسباب التي وضعها الله ، ومن ضمن تلك الأسباب شبكة وليّ الله في غيبته ، حيث يوصل الخيرات للناس عبرها من دون أن يشعروا ممَّن وصلهم هذا الخير ، مع أنَّ الرزق والخير كلّه من الله ، لكن الله جعل لتلك الخيرات ووصولها قنوات وأسباباً ، كما جعل المطر والماء لإحياء الأرض ، ( وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ) ( الأنبياء : 30 ) ، فأصل الخير كلّه من الله عز وجل ، ولكن الله يجري الخير على أيدي أوليائه .

ثمّ يأتي قوله تعالى : ( اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) ( يوسف : 62 و 63 ) ، إلى أن جاذبوا أباهم يعقوب لأخذ شقيق يوسف من امّه ، بعد ذلك توصية النبيّ يعقوب بأن لا يدخلوا من باب واحد : ( وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) ( يوسف : 67 ) ، ثمّ تواصل الآيات : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ( يوسف : 69 ) ، قد يكون هنا نوع من رفع لستار الغيبة النسبي ، يعني قد يتشرَّف بعض المؤمنين بمن هو غائب ، فالنبيّ يوسف كان غائباً عن أبيه وعن إخوته وعن كلّ أهل مصر وعن كلّ من يحيط به ، وممَّن يأتمر بتدبيره وقيادته ، ولكنَّه رفع ستار الغيبة فقط عن أخيه ، فتشرّف أخوه بعد رفع الستار عنه ، وهذا ممَّا قد وقع طبعاً لجملة من علمائنا الأعلام والأبرار والأخيار الصالحين[12].

معنى التشرّف برؤية الإمام الغائب عليه السلام :

تتعرَّض الآية القرآنية في سورة يوسف إلى ستار الغيبة للنبيّ يوسف باعتبار أنَّ موقعية الموعود المصلح ومقامه فرض عليه أن يغيب حتَّى عن أبيه ، ويختفي عنه اختفاء علم في تلك البرهة من الغيبة ، وقد أذن الله للنبيّ يوسف أن يشرّف أخاه بمعرفته فقط ، ممَّا يدلُّ على أنَّ في السُنّة الإلهية يمكن أن يؤذن لوليّ الله وللإمام ولحجّة الله الغائب في تعريف شخصه إلى البعض ، قال تعالى : ( وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ) ، وهذا الإعلام بأنَّه يوسف الغائب الموعود وكونه المصلح المنجي المنقذ الذي كان من قِبَل النبيّ يوسف ، إنَّما هو ممَّا أذن الله له ، ولم يكن بمعرفة سابقة ، وإنَّما تشرّف ، ( قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ( يوسف : 69 ) .

وهذا التشرّف حصل لأخيه من دون بقيّة الناس ، حتَّى من دون النبيّ يعقوب عليه السلام .

هل يفيد اللقاء بالإمام نوعاً من الحجّية ؟

من الواضح التشرّف لبعض المؤمنين أو لبعض العلماء والصالحين لا يدوم ، وإنَّما يكون مقدار لقاء وفترة وجيزة ، فهل هذا بالنسبة إلى بقيّة الناس له مؤدّى اعتبار وحجّية كأن يقوم بدعوى الوساطة مثلًا بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة الناس ؟

كلَّا ، فهذا الأمر منفي ، يعني لا حجّية ولا موقعية وساطة بين وليّ الله الغائب وبين بقيّة البشر ؛ لأنَّ سُنّة الله جرت ، كما حدَّثتنا الآيات القرآنية عن غيبة حجج الله وأكَّدت عليها روايات أهل البيت حول غيبة الإمام المهدي عليه السلام من نفي أيّ صلاحية سفارة أو وساطة أو تمثيل أو نيابة خاصّة ، لأنَّ هذه الغيبة ستارها الأمني مستفحل ، وهذه الوساطة من وإلى الحجّة لا يدّعيها إلَّا مفترٍ كذّاب ، لأنَّه لا يُخوّل لتلك الموقعية أحد ، لاسيّما بعد تصرّم الغيبة الصغرى ودخولنا في الغيبة الكبرى إلى أن يأذن الله بالظهور ، والآيات القرآنية في تجويز هذا التشرّف ليس نطاقها إلَّا إمكان حصول التشرّف ، أمَّا أن يكون للمتشرّف برؤية الغائب دور الوساطة فهذا ممَّا لا تثبته الآيات القرآنية ، بل وينفيه متواتر روايات أهل البيت عليهم السلام في أنَّ من ادّعى الرؤية في زمن الغيبة الكبرى فهو كذّاب مفتر[13]، والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرّف المقصود ؛ لأنَّ الذي يدّعي الرؤية يريد أن يدّعي الوساطة ، ويريد أن يدّعي أنَّه جسر ، أو أنَّه سفير ، أو أنَّه نائب خاصّ ، وما شابه ذلك . فهذه كلّها دعاوى وأكاذيب ليس أمامها إلَّا الأدلّة المبطلة لها .

بعد ذلك تتابع الآيات الكريمة في ظاهرة النبيّ يوسف : ( فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ) ( يوسف : 70 ) ، وهنا محطّة لطيفة أخرى أيضاً : ( ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ * قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ * قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ * قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ * قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ * فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ) ( يوسف : 76 70 ) .

أنظر كيف يكرّر القرآن المرّة بعد الأخرى الإشارة إلى التدبير الأمني الذي يودعه الله لوليّه الغائب والذي هو أرقى من تدبير نظم البشر ، فقد تكون تلك النظم فائقة القدرة أمنياً وتدبيرياً وإدارياً وإحاطة بالمعلومات وبالأحداث وبتداعياته ، إلَّا أنَّها تبقى دون مستوى التدبير الإلهي ، هذا ما يؤكّده القرآن ، حيث يسدّد الله عز وجل وليّه الغائب في اضطلاعه بالمسؤولية وضمان حراسة تدبيره وأدائه لمسؤولية الحجّة ، ليكون مصلحاً ومنقذاً للبشرية في غيبته وفي ظهوره ، فالتدبير الإلهي نافذ ثابت لا تصل إليه علمية البشر ولا إحاطتهم ، لذلك يُعبّر القرآن الكريم : ( كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف : 76 ) .

إذن لا يمكن التساؤل أنَّه كيف يقوم إمام غائب بأدواره ونحن لا نلمسها ؟ فهاهي القوى العظمى مع امتلاكها أحدث التقنيات من أقمار صناعية وأشعة فوق البنفسجية ، تحت الحمراء وأجهزة تجسّس وتنصّت وشبكات من الغرف والدوائر الأمنية المافيوية العجيبة الداهية الدهياء لا تعرف أين موطنه ولا تقف على وجوده .

وقوله عز وجل : ( نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ) ( يوسف : 76 ) ، أي إنَّ الله تعالى يرفعه في درجة التدبير وفي درجة الإدارة وفي درجة الحيطة الأمنية ، بحيث لا تصل إليه البشرية ، فهي أنظمة فائقة على قدرات وتصوّر وتطوّر البشر .

الإنسان عندما يجهل شيئاً عليه أن يقف ويفحص ويتدبَّر ، لا أنَّ ينكر ما لا يعلم ، وخصيصة المكذّب أنَّه يبني على أنَّ الحقائق هي بقدر علمه ، وأنَّ كلَّ شيء تخطّى دائرة علمه فهو باطل ، والحال أنَّ أكثر الحقّ في ما يجهله الناس وما ينكرونه ، فإنَّ ما لا يعلم الناس بالقياس إلى ما يعلمونه أكثر ، بل لا نسبة هناك حتَّى ننسب ما يجهلون بالإضافة إلى ما يعلمون .

هنا القرآن الكريم يؤكّد على أنَّ درجات العلم لا تقف عند حدّ ، وأنَّ ما لا يعلمه الناس لا يُسوغ لهم إنكاره ، كيف والله عز وجل عنده ما لا يتناهى مع درجة العلم والتدبير والنظم ، كيف ينكرون ويكذّبون ما يجهلون ، شأنهم شأن من كان قبلهم من الأمم السابقة من إنكار أنبيائهم ، والحال أنَّ الإنسان يجب عليه أن يتثبَّت عندما لا يعلم بشيء ، فهناك نظم وتدبيرات أمنية واقتصادية وإدارية وقيادية لإدارة البشر من دون أن تصل إليها قافلة العلم البشري ، لكن مع ذلك يزوّد الله بها أولياءه .

عرض الأعمال على وليّ الله :

قال تعالى : ( قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ ) ( يوسف : 77 ) ، إذن يتفاعل وليّ الله الغائب في غيبته وحجّته ودوره محوري مع الأمور والأحداث ، يصله ما يحزنه وما يفرحه ، لا أنَّه قاصي متفرّج لا يتفاعل مع الأحداث ولا يتأثّر بها سلباً وإيجاباً ، فقد ورد الخبر بأنَّ أعمالنا تُعرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحزنه إذا رآى اقتراف الطالح منها ، ويسرّه إذا رأى الصالح منها[14]، فكيف بوليّ الله الحيّ ، أي في دار الدنيا ، وإلَّا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيّ عند ربّه ، فالحال هنا كذلك .

وقوله تعالى : ( فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ) ، إي إنَّ نبيّ الله ووليّ الله الإمام والخليفة في غيبته يتفاعل مع الأحداث ، يتأثّر ويؤثّر ، لا أنَّه نائي غارب عازب عن الأمور ، حاشا لوليّ الله أن يكون كذلك .

الغيبة والتدبير الإلهي :

بما أنَّ تدبير الله عز وجل يفوق تدبير البشر ، حيث إنَّه تعالى يزوّد البشر بالعلم والإحساس والشعور والإدراك ، فخالق الإدراك والإحساس والشعور يحيط بتلك الأمور بما لا تحيطه يد البشر ، ومن هذا المنطلق فإنَّ التدبير الإلهي ومن خلال رجال الغيب يقوم بإصلاح وإدارة البشر في ظلّ ستار غيبة الشعور بهم وستار حجاب العلم بهم من دون أن يكون هناك ستار عن أصل وجود الحاضر ، فالإمام يتعاطى الحدث وإدارة وتدبير البشر والنظام البشري ، وهو معنا من دون علم أو معرفة به لكن بهويته وبكيفية دوره ، هذا الأمر يؤكّد عليه القرآن دائماً كما مرَّ بنا في سورة القصص وسور أخرى حول ظاهرة النبيّ موسى ، وكذلك في سورة النبيّ يوسف ( وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) ( يوسف : 21 ) ، فأكثر الناس لا يعلمون بكيفية غلبة الله في تدبير الأمور ويقيسون قدرة الله بقدرتهم ، أو قدرتهم بقدرة الله ، ومن ثَمَّ يجهلون ، ومن ثَمَّ ينكرون ، ومن ثَمَّ يكذّبون بآيات الله وبحججه ، وهذا أمر يجب أن يتوقَّف عنده المسلمون وأن لا يسارعوا إلى الإنكار بمجرَّد إثارة بعض الجاهلين لقدرات الله وآياته .

بعد ذلك تواصل سورة يوسف قصّ حدث غيبة النبيّ يوسف عندما استخلص أخاه ، وأذن في أن يتعرَّف عليه دون بقيّة الناس حتَّى أبيه النبيّ يعقوب ، ( مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ * فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا ) ، أي إخوة يوسف من أخذ أخيهم الذي كان معهم ، الذي هو شقيق يوسف ( خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ * وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ * قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ( يوسف : 83 79 ) ، أنظر هذا المقطع في ظاهرة غيبة النبيّ يوسف الذي يسجّله لنا القرآن الكريم في موقف النبيّ يعقوب ، وهو أنَّ النبيّ يعقوب لم ييأس من روح الله ، عن ظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود وهو ابنه ، رغم طول الغيبة ، رغم يأس إخوته وذويه وأهله ، ويأس الناس ممَّن يعرفونه فضلًا عمَّن لم يعرفه ويجهل أمره ، أنَّه سيظهر ويكون له موقعية الإصلاح في الأرض في تلك الحقبة الزمنية ، فهذا درس اعتقادي وعقدي يسطّره لنا القرآن الكريم بأنَّه مهما طالت غيبة وليّ الله المصلح الموعود لإنقاذ البشرية لا يدعو ذلك المؤمن والمسلم لليأس من روح الله ( إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ( يوسف : 87 ) ، ( قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) ( يوسف : 83 و 84 ) ، بعد ذلك في آية أخرى يقول : ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ( يوسف : 87 ) .

طول الغيبة مدعاة لليأس عند ضعاف القلوب :

في هذه السورة محطّة أخرى مهمّة وهي أنَّ تطاول غيبة وليّ الله الموعود بالبشارة لكونه مصلحاً ومنقذاً للبشرية ، هذا التطاول في الغيبة مدعاة لليسأس عند ضعاف الإيمان أو ضعاف العقول التي لا تدرك مدى قدرة الله ، ولا تستيقن بحقيقة المعرفة والإدراك من أنَّ الله غالب على أمره مهما تطاولت الدهور والعصور ، فيحصل لهم اليأس ، لذا تؤكّد هذه الآية أنَّه من عظائم الإيمان الانتظار والأمل بمجيء الفرج ، لأنَّ اليأس من روح الله جعل في لسان هذه الآية على لسان النبيّ يعقوب في مصاف الكافرين ، فإذن تطاول المدّة لا يعني بأنَّ الله عز وجل في تدبيره على يد وليّه الغائب جعل الأمور أو الحبل على الغارب ، بل كلَّما كان هنالك تدبير كانت هناك خطوات متناسقة متّسقة لا يطلع الله عباده على تدبيره ولا على تنسيقه ، ونحن نشاهد في هذه الأزمنة الآن أنَّ البشرية ترفع وتنادي بشعارات وأدبيات لا تنسجم مع الإنجيل المحرّف ، ولا تنسجم مع التوراة المحرَّفة ، ولا تنسجم مع البوذية ولا تنسجم مع الفلسفة المادّية الرأسمالية ، وإنَّما تنسجم مع أدبيات وعقائد الإسلام ، لاسيّما من رؤية مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فالنظام العالمي الواحد يعني أنَّ البشرية تتساوى في الحقوق ، وأنَّ العدالة يجب أن تعمّ البشر ، وأنَّ الحرّية يجب أن تكون عميمة في سائر أرجاء الأرض و . . . ، وهذه في الواقع ثوابت العقيدة المهدوية أصلًا ، والرؤية والعقيدة بالإمام المهدي أنَّه يؤسّس نظاماً عالمياً واحداً تستوي فيه حقوق الناس لا يحكمه العرق ولا القومية ولا أيّ شيء آخر يكون موجباً للتفريق بين البشر ( يملأها قسطاً وعدلًا ) ، أنظر هذه الأدبية ، فهي من أربعة عشر قرناً يردّدها المسلمون في رواياتهم حول المهدي عليه السلام .

وحتَّى الدول الغربية التي لو راجعنا فلسفاتهم في الإنجيل المحرّف أو التوراة المحرّفة ، تلك الأدبيات التي لا تنسجم ولا تتناغم حتَّى مع أعرافهم التي هم يتعايشون ويبنون عليها أعرافاً قانونية لا تتناغم مع هذه الشعارات التي تطلق الآن ، وهي جذّابة أخّاذة بقلوب البشر وبكلّ الجوامع والمجتمعات البشرية . إنَّما هذه في الواقع رؤى وأدبيات العقيدة المهدوية ، فهناك حلقات يديرها الله عز وجل تترى ويتلو بعضها البعض ، وهذه محطّة مهمّة تدعونا إلى التوقّف عندها ، ومن ثَمَّ ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ : ( انتظار الفرج من الفرج )[15] ، و ( أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل )[16]، لماذا ؟ لأنَّ انتظار الفرج يحمل في طيّاته تمام الاعتقاد بقدرة الله عز وجل وبغابر تدبيره وثاقب أمره ، ونافذ قضائه الذي لا يحيط به البشر ، في الحقيقة يعني نوعاً من التعايش التوحيدي لقدرة الله تعالى ، أمَّا الذي يكذّب وينكر تدبير وجود وليّ الله عليه السلام وأنَّه في كبد الحدث والتصدّي لهذه الأدوار ، وأنَّ الله سيظهره في حلقة نهائية ، فهو انقطاع عن الحالة التوحيدية بالدرجة المشبعة التي يتعايش بها قلب الإنسان .

إنَّ الإنسان إذا استطاع أن يتعايش مع جوّ توحيدي مفعم كما تعبّر عنه وتربّينا عليه هذه الآيات الكريمة في ظاهرة غيبة النبيّ يوسف ، كقوله تعالى : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) ( يوسف : 83 ) ، وقوله : ( إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ * يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ( يوسف : 86 و 87 ) ، فالصبر تارة يكون جميلًا وتارة يكون غير جميل ، الصبر الجميل الذي يكون مع وقار وطمأنينة واستبشار ، ولربَّما هناك صبر مع معان اخر ، فرغم غيبته وطولها إلَّا أنَّه موعود بالبشارة .

فهذه محطّة مهمّة توجب على الأمّة أن لا تيأس ولا يصيبها الهوان إذا غاب عنها وليّها ، بل مهما طالت غيبة حجج الله المبشَّرين بأنَّهم سيكونون المصلحين والمنقذين للبشر ، لأنَّ غيبتهم غيبة الشعور بهم ، غيبة المعرفة بهم ، سواء قصرت هذه الغيبة أم طالت فلا بدَّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يأخذ به الأولياء المغيَّبون دورهم الطبيعي العلني وبشكل شامل يعمّ البشرية .

هذه وقفة مهمّة في غيبة النبيّ يوسف يعظنا بها القرآن الكريم ، وهي غيبة عقائدية وممارسة أخلاقية وأدبية هامّة جدَّاً ، وأيضاً الآيات الأخرى ، يقول تعالى : ( وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ ) ( يوسف : 84 و 85 ) ، يخاطبون يعقوب ألا زلت إلى الآن تذكر يوسف الموعود ؟ إلى الآن متعلّق قلبك بهذا الغائب المبشّر بأن يكون مصلحاً وموعوداً وممكّناً في الأرض ؟ إلى الآن مع طول هذه المدّة ؟ هذا أمر مهمّ يجب أن نلتفت إليه ، حيث قصَّ لنا القرآن الكريم موقف النبيّ يعقوب : ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً ) ، ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ ) ، كما يعلّمنا النبيّ يعقوب عليه السلام وظيفة المؤمن تجاه حجّة الله الغائب ، ووليّ الله الموعود بأنَّه المصلح المنقذ للبشرية ، لا بدَّ أن تكون هناك شدّة تعلّق وشدّة تذكّر وشدّة ندبة للحقّ والإيمان ؛ لأنَّ هذا الإيمان بوليّ الله الغائب ومعرفتنا به لا يبقى ولا يستمرّ إلَّا في ظلّ التشديد والتركيز من التعلّق والأمل ، لذلك نرى هنا الآيات الكريمة تركّز على هذه النقطة من مواقف النبيّ يعقوب عليه السلام في ظلّ غيبة النبيّ يوسف ، وهنا يعلّمنا القرآن الكريم الموقف تجاه وليّ الله الغائب ومعرفتنا به ، الغائب شعورنا به وبهويته ، أنَّه لا يدعونَّكم ذلك إلى الانقطاع والفتور عن ذكره والتعلّق به والدعاء له بالفرج ، فلا بدَّ من كلّ ذلك ، فقد ورد عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام دعاء الندبة الذي يستحبّ قراءته كلّ جمعة ، بل كلّ عيد ، بل كلّ يوم ، لماذا ؟ لأنَّ الندبة دعاء وشكوى وتعلّق . وإذا كان لكلّ إمام من الأئمّة عليهم السلام مجلس عزاء لما انتابه من مصائب وقتل وظلم وتشريد وأنواع المصائب ، فإنَّ مجلس مصاب الحجّة عليه السلام هو شدّة معاناة الغيبة ، فدعاء الندبة يحمل عدّة معانٍ في طيّاته ، فهو مجلس عزاء لهذه المصائب التي ابتلي بها إمامنا المهدي الحجّة ابن الحسن عليه السلام ، فيجب أن نقيم مثل هذا العزاء في الواقع .

أوَلا نرى ماذا يحدّثنا القرآن الكريم وكيف يربّينا على التعلّق بمن نعتقد ونؤمن به ، إذ لا تخلو الأرض من خليفة لله ، بنصّ القرآن الكريم حيث يقول : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ( آل عمران : 7 ) ، وأهل البيت هم الراسخون في العلم الذين يعلمون تأويل الكتاب ، وهم قرناء القرآن دائماً وأبداً بنصّ قوله تعالى : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة : 79 77 ) ، وهم المطهَّرون لقوله تعالى : ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب : 33 ) ، فإذن أهل البيت مقرونون بالقرآن ، ولا بدَّ من وجود فرد منهم مع البشرية إلى يوم القيامة ويبقى ما بقي القرآن الكريم .

فالاعتقاد بهذه الحقائق والعقائد القرآنية لا بدَّ أن يرتسم ويتجسَّد في سلوكنا ، وذلك من خلال التعاطي مع هذه الحقائق الإيمانية القرآنية من وجود خليفة لله في الأرض على مرّ الزمان من بدء الخليقة إلى منتهاها يُزوّد بالعلم اللدنّي وهو علم الأسماء ، وكثير ممَّا تطالعنا به الآيات القرآنية ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ) ( الرعد : 7 ) ، فلكلّ قوم هادٍ من الله يهديهم ، ( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ) ( الفاتحة : 6 و 7 ) ، أولئك هم الهداة المبعوثون المنصوبون من قِبَل الله تعالى لهداية البشرية ، هذه حقائق وعقائد قرآنية لا نتخلّى عنها ، بل نستمسك بها ، وهي في أهل بيت نبيّه الذين طهَّرهم وجعلهم قرناء في سورة الواقعة مع الكتاب المكنون : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ، هذه العقائد كيف تترجم في سلوكنا العملي ؟ يعلمنا القرآن الكريم هنا ما قام به النبيّ يعقوب تجاه النبيّ يوسف الغائب : ( قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ) ، يظهر التحسّر ، كما نقرأ في دعاء الندبة من إظهار الشكوى وإظهار التأسف :

( هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى ، هل إليك يا ابن أحمد سبيل فتلقى )

، أنظر هذه التربية من مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، هي سُنّة من القرآن الكريم ، من النبيّ يعقوب تجاه النبيّ يوسف ، هذه السنن الإلهية ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) للمؤمنين وليس للمكذّبين اليائسين القانطين من قدرة الله ومن روح الله ، سنن إلهية نتَّعظ بها ونتدبّرها ، ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ( محمّد : 24 ) ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ) ، أنظر إلى موقف النبيّ يعقوب المؤمن بوعد الله وبإنجاز ذلك الوعد في المصلح ، لا يُحبِط من إيمانه استهزاءُ المستهزئين ، ولا يضعف من يقينه ولا من أمله تكذيبُ المكذّبين واستهزائهم ، ( وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ( يوسف : 84 ) ، لاحظ هنا التشوّق إلى أن عميت عيناه .

الغريب أنَّ البعض يأخذ علينا إظهارنا لمودّة أهل البيت والعزاء على مصائبهم ، ويتناسون أنَّ القرآن أمرنا بهذه الفريضة العظيمة : ( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى ) ( الشورى : 23 ) ، وفسَّر القرآن الكريم المودّة في سورة التوبة بأنَّها في مقابل العداوة ، لتعرف الأشياء بأضدادها ، فعندما يفسّر العداوة يكون القرآن قد فسَّر لنا المودّة ، ( إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ ) ( التوبة : 50 ) ، فإذا كان يعادي النبيّ وأهل بيته فهو يفرح عند مصابهم ، ويستاء عندما تصيبهم حسنة .

فالمودّة هي : ( يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا )[17] ، وهذه فريضة عظيمة قد أمرنا بها القرآن الكريم ، فانظر مودّة النبيّ يعقوب للغائب ابنه الذي هو الموعود المُنجي للبشر ، حيث بلغ منه الحزن والتعلّق والتشوّق إلى وليّ الله إلى أن تبيضّ عيناه ويعمى . فهل نستكثر البكاء والرثاء على سيّد الشهداء عليه السلام سبط المصطفى وريحانة النبيّ وسيّد شباب أهل الجنّة ، أو نستكثر عليه اللطم وإظهار الجزع ! ؟ فهذا النبيّ يعقوب هكذا فعل بنفسه تجاه ولده ، وهم كذلك يستكثرون علينا أن نتعلَّق بشدّة بالإمام المهدي وإظهار الندبة والحزن لفقده ، فمع علم يعقوب بأنَّ ابنه الغائب يقوم بتلك الأمور والأدوار المفصلية في نظام البشر ، إلَّا أنَّه قال : ( يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ) ، ولكنَّ المستهزئين والمهرّجين قالوا : ( تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ ) ، يعني أنت إلى الآن متعلّق به ! إلى الآن مؤمن به ! إلى الآن لك أمل به ! ( حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ * قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ، أعلم من الله بأنَّ هذا الوعد بعلم من الله ، ورؤيا الأنبياء وحي ، والوحي من الله لا يكذب ولا يكذّب أنبياءه ، ( يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ ) .

فهذا موقف مهمّ لوظائف المؤمنين بحجّة الله الغائب في زمن الغيبة ، أن لا يضعف إيمانهم ولا يضعف تعلّقهم ما داموا على برهان وبيّنة من ربّهم ، وأنَّ هذا الأمر وهذا التعلّق وهذا الانشداد إلى وليّهم الغائب لا يؤثّر فيه استهزاء المستهزئين أو تهريج المكذّبين الذين لا يعون آيات الله وبيّناته وحقائقه القرآنية .

دروس تربوية من سورة يوسف :

النبيّ يعقوب عليه السلام كان أمله وطيداً وشديداً ، وذلك ليقينه بروح الله وبقدرته وأنَّه لا يخلف وعده .

هذه كلّها دروس في إثبات انتظار الفرج ، وأنَّ انتظار الفرج أفضل أعمال هذه الأمّة كما ورد في الحديث النبوي ، وأيضاً نلاحظ هناك درساً تربوياً آخر يذكره القرآن الكريم في مواقف النبيّ يعقوب ، ألا وهو شدّة تعلّقه وانشداده بابنه الغائب الموعود بكونه المصلح المنجي المنقذ للبشرية ، فمن شدّة تعلّقه به أن وصل به الأمر إلى كثرة البكاء ، وكثرة البكاء جرَّت إلى ابيضاض العين وهو عمى العين ، ممَّا يدلّل على أنَّه يُفتدى في حبّ الأولياء والحجج ، ويُسترخَص في سبيل الفضيلة كلّ غالٍ ونفيس .

بل ويعظم ويكرم من شأنه أن يبذل في سبيل الفضيلة ، فكيف بمن حثَّ الله على مودّتهم وهم قربى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وجعَلَها عدل أجر الرسالة كما مرَّت بنا الآية الكريمة ، ممَّا يدلّل على أنَّ هذه الشدّة من التعلّق مؤكّدة وموطّد لها كما في سنن الأنبياء هو هذا التعلّق من النبيّ يعقوب بالنبيّ يوسف ليس تعلّقاً لمجرَّد قدرة الخيال ومراحل الواهمة أو إسطورية الخيال وما شابه ذلك ، بل هذه عبر وسنن أرادها الله عز وجل أن يستنّ بها الآخرون ، إذ هو أن نقتدي بها من النبيّ يعقوب في كيفية تعلّقه وحبّه بالوليّ الغائب الموعود وهو وليّ الله وحجّته في ذلك الزمن وفي تلك الحقبة لإنجاء البشرية ، وهذا درس تربوي ، وهو أنَّ هذا الإنشداد ولو بلغ إلى ابيضاض العين فهو محمود وهذه فضيلة وهذه مكرمة وكرامة ، فكيف بالمودّة التي قد أعظم الله في بيانها حيث جعلها عدل الرسالة التي فيها التوحيد وفيها النبوّة وفيها المعاد وفيها أصول الدين حيث جعلها في كفّة وجعل مودّة أهل البيت عليهم السلام في كفّة .

وهذا بيان وتعظيم كبير للمودّة ، فهي فريضة لا تعدلها بقيّة الفرائض بعد التوحيد والنبوة والمعاد ، فريضة المودّة لذي القربى وهم أهل البيت ، وهذا نوع من التشديد في بيانها وفي اقترانها ، وقد بيَّن القرآن أنَّ من شواكل المودّة اشتدادها ، كالذي جرى بين النبيّ يعقوب والنبيّ يوسف ، فإنَّ من يريد أن يفهم سنن الله في أنبيائه والعبر التي يوحي بها القرآن الكريم ليعلم بأنَّ هذا الدرب محمود العاقبة رفيع الفضيلة وهو الذي أوصى به القرآن الكريم ، فليس عليه من ذمّ الذامّين أو شنئ الحاقدين والمبغضين بعد ذلك من غضاضة ، وهذه الوظيفة في الواقع هي التعلّق بالإمام المهدي الغائب عليه السلام ، كيف لا وهو آخر العترة من ذوي القربى ، المأمورون نحن بمودّتهم وبالتعلّق بهم والاعتقاد بهم .

الظهور بعد الغيبة للنبيّ يوسف عليه السلام :

بعد ذلك تتواصل ظاهرة النبيّ يوسف ، قال تعالى : ( فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ * قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ * قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) ( يوسف : 90 88 ) ، هذه المحطّة من ظاهرة النبيّ يوسف التي هي نهاية الغيبة وبداية الظهور المعلن واكبت مرفقاً مهمّاً جرى بين النبيّ يوسف وإخوته والملأ العامّ ، حيث إنَّ النبيّ يوسف استهلَّ ظهوره وابتدأه بتذكير إخوته بالذي جرى منهم من قبل ، هذا التعبير يشاكل ما ورد في الروايات عن ظهور المهدي عليه السلام ، حيث يذكّر الأمّة بما قد جرى على سيّد الشهداء وما جرى على أهل البيت عليهم السلام من ظلامات وجرائم ونهب حقوق وجرأة على مقامهم ودفعهم عن المقامات التي رتَّبها الله لهم ، واستعراض لمصائب وظلامات أهل البيت عليهم السلام[18].

هذا الواقع يسطّره لنا القرآن الكريم عن يوسف وعن الإمام المهدي ، وما ورد في الروايات هو نوع من بيان أنَّ الاستحقاقات تستوفى في ظلّ ظهور المصلح المنجي المنقذ .

( قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) ، فهم لم يكونوا ليعرفوا أنَّه يوسف ، رغم تعاطيهم معه ومداولة الحديث معه وتأثّرهم بتدبيره ودوره العصيب الخطير المهمّ ، ومع ذلك لم يكونوا ليعرفوه لولا أن عرَّفهم هو بنفسه وبشخصيته وهويته ، فكانت غيبة ظهور لشخصيته ، غيبة ظهور لهويته ، بالنسبة إليهم هو حاضر بين أيديهم يمارس دوره ، لكنَّهم لم يكونوا يعرفونه ، فهويته لهم كانت غائبة .

نلاحظ أنَّهم ابتدأوا : ( أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ ) ، فإنَّ بداهة حضور النبيّ يوسف الغائب عليهم أكثر بياناً ووضوحاً وبداهة لهم ممَّا يحملونه من مرتكزات سابقة ، ممَّا يدلّل على أنَّ مثل هذه الغيبة في الحضور هي بنحو واضح بيّن فاعل مع كلّ الأمور ، غاية الأمر تطبيقهم لمن هو حاضر لهم ومتفاعل معهم وهم متفاعلون مع ما يحملونه من اعتقاد نظري ، هذا الانفراج بالمعرفة لا يحصل إلَّا عند الظهور ، فهنا وصل المطاف إلى إعلان ظهور النبيّ يوسف عليه السلام ، وظهوره كما نشاهده تدريجي ، حيث إنَّ أوّل ما بدأ ظهور النبيّ يوسف كان في دائرة إخوته الحاضرين من الملأ من البشر عنده في مصر ، ثمّ بعد ذلك تنامى هذا الظهور وتسامع به الناس ومن ثَمَّ أبوه النبيّ يعقوب ، وهذا يدلُّ على أنَّ الغيبة كما كانت في النبيّ يوسف تدريجية كذلك يكون ظهوره تدريجياً ، وهنا جاء تعبير النبيّ يوسف عليه السلام في الصبر على طول مدّة الاضطهاد فإنَّ أجره عند الله تعالى لن يضيع ، ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ * قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) ( يوسف : 92 90 ) ، وهذا ما قد قاله سيّد الرسل عندما فتح مكّة ، نعم كان منه الصفح والعفو ، وهذا ما سيكون عليه الإمام المهدي عليه السلام إذ يسير بسيرة جدّه المصطفى في العفو ، ومن أصرَّ من الأعداء المعاندين في اللجاج والخصومة فتكون سيرته معهم بشكل آخر ، وإلَّا فالأصل في سيرة المهدي عليه السلام أنَّه يسير بسيرة جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن كان قد ورد أنَّ المصطفى بُعث رحمة والمهدي بُعث نقمة[19]، فالمقصود من ذلك أنَّه يسير بسيرة جدّه يعفو ويصفح ، لكن من يركب رأسه اللجاج والعناد ينتقم منه ولا يكون له مهلة كما قد كان في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .

الأسباب الملكوتية :

قال تعالى : ( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ) ( يوسف : 93 ) ، يبيّن القرآن الكريم هنا أيضاً أنَّ النبيّ يوسف وأولياء الله يقومون بتدبير أدوارهم في جملة من المواقع بالأسباب الطبيعية ، لكنَّه بتدبير نظمي ربّاني يفوق وعي البشر وعلمهم ، ولكنَّه بأسباب طبيعية وبأسباب مجريات كما قيل : ( أبى الله أن يجري الأمور إلَّا بأسبابها ) ، ولكن لهم أيضاً في جملة تدبيرهم من الأسباب الخفية أو ربَّما يطلق عليها بأسباب الملكوت ، فهنا ليست بمقام الإعجاز أو في مقام الاحتجاج ، بل هي كرامة ، لكنَّها كرامة تدبيرية في أدوار النبيّ يوسف خارجة عن ظاهر الأسباب الطبيعية .

( وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ ) ( يوسف : 94 ) ، يستعظم أكثر من يخلد إلى الحسّ وسجن الحسّ وأصالة الحسّ والمادة مثل هذه الظواهر أو يتنكَّر لمثل هذه الموارد ، وربَّما يصعب عليه الإذعان بها ، ( قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جاءَ ) ( يوسف : 95 و 96 ) ، لاحظ أنَّه لا زال الذين يستهزئون بالانتظار للفرج في خصومتهم ومشادتهم ومواجهتهم لعقيدة الانتظار للفرج التي كان رسَّخها وسنَّها النبيّ يعقوب ، عقيدة الانتظار والأمل بوليّ الله المصلح الغائب ظهوراً وليس الغائب حضوراً ، فهم يعتبرونه ضلالًا ، وهذه دروس قرآنية عظيمة تعطى للمؤمنين . مفادها أنَّ رغم استهزاء وتهريج المكذّبين والمنكرين لآيات الله ولحقائق القرآن في وجود المصلح المنقذ المنجي للبشرية الذي ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) ، هذا الوعد الإلهي والإيمان به لا يزلزله ذلك التهريج وذلك الاستنكار وتلك الخصومة وتلك المعاداة عن هذه العقيدة القرآنية بظهور المصلح المنجي المنقذ الموعود الذي يملأها قسطاً وعدلًا بعدما ملئت ظلماً وجوراً .

بعد ذلك تسرد لنا الآيات : ( فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) ( يوسف : 96 ) ، هذا تذكير من المنتظرين للفرج بظهور الوليّ المصلح الحجّة لأولئك الناكرين الجاحدين المستهزئين ، ( أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ ) ، هنا يأتي دور إخفاق المكذّبين ، ( قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ * قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ * وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ ) التي هي البشارة بالتمكين والظهور بعد الغيبة والتمكين لإصلاح الأرض من الفساد الذي كان ربَّما يعصف بالبشرية لولا تدبير النبيّ يوسف عليه السلام ، ( مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف : 101 97 ) ، الآيات الكريمة تواصل أخذ العبر من ظاهرة النبيّ يوسف وتأتي إلى هذا المقطع : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ ) ( يوسف : 109 ) ، تطرح آخر الآيات من سورة النبيّ يوسف مقطعاً مهمّاً جدَّاً وهو : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ) ، أنظر السُنّة الإلهية أنَّه قد يطول الأمد في تحقيق الأمل الإلهي الموعود ، ولكن لا يوجب ذلك الأياس ولا اليأس من روح الله ، لماذا ؟ لأنَّه في النهاية ( وَظَنُّوا أَنَّهُمْ ) إذا انقطعت القدرة البشرية يكون هناك رحمة من الله عز وجل .

مجمل سيرة النبيّ يوسف وظاهرة المصلح المنجي الذي غاب في بدء حياته وترعرع إلى أن ظهر للتمكّن في الأرض ، تريد أن تعطي هذا الدرس ، وهو أنَّ الأمل الموعود من قِبَل الله في بشائره ، كما هو بشارة لهذه الأمّة الإسلاميّة أن يظهر هذا الدين على الكرة الأرضية كافّة ، ولن يتحقَّق هذا الوعد على يد أحدٍ غير أهل البيت ، حيث إنَّ الدين بدأ بأهل البيت عليهم السلام بالنبيّ ونصرة علي ، وتدبير النبيّ وابن عمّه علي ، بهم بدأ الإسلام وبهم يختم ، هذا الوعد الإلهي لأن يظهر دينه على الدين كلّه ولو كره المشركون مهما طال الأمد ، هذه سُنّة يريد أن يركّز مفهومَها القرآن الكريم في مجمل سيرة النبيّ يوسف ، من ظاهرة غيبة المصلح وظهوره بعد ذلك ، ثمّ بعد ذلك عند الظهور يأتي كلّ البأس الإلهي على المجرمين المعاندين المكابرين المكذّبين المفسدين الظالمين ، يأتي البأس الإلهي ويطهّر الأرض من بأسهم ويعمّ ربوعها الإصلاحُ والعدل والقسط ، فهذه سُنّة إلهية إذن ، وما دام الإنسان يؤمن بالله لا ييأس من روح الله ، وأنَّ الإيمان بالفرج وبالأمل الموعود وبالبشارة الإلهية هو من الإيمان بالله تعالى ، وبالإيمان بصدق قول الله وصدق وعده ، فهذه سُنّة مهمّة يؤكّدها القرآن الكريم في غياب المصلحين الموعود بظهورهم ، والمبشّر بإصلاحهم للأرض وإنقاذهم البشرية ، أن يكون الإيمان بهم في امتداد الإيمان بقول الله ووعده ونصره ، فهذا إذن من ثوابت وأركان الإيمان بما كان يؤكّده القرآن الكريم .

واعلم عزيزي القارئ أنَّ هذه الآية الأخيرة في هذه السورة ليست مخصوصة بهذه السورة ، بل هي من الآيات المحكمات كقاعدة عامّة وكأصل عامّ قرآني في كلّ القرآن في قصص وسنن الله في أنبيائه : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ) ( يوسف : 111 ) ، لا ثرثرة ولا دعابة سمر ولا أساطير ، وإنَّما عبرة وعبر عقائدية في الأصول وليست عبر في الفروع ؛ لأنَّ الشرائع ينسخ بعضها البعض ، ولكن ليس ذلك في العقائد ، ومجمل ما ذكر من الإيمان بالمصلح وغيبته ثمّ ظهوره محطّات عقائدية ، ( لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ، هذه العقيدة عقيدة المصلح والبشارة الإلهية بإظهار الدين على الدين كلّه على أرجاء الكرة الأرضية كافّة ، هذه العقيدة التي بشَّركم بها القرآن الكريم اتَّعظوا بها ممَّا قد جرى من البشارة الإلهية للنبيّ يوسف ، لأنَّه غاب وظهر وحقَّق ذلك الأمل والبشارة الإلهية ، ففيها تفصيل : ( لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ ) ( يوسف : 7 ) ، وهذا التعبير أيضاً : ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( يوسف : 111 ) .

الظواهر القرآنية وسنن الله عز وجل في الغيبة :

هنا ظواهر قرآنية أخرى دالّة على ظاهرة غياب حجج الله ، وهي كما أكَّدنا سابقاً غياب ظهور لا غياب حضور ، وهم يظهرون بعد مضي أمد مقدَّر من الله عز وجل ، وستأتينا ظاهرة النبيّ عيسى عليه السلام ، ولكن قبل الاستمرار في ذلك نؤكّد أنَّ ما استعرضه القرآن من ظواهر عديدة ، ركَّز على جانب من جوانب الحجج الموعودين بالظهور وإنقاذ البشرية ، وإحدى الزوايا المهمّة التي تركّز عليها العدسة القرآنية هي ظاهرة غيبتهم وقيامهم بالأدوار في ظلّ الغيبة ، الأدوار الخطيرة العصيبة المهمّة في مصير البشرية ، رغم عدم معرفة البشرية بهويتهم ، وبعد ذلك يصل قدر الله المقدور حين أوان ظهورهم .

نعم هذه الظواهر التي يستعرضها القرآن دواليك لا يفتأ يركّز عليها ، ممَّا يدلّل على أنَّ الظاهرة المهدوية والغيبة غيبة المهدي في هذه الأمّة من السنن الإلهية المهمّة التي تحدث في هذه الأمّة على نسق ووتيرة ما حدث من هذه السُنّة الإلهية في الأمم السابقة ، فحينئذٍ ليس من المصادفة وليس من عدم الحسبان في التقدير الإلهي أن يكرّر ويركّز في السور القرآنية العديدة على هذه الظاهرة ظاهرة غيبة الحجج لاسيّما المبشّرين الموعودين بالظهور ، وأنَّهم في ظلّ هذه الغيبة يقومون بأدوار ثمّ يظهرون ، هذا التركيز من القرآن الكريم ليس مصادفة ، بل عبرة كما مرَّ بنا في قوله تعالى في آخر سورة يوسف عندما استعرض القرآن الكريم ظاهرة البشارة للنبيّ يوسف بأنَّه يظهره الله في الأرض ويمكّن له ليكون مصلحاً وقد غاب غيبة طويلة الأمد إلى أن ظهر .

فهو تقدير ضمن محاسبات إلهية مقدّرة محسوبة ، ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ ) ( النساء : 26 ) ، السنن السابقة يبيّنها الباري تعالى لأنَّها ستقع في هذه الأمّة ، ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا ) ، تلك السنن ، ( كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ( آل عمران : 137 ) ، فهذه وغيرها من الآيات العديدة الدالّة على أنَّ سنن الله تتكرَّر أيضاً ، هذه حقيقة من الحقائق القرآنية نعهدها في السور القرآنية ، مضافاً إلى ذلك ما مرَّ بنا في قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ) .

وهي عبرة أيضاً ووعد لنا على نفاذ هذا الأمر : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ ) قد ذكر ذلك القرآن الكريم الوعد الإلهي في ثلاثة سور في سورة الفتح ، وسورة التوبة ، وسورة الصفّ ، وهذه بشارة محتّمة من الله عز وجل لهذه الأمّة ، بأن يظهر الدين دين سيّد الأنبياء على أرجاء الكرة الأرضية كافّة ، وقد ورد في روايات متواترة عند الفريقين أنَّ ذلك على يد رجل يواطئ اسمه اسم النبيّ من ذرّية فاطمة وعلي وذرّية النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .

نعم ، هذا الوعد الإلهي محتم في القرآني الكريم ، وهذا أيضاً لسان رابع في الآية القرآنية ، وهو الذي مرَّ بنا أيضاً في بداية سورة القصص : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) ( القصص : 5 و 6 ) .

إذن هناك سُنّة إلهية دائمة تتكرَّر في الأمم هي : أنَّ المستضعفين الصالحين يستخلفهم الله ويجعلهم الوارثين ، هذا لسان رابع نجده في القرآن الكريم يدلّل على الظاهرة المهدوية ، وأيضاً من الآيات الأخرى التي نشاهدها لسان خامس ، وهو : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ ) ، وهو بيان للسنن الإلهية الدائمة في الإصلاح في الأرض ، وأنَّ هناك مصلحين منقذين للبشرية من الظلم والفساد ، في سورة ( الأنبياء : 105 ) : ( وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ ) ، وهذه كتابة ثانية دائمة حتمية ، كالتعبير الذي مرَّ في اللسان الرابع ، إرادة إلهية وكتابة لا معدل لها ولا محوَ لها ، أوَليست هي كتابة الله ، وقد فسّر ذلك المفسّرون أنَّ الزبور ليس المراد منه زبور داود ، بل زبر الأنبياء أجمع ، وهذه الآية سنقف عندها ملياً بتوفيق من الله تعالى للتدليل على أنَّ المهدي مبشّر في لسان جميع الأنبياء ، كما أنَّ المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بشّر به لإفشاء العدل والقسط في الكرة الأرضية ، وقرن اسمه باسمه في البشارة به ، ( إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ ) ( الأنبياء : 106 ) .

وبيان سادس في القرآن الكريم متكرّر أيضاً بكثرة بأنَّ العاقبة للمتّقين ، وليس المراد منها فقط العاقبة الأخروية ، بل المراد منها العاقبة في الدنيا أيضاً ، فقد جاء في سورة الأعراف : ( إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، ونفس وراثة الأرض والتمكين فيها لإقامة الإصلاح والعدل والقسط فيها سُنّة إلهية ، كذلك في سورة الأعراف : ( وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) ( الأعراف : 86 ) ، أي إنَّ المفسدين والمجرمين والظالمين مقطوع دابرهم بظهور المصلح المنقذ المنجي ، هذه سنن إلهية .

كذلك في سورة ( يونس : 39 ) ، وسورة ( القصص : 40 ) : ( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) .

قد كتب الله أنَّ الظلم والفساد لا يدوم ، بأمد ظهور المصلح المنجي ، ( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ) ( يونس : 73 ) ، والملفت أنَّ في هذه السنن الإلهية تبيانَ نكتة مهمّة جدَّاً فيها ، وهي أنَّ النهاية هي الصلاح والإصلاح في الأرض ، وحتمية الصلاح والقسط وتفشّي العدل ، وأنَّ من السنن الإلهية أنَّ المراحل المتوسّطة من عهود وأزمنة الأمم دوماً يكون المتغلّب فيها كفّة الظالمين والمفسدين ، ولكن العقبى تكون للمصلح المنجي ، وهذه سُنّة فيها بصائر قرآنية جمّة ، على أنَّ العهود الوسطى المتخلّلة تكون فترات الظلم والفساد وغلبة الظالمين والمفسدين ، إلَّا أنَّ العاقبة تكون بظهور المصلح المنجي ، إذن هذه سُنّة دائمة إلهية ، بدء الأمم بأنبيائها وهدايتها بالرسل ، وتتلوها الفترات المتوسّطة والطويلة الأمد بيد الظالمين المفسدين ومكابدة المستضعفين الصالحين ، ولكن العقبى بظهور المصلح المنقذ المنجي ، إذن هذه سُنّة إلهية دائمة موجودة ، فتأكيد القرآن الكريم على عدم الاغترار بالمرحلة المتوسّطة الآنية الحاضرة ، بل لا بدَّ من الاعتقاد بالعاقبة والمآل لظهور الحقّ ، وعاقبة المتّقين بظهور المصلح المنجي .

وهذه آيات عديدة من نفس هذه الحقيقة السادسة التي كرَّرها القرآن الكريم في سورة ( آل عمران : 137 ) ، وأيضاً في سورة ( النحل : 36 ) : ( فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) . ولا استمرار ولا دوام للمكذّب بالحقائق الإلهية وبالغيب الإلهي وبالوعد الإلهي بظهور الصلاح والإصلاح ، وإن طالت مدّته ، فإنَّ الله يمهل ولا يهمل ، ( وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى ) ( طه : 132 ) ، ( وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، وكذلك : ( رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ ) ( القصص : 37 ) .

 

[1]  في الرواية عن الحارث بن نوفل ، قال : قال علي عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يا رسول الله أمنّا الهداة أم من غيرنا ؟ ) ، قال : ( بل منّا الهداة إلى الله إلى يوم القيامة ، بنا استنقذهم الله عز وجل من ضلالة الشرك ، وبنا يستنقذهم من ضلالة الفتنة ، وبنا يُصبحون إخواناً بعد ضلالة الفتنة كما بنا أصبحوا إخواناً بعد ضلالة الشرك ، وبنا يختم الله كما بنا فتح الله ) . ( كمال الدين : 230 / باب 22 / ح 31 ) .

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام ، قال : ( نحن جنب الله ، ونحن حبل الله ، ونحن من رحمة الله على خلقه ، ونحن الذين بنا يفتح الله وبنا يختم الله ، نحن أئمّة الهدى ومصابيح الدجى ، ونحن الهدى ، ونحن العلم المرفوع لأهل الدنيا ، ونحن السابقون ، ونحن الآخرون ، من تمسَّك بنا لحق ومن تخلَّف عنّا غرق . . . ) . ( مناقب آل أبي طالب 336 : 3 ) .

[2] كما في رواية أبي الجارود ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : ( تأويل هذه الرؤيا أنَّه سيملك مصر ويدخل عليه أبواه وإخوته ، أمَّا الشمس فامّ يوسف راحيل ، والقمر يعقوب ، وأمَّا أحد عشر كوكباً فإخوته ، فلمَّا دخلوا عليه سجدوا شكراً لله وحده حين نظروا إليه وكان ذلك السجود لله ) . قال علي بن إبراهيم : فحدَّثني أبي ، عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام : ( إنَّه كان من خبر يوسف عليه السلام أنَّه كان له أحد عشر أخاً ، فكان له من امّه أخ واحد يسمّى : بنيامين ، وكان يعقوب إسرائيل الله . . . ، فرأى يوسف هذه الرؤيا وله تسع سنين فقصَّها على أبيه . . . ) . ( تفسير القمي 339 : 1 ) .

[3] وهو قوله تعالى : وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( يوسف : 100 و 101 ) .

[4] حدثت تلك الفاجعة بتاريخ ( 23 / محرَّم الحرام / 1427 ه - ) .

[5] روى الراوندي في ( الخرائج والجرائح 942 : 2 و 943 ) : أنَّ صاحب الأمر عليه السلام بعد وفاة أبيه عليه السلام ودفنه ، خرج جعفر الكذّاب إلى بني العبّاس وأنهى خبره إليهم ، فبعثوا عسكراً إلى سُرَّ من رأى ليهجموا داره ويقتلوا من يجدونه فيها ، ويأتوه برأسه ، فلمَّا دخلوها وجدوه عليه السلام في آخر السرداب قائماً يصلّي على حصير على الماء ، وقدامهم أيضاً كأنَّه بحر لكثرة الماء في السرداب ، فلمَّا رأوا ذلك يئسوا من الوصول إليه ، وانصرفوا مدهوشين إلى الخليفة ، فأمرهم بكتمان ذلك . ثمّ بعث بعد ذلك عسكراً أكثر من الأوّل ، فلمَّا دخلوا الدار سمعوا من السرداب قراءة القرآن ، فاجتمعوا على بابه حتَّى لا يصعد ، فخرج من حيث الآن عليه شبكة ، وخرج وأميرهم قائم . فلمَّا غاب قال : أنزلوا وخذوه . فقالوا : إنَّه مرَّ عليك وما أمرت بأخذه . فقال : ما رأيته . فانصرفوا خائبين . وخرج إليه العسكر مرَّة أخرى ، فوجدوه في آخر السرداب ، فوضع يده عليه السلام على الجدار وشقّه ، وخرج منه ، وأثر الشقّ بعد ظاهر فيه .

[6]  أنظر : تفسير مجمع البيان 360 : 5 و 460 .

[7] أنظر : تفسير التبيان 199 : 6 .

[8] قال الذهبي في ( تاريخ الإسلام 113 : 19 ) في ترجمة الإمام الحسن العسكري عليه السلام ما نصّه : ( الحسن بن علي بن محمّد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق . أبو محمّد الهاشمي الحسيني أحد أئمّة الشيعة الذين تدعي الشيعة عصمتهم . ويقال له : الحسن العسكري لكونه سكن سامراء ، فإنَّها يقال لها : العسكر . وهو والد منتظر الرافضة . توفّي إلى رضوان الله بسامراء في ثامن ربيع الأوّل سنة ستّين ، وله تسع وعشرون سنة . ودفن إلى جانب والده . وامُّه أمَة . وأمَّا ابنه محمّد بن الحسن الذي يدّعوه الرافضة : القائم الخلف الحجّة ، فولد سنة ثمان وخمسين ، وقيل : سنة ستّ وخمسين . عاش بعد أبيه سنتين ثمّ عُدم ، ولم يعلم كيف مات . وامّه امّ ولد . وهم يدَّعون بقاءه في السرداب من أربعمائة وخمسين سنة ، وأنَّه صاحب الزمان ، وأنَّه حيّ يعلم علم الأوّلين والآخرين . . . ) .

[9]  قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام : ( أنت - أو إنَّك ، أو أمَا ترضى أن تكون - منّي بمنزلة هارون من موسى ، إلَّا أنَّه لا نبيّ بعدي ) . رواه جمهور المحدّثين من الفريقين ، أنظر : ( كمال الدين : 278 / باب 24 / ح 25 ؛ أمالي الصدوق : 238 / المجلس 32 / ح ( 252 / 8 ) ؛ أمالي الطوسي : 156 / المجلس 26 / ح ( 150 / 1 ) ؛ مسند أحمد 184 : 1 ، و 32 : 3 ؛ صحيح مسلم 120 : 7 ؛ سنن الترمذي 304 : 5 / ح 3814 ) .

[10]  منهم : العلّامة الشيخ شمس الدين محمّد بن طولون الدمشقي الحنفي في ( الشذرات الذهبية في تراجم الأئمّة الإثنى عشرية / ص 117 / ط بيروت ) ، قال : ( ثاني عشرهم ابنه - أي العسكري عليه السلام - محمّد بن الحسن وهو أبو القاسم محمّد بن الحسن بن علي الهادي إلى آخر الأئمّة الاثني عشرية ، وكانت ولادته رضي الله عنه يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، ولمَّا توفّي أبوه المتقدّم ذكره رضي الله عنهما كان عمره خمس سنين ) . ومنهم : العلّامة كمال الدين محمّد بن طلحة الشامي الشافعي في ( مطالب السؤول / ص 89 / ط طهران ) ، قال : ( الباب الثاني عشر في أبي القاسم محمّد بن الحسن الخالص بن علي المتوكّل بن محمّد القانع بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى بن أبي طالب المهدي الحجّة الخلف الصالح المنتظر عليهم السلام ورحمة الله وبركاته . . . ، إلى أن قال : فأمَّا مولده فبسُرَّ من رأى في ثالث وعشرين شهر رمضان سنة ثمان وخمسين ومائتين للهجرة ، وأمَّا نسبه أباً وامّاً فأبوه محمّد الحسن الخالص بن علي المتوكّل بن محمّد القانع ابن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين . وامّه امّ ولد تسمّى : صقيل ، وقيل : حكيمة ، وقيل غير ذلك . وأمَّا اسمه محمّد وكنيته أبو القاسم ، ولقبه الحجّة والخلف الصالح ، وقيل : المنتظر ) . ومنهم : العلّامة ابن خلكان في ( وفيات الأعيان / ج 1 / ص 571 / ط بولاق بمصر ) ، قال : ( في ذكر محمّد بن الحسن المهدي : وكانت ولادته يوم الجمعة منتصف شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين ، وذكر ابن الأزرق في ( تاريخ ميافارقين ) أنَّ الحجّة المذكور ولد تاسع عشر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين ومأتين ، وقيل : في ثامن شعبان سنة ستّ وخمسين ، وهو الأصحّ ) .

ومنهم : العلّامة سبط ابن الجوزي في ( تذكرة الخواص / ص 204 / ط طهران ) ، قال : ( محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكنيته أبو عبد الله وأبو القاسم ، وهو الخلف الحجّة صاحب الزمان القائم والمنتظر والتالي ، وهو آخر الأئمّة . وقال : ويقال له : ذو الاسمين محمّد وأبو القاسم ، قالوا : امّه امّ ولد يقال لها : صقيل ) . ومنهم : العلّامة ابن الصباغ المصري في ( الفصول المهمّة / ص 274 / ط الغري ) ، قال : ( ولد أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بسُرَّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين للهجرة . وأمَّا نسبه أباً وامّاً فهو أبو القاسم محمّد الحجّة بن الحسن الخالص بن علي الهادي بن محمّد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين . وأمَّا امّه فامّ ولد يقال لها : نرجس خير أمَة ، وقيل اسمها غير ذلك . وأمَّا كنيته فأبو القاسم . وأمَّا لقبه فالحجّة والمهدي والخلف الصالح والقائم والمنتظر وصاحب الزمان وأشهرها المهدي ) .

ومنهم : العلّامة ابن حجر الهيتمي في ( الصواعق / ص 124 / ط مصر ) ، قال : ( ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمّد الحجّة ، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين لكن آتاه الله فيها الحكمة ، ويسمّى : القاسم المنتظر ، قيل : لأنَّه ستر بالمدينة وغاب ، فلم يعرف أين ذهب ) . ومنهم : العلّامة الشيخ عبد الله بن محمّد بن عامر الشبراوي الشافعي المصري في كتابه ( الاتحاف بحبّ الأشراف / ص 68 / ط مصر ) ، قال : ( ولد الإمام محمّد الحجّة ابن الإمام الحسن الخالص رضي الله عنه بسُرَّ من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين ومائتين قبل موت أبيه بخمس سنين ، وكان أبوه قد أخفاه حين ولد وستر أمره لصعوبة الوقت وخوفه من الخلفاء ، فإنَّهم كانوا في ذلك الوقت يتطلَّبون الهاشميين ويقصدونهم بالحبس والقتل ويريدون إعدامهم . وكان الإمام محمّد الحجّة يلقَّب أيضاً بالمهدي والقائم والمنتظر والخلف الصالح وصاحب الزمان وأشهرها المهدي ) .

وغيرهم من أعلام العامّة ممَّن يضيق المقام هنا بذكرهم جميعاً ، ولمن أراد المزيد فليراجع : شرح إحقاق الحقّ 87 : 13 - 97 .

[11] الغيبة للنعماني : 167 / ح 4 .

[12] للإمام عليه السلام غيبتان : صغرى ، وكبرى ، كما جاءت بذلك الأخبار عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، أمَّا الغيبة الصغرى فمن ابتداء إمامته إلى انقطاع السفارة بينه وبين شيعته بوفاة السفراء الأربعة رضي الله عنهم وعدم نصب غيرهم ، ففي هذه الفترة كان السفراء يرونه وربَّما رآه غيرهم ويصلون إلى خدمته وتخرج على أيديهم توقيعات منه إلى شيعته في أمور شتّى . وقد رويت في معنى ذلك روايات تضمَّنتها مصادرنا ، كما أفردوا لذلك أبواباً ، كما في : ( الكافي 329 : 1 / باب في تسمية من رآه / ح 1 - 15 ؛ وكمال الدين : 434 / باب 43 : ذكر من شاهد القائم عليه السلام ورآه وكلَّمه / ح 1 - 26 ) .

وأمَّا الغيبة الكبرى فهي بعد الأولى إلى أن يقوم بإذن الله تعالى . وقد تشرَّف برؤيته لفيف من علمائنا الأبرار ، أو من الصلحاء الثقات الذين بلغوا من الزهد والتقوى والسداد محلًا لا يحتمل فيهم عادةً تعمّد الكذب والخطأ ، وقد الّفت في ذلك كتب أشهرها كتاب ( جنّة المأوى في ذكر من فاز بلقاء الحجّة عليه السلام ) للعلّامة الميرزا حسين النوري الطبرسي قدس سره .

[13] لمَّا دنا أجل السفير الرابع الشيخ علي بن محمّد السمري قدس سره ، قيل له : إلى من توصي ؟ فأخرج لهم توقيعاً نسخته : ( بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي بن محمّد السمري ، أعظم الله أجر إخوانك فيك ، فإنَّك ميّت ما بينك وبين ستّة أيّام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد يقوم مقامك بعد وفاتك ، فقد وقعت الغيبة الثانية فلا ظهور إلَّا بعد إذن الله عز وجل ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب ، وامتلاء الأرض جوراً ، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة ، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر ، ولا حول ولا قوّة إلَّا بالله العلي العظيم ) . ( كمال الدين : 516 ؛ الاحتجاج 297 : 2 ) .

[14] روى سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول : ( ما لكم تسوؤن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ! ) ، فقال له رجل : كيف نسوؤه ؟ فقال : ( أمَا تعلمون أنَّ أعمالكم تُعرض عليه ، فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك ، فلا تسوؤا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسرّوه ) . ( الكافي 219 : 1 / باب عرض الأعمال على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام / ح 3 ) .

وعن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه : ( حياتي خير لكم تحدّثون ونحدّث لكم ، ومماتي خير لكم تعرض عليَّ أعمالكم فإن رأيت حسناً جميلًا حمدت الله على ذلك ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم ) . ( بصائر الدرجات : 464 / باب 13 / ح 4 ) .

[15]  الغيبة للطوسي : 459 / ح 471 .

[16]  كمال الدين : 644 / باب 55 / ح 3 .

[17] بحار الأنوار 278 : 44 .

[18] راجع ما ورد من حديث الإمام الصادق عليه السلام للمفضَّل بن عمر ، بطوله في : مختصر بصائر الدرجات : 179 - 183 ؛ بحار الأنوار 14 : 53 .

[19] من ذلك ما ورد في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ( إذا تمنّى أحدكم القائم فليتمنّه في عافية ، فإنَّ الله بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمة ، ويبعث القائم نقمة ) . ( الكافي 233 : 8 / ح 306 ) .

EN