الوضع الليلي
انماط الصفحة الرئيسية

النمط الأول

النمط الثاني

0

تنويه

تمت اضافة الميزات التالية

1

الوضع الليلي جربه الآن

2

انماط الصفحة الرئيسية

النمط الاول

النمط الثاني

يمكنك تغيير الاعدادات مستقبلاً من خلال الايقونة على يسار الشاشة

1
المرجع الالكتروني للمعلوماتية

النبي الأعظم محمد بن عبد الله

أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)

آبائه

زوجاته واولاده

الولادة والنشأة

حاله قبل البعثة

حاله بعد البعثة

حاله بعد الهجرة

شهادة النبي وآخر الأيام

التراث النبوي الشريف

معجزاته

قضايا عامة

الإمام علي بن أبي طالب

الولادة والنشأة

مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)

حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله

حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)

حياته في عهد الخلفاء الثلاثة

بيعته و ماجرى في حكمه

أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته

شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة

التراث العلوي الشريف

قضايا عامة

السيدة فاطمة الزهراء

الولادة والنشأة

مناقبها

شهادتها والأيام الأخيرة

التراث الفاطمي الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي المجتبى

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)

التراث الحسني الشريف

صلح الامام الحسن (عليه السّلام)

أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته

شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة

قضايا عامة

الإمام الحسين بن علي الشهيد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)

الأحداث ما قبل عاشوراء

استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء

الأحداث ما بعد عاشوراء

التراث الحسينيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن الحسين السجّاد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)

شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)

التراث السجّاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الباقر

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)

شهادة الامام الباقر (عليه السلام)

التراث الباقريّ الشريف

قضايا عامة

الإمام جعفر بن محمد الصادق

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)

شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)

التراث الصادقيّ الشريف

قضايا عامة

الإمام موسى بن جعفر الكاظم

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)

شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)

التراث الكاظميّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن موسى الرّضا

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)

موقفه السياسي وولاية العهد

شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة

التراث الرضوي الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن علي الجواد

الولادة والنشأة

مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)

التراث الجواديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام علي بن محمد الهادي

الولادة والنشأة

مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)

التراث الهاديّ الشريف

قضايا عامة

الإمام الحسن بن علي العسكري

الولادة والنشأة

مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)

التراث العسكري الشريف

قضايا عامة

الإمام محمد بن الحسن المهدي

الولادة والنشأة

خصائصه ومناقبه

الغيبة الصغرى

السفراء الاربعة

الغيبة الكبرى

علامات الظهور

تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى

مشاهدة الإمام المهدي (ع)

الدولة المهدوية

قضايا عامة

وجه الشبه بين النبي موسى "ع" والإمام المهدي "عج"

المؤلف :   الشيخ محمد السند

المصدر :   الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية

الجزء والصفحة :   ص17-58

2025-05-20

46

اهتمَّ القرآن الكريم باستعراض عدّة من الحُجج والمصلحين الإلهيين المنصوبين من قبله تعالى ، وقد تضمَّنت حالاتهم وخصائصهم ما تتضمَّن خصائص وحالات الإمام المهدي عليه السلام نظير ما استعرضه لنا القرآن الكريم في النبيّ موسى عليه السلام ، والنبيّ عيسى عليه السلام ، والنبيّ يوسف عليه السلام ، وكذلك صفي الله الخضر ، وغير ذلك من نماذج .

إنَّ هذا الاستعراض من القرآن الكريم لخصائص حجج الله المنصوبين والمبعوثين لنجاة البشرية ، وللإصلاح البشري وإصلاح الفساد في الأرض له مغزىً وحكمة إلهية باهرة وبارعة ، ليدلّ المسلم والمؤمن المعتقد بالقرآن الكريم إلى أنَّ شؤون الحجّة الإلهية تمرُّ بمثل هذه الحالات ، وتمرُّ بمثل هذه الأدوار . وهو من باب ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ) ( يوسف : 111 ) ، كما في ذيل سورة النبيّ يوسف .

إنَّ قصص الأنبياء والأوصياء والحجج الذين استعرضهم القرآن الكريم ليس لأجل الإثراء في الخيال ، ودعابة الحسّ للذاكرة وما شابه ذلك ، بل هو عبرة ، فإن كان الأمر الذي استُعرض أمراً عقدياً اعتقادياً ، فهو عبرة للمسلمين وللمؤمنين في أبعاد عقيدتهم ومسائلهم العقائدية ، وإن كان في بُعد الآداب والأخلاق في السنن فهو أيضاً عبرة ، لاسيّما وإنَّ العقائد في بعثات الأنبياء لا تنسخ ، والذي ينسخ هو فروع المسائل وفروع تفاصيل الشريعة ، وأمَّا العقائد والمعارف فهي على نسق واحد ، وما يرتبط بالحجج والأنبياء فهو أمر واحد ومتَّفق عليه ، لأنَّ ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ) ( آل عمران : 19 ) ، بُعث عليه آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، نعم تنسخ شريعة النبيّ بشريعة نبيّ آخر ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً ) ( المائدة : 48 ) ، وأمَّا الدين فهو في دائرة العقائد والمعارف وأركان الفروع فتلك ثوابت مستمرّة .

فبهذه المقدّمة وهي التي تختصّ بالقرآن الكريم ، فهي تشكّل حقائق يعتبر بها حينئذٍ المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم ، وما نشاهده من شجون في هؤلاء الحجج يكوّن داعياً واضحاً من الله عز وجل لأبناء هذه الأمّة ، ليتخطّوا هذه الشاكلة والسُنّة الإلهية في الحجج .

أوجه الشبه بين الإمام المهدي والنبيّ موسى عليهما السلام :

هناك عدّة سور قرآنية تناولت حياة النبيّ موسى عليه السلام بدءاً من ولادته ، وحتَّى قبل ولادته وخفاء ولادته ، ثمّ ترعرعه ونشأته في الخفاء ، ثمّ غيبته عن بني إسرائيل ، وفي الحقيقة فإنَّه غاب عن بني إسرائيل منذ ولادته ، وكان قومه يتطلَّعون إليه كمنج ومغيث لهم من الفراعنة حيث إنَّهم قاموا باستعباد بني إسرائيل . فقد كانوا يقتلون أبناءهم ويستحيون نساءهم ، كما في قوله تعالى : ( وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ) ( الأعراف : 141 ) ، فتطلّع بني إسرائيل وانتظارهم للنبيّ موسى كنبيّ وكإمام مُنج ومصلح لهذا الفساد والظلم والضيم الذي يعيشون فيه هو محلّ عِظة وعبرة يسطّرها لنا القرآن الكريم ، وهو أنَّ في أدوار تفشّي الظلم والفساد تأتي سُنّة الله عز وجل ، وهي بعثُ المصلح وربَّما تغيب وتخفى ولادة المنجي والمصلح الذي هو حجّة من الله ، بل حتَّى ما بعد الولادة يمكن أن تخفى حاله ، كما جرى في النبيّ موسى وغيبته ، ثمّ مجيئه بعد الغيبة ، وإنجائه لبني إسرائيل وما رافق ذلك ، فهنالك في الواقع عدّة محاور يمكن استعراضها بشكل تفصيلي ، وإنَّما ذكرت ذلك إجمالًا الآن في حياة النبيّ موسى ، لأنَّها مشابهة جدَّاً لما مرَّ به الإمام المهدي عليه السلام ، وهو الثاني عشر من الخلفاء الذين وعد بهم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، أنَّهم ( كلّهم من قريش )[1]، أو ( من بني هاشم )[2]، كما روى ذلك جمهور المحدّثين ، ولا يخفى على القارئ الكريم أنَّ هناك آيات عديدة تناولت موضوع إمامة أهل البيت ، ولكن نحن في صدد بحث الخصائص الخاصّة بحالات وشؤون العقيدة بالإمام المهدي عليه السلام .

علّة اختفاء النبيّ موسى عليه السلام عن قومه :

عند قراءة سورة القصص ، وهي إحدى السور التي تستعرض حياة النبيّ موسى بدءاً وانتهاءاً ، يقول تعالى : ( بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * طسم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ * نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ( القصص : 3 1 ) ، نجد أنَّ الله عز وجل قد قصَّ قصّة حُجّةٍ من حُججه ، وليس هو نبيّ ومرسل من آحاد أو أوساط المرسلين ، بل هو نبيّ من أولي العزم ، فما يتلوه القرآن وينبئنا به من حديث النبيّ موسى وفرعون هو إنباء بالحقّ وليس إنباءاً بالكذب والباطل ، فكلّ ما يستعرضه لنا القرآن الكريم هو حقّ ( لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ، وهذه التلاوة والإنباء من الله عز وجل عن ظاهرة النبيّ موسى وفرعون هي ظاهرة يتلوها وينبؤها القرآن الكريم لقوم يؤمنون بوجود مثل هذه السنن الإلهية في حججه ، ويؤمنون بهذه السنن الإلهية في الحُجج المنصوبين لنجاة البشرية ولإصلاح الوضع البشري . إنَّ فرعون هو الظاهرة الأولية التي استدعت بعثة النبيّ موسى كمنج ومصلح ، ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص : 4 ) .

وفي الحديث : ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلاءاً يصيب هذه الأمّة ، حتَّى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم ، ( فيبعث الله رجلًا من عترتي من أهل بيتي فيملأ الأرض قسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً )[3].

أنظر وقع السنن الإلهية ، هي نفس السنن ، الظهور بالعدل والقسط بعد ما تمتلئ الأرض ظلماً وجوراً ، هنا القرآن الكريم أيضاً يذكر لك قاطرة هذه السنن يتلو بعضها بعضاً ، هذه الحلقة الأولى ، فالظلم والفساد تفشّى في الأرض في حقبة الفراعنة ، وفي حقبة فرعون أو فرعون الفراعنة ، حينئذٍ تأتي السنن الإلهية ، وذلك عندما يتفشّى الفساد وينتشر الظلم . ولنا وقفة مليّة عند هذه السنن الإلهية إن شاء الله تعالى باستعراض أبعادٍ عديدة ، ولكن إلى أن نصل إلى خفاء ولادة النبيّ موسى ، ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) ، فهل هذه الإرادة الإلهية هي إرادة جزئية خاصّة استثنائية ببني إسرائيل أو ما واكب تلك الحقبة ، أو أنَّها في الحقيقة سُنّة إلهية دائمة ؟

هذه في الواقع محطّة يجب على المؤمن والمسلم عند قراءته القرآن الكريم أن يتمعَّن فيها ، إذ هي في الواقع إرادة مستمرّة وسُنّة دائمة ، ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ( فاطر : 43 ) ، سنن الله عز وجل هي سنن واحدة ، على إرادة واحدة ، على شاكلة واحدة ، فلذلك جاءت الإرادة الإلهية في جعل المستضعفين أئمّة وهذه سُنّة دائمة ، وسنخوض فيها مليّاً ونُشبعها لأجل تبيان هذه المشاكلة في الظاهرة القرآنية مع الإمام المهدي عليه السلام ، في الدعاء : ( حَتَّى تُسْكِنَهُ أرْضَكَ طَوْعاً وَتُمَتّعَهُ أو في بعض ألفاظ الدعاء : وتمكّنه فِيهَا طَويلًا )[4]، ( وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ ) يعني النهج الفرعوني نهج الظلم نهج الاستعباد نهج الاستعمار ، ( وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ ) ( القصص : 6 ) ، وهنا تبدأ البيئة التي بُعث فيها النبيّ موسى لأجل الإنجاء والإصلاح ، وهي بيئة تفشّى الظلم والفساد فيها ، وبالمقابل تأتي السُنّة الإلهية ، لكي تكون العاقبة للإصلاح .

نعم ، ظاهرة خفاء ولادة النبيّ موسى عليه السلام الذي كان يترقَّبه بنو إسرائيل كمنج ومصلح لهم ، وإن كنّا لم نستوف تمام الكلام عن سُنّة الله في الإصلاح بعد تفشّي الفساد والظلم كما تشير إليه الآية السابقة ، ففي كلّ زمان ومكان بعد تفشّي الفساد والظلم فيه ، هناك إرادة وسُنّة إلهية في جعل المستضعفين أو من المستضعفين أئمّة وارثين متمكّنين في إدارة وتدبير الأرض .

لكن في البدء المستهل في خفاء ولادة النبيّ موسى عليه السلام أنظر كيف يستعرضها لنا القرآن الكريم ، وما هي أسباب خفاء ولادة هذا المنجي ، كأنَّ تلك السُنّة أو تلك السنن تتكرَّر وتعاود الوقوع الفينة بعد الأخرى ، وهذا هو مغزى استعراض القرآن الكريم لذلك . فالنبيّ موسى رغم أنَّه هو المنجي الموعود لبني إسرائيل في تلك الحقبة ، وهو المصلح لهم ، وهو المنقذ لهم من استعباد الفراعنة وإفسادهم في الأرض ، جعل الله ولادة هذا المنجي وهذا المصلح في خفاء وغيبة وسرّية ، ليس فقط عن فرعون والفراعنة والجهاز الحاكم على البلاد الباطش في العبيد والبشر ، بل في خفاء حتَّى عن مريدي النبيّ موسى والمؤمنين به والمتوقّعين لظهوره وإنجائه وإصلاحه ، فجعل ولادته في خفاء ، ورغم هذا الخفاء لم يخل ذلك باعتقاد المؤمنين من بني إسرائيل في كون النبيّ موسى هو حجّة من قِبَل الله تعالى موعود منصوب لنجاتهم وإنقاذهم من براثن الفساد والظلم الفرعوني .

إذن هذه أوّل أدبيّة قرآنية ، أو حقيقة قرآنية يستعرضها لنا القرآن الكريم ، وهي أنَّ خفاء ولادة الحُجج لا يتصادم ولا يتقاطع مع الاعتقاد بحجّيتهم ، وبحجّية ذلك المنجي المتوقَّع ظهوره أبداً .

الخفاء أدلّ على الحجّية :

بل هذا الخفاء أدلُّ برهانٍ على حجّية الموعود للإنجاء ، لماذا ؟

لأنَّ الحجّة بطبيعته سيصطدم مع قوى الظلم ومع سطوة وسلطات المفسدين في الأرض ، ومن الواضح أنَّهم سوف يقعون في معترك وتصادم معه ، ومن الطبيعي أنَّهم سيضعون برنامجاً لتصفية ذلك المصلح . وعليه فمن الطبيعي أن يكون في برنامج العناية الإلهية ومخطَّط القدرة الربّانية إخفاؤه بدءاً من الولادة ، أنظر ماذا يقول لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، حيث يكشف لنا من خلال هذه الآية عن جوّ مليئ بالإرهاب والخوف ، وأنَّ المصلح ومنذ بدوّ تولّده ولأنَّه موعود بإصلاح قومه ونجاتهم من براثن الفساد والظلم ، ومن ثَمَّ فإنَّ قوى الظلم وقوى البطش تريد أن تحيق به عن طريق الإعدام والإبادة من بدء الولادة ، ومن ثَمَّ تكون هناك عناية إلهية في خفاء الولادة .

فإخفاء الولادة ليس أمراً أسطورياً في الحجج ، بل هو حقيقة يستعرضها لنا القرآن الكريم ، وهي أنَّه قد يكون نبيّ مرسل من أولي العزم موعوداً بكونه هو المنجي وهو المصلح وهو المنقذ لبني إسرائيل من براثن الظلم والفساد في الأرض ، ومع ذلك تُخفى ولادته ، لماذا ؟

لأنَّ ذلك أمر طبيعي يتعقّله العقل الإنساني في أنَّ بشائر ذلك المصلح الموعود المنجي الذي تنتظره قلوب المؤمنين في تلك الحقبة ، سوف تُعبّأ ضدّه إرادة الظلمة والأنظمة .

العنف والاضطهاد ضدّ الإمامين العسكريين عليهما السلام :

أنظر إلى حياة الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام ، حيث استُدعيا من المدينة المنوَّرة مدينة جدّهما من قِبَل أكبر دولة عظمى آنذاك في الكرة الأرضية وفي البشرية وهي الدولة العبّاسية ، وجُعلا سجينين عسكريين ، إذ كانت سامراء والتي تسمّى ب - ( سُرَّ من رأى ) أكبر قاعدة عسكرية ربَّما في الكرة الأرضية لدولة عظمى لما يقارب من ثلاثين أو أربعين دولة في الوضع الراهن من ناحية المساحة ، إذن هي دولة بهذا الاتّساع وبهذه القوّة وبهذا البطش وهذه السطوة ، والقاعدة العسكرية لهذه الدولة كانت سُرَّ من رأى ، ولمَّا يُسجن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام في مدينة عسكرية ذات أهمّية كهذه يتَّضح جلياً أنَّ النظام العبّاسي كان عنده تعبئة واستنفار وخوف خاصّ واصلٌ إلى درجة تعبوية قصوى يجعل من ذلك الطرف ليس سجيناً مدنياً وليس سجيناً سياسياً فحسب ، بل يجعله سجيناً عسكرياً ، وهذا خوف مسلَّم به من ذلك الشخص ، والمحاكمة التي يحاكم بها محاكمة عسكرية وليست محاكمة سياسية ولا محاكمة مدنية ، لأنَّها لا تخضع لقوانين ولا لأصول ، ما السبب في ذلك ؟ وهذا أوّل دليل وأكبر شاهد تاريخي في سيرة المسلمين عرفه المسلمون عن تخوّف السلطة العبّاسية من ولادة المهدي عليه السلام . وهو أنَّ الإمام علي الهادي والإمام الحسن العسكري سُجنا في أكبر معسكر على وجه الأرض في ذلك الوقت ، وجُعلا سجينين عسكريين تحت رقابة الحكم العسكري ، وإنَّ هذا الاستنفار التعبوي في درجته القصوى يشبه إلى حدّ التطابق تلك التعبئة التي اتّخذها فرعون تجاه المصلح وهو النبيّ موسى عليه السلام ، هنا تشاكلت السنن بين حجج الله .

إذن خفاء ولادة الإمام المهدي عليه السلام وما أنِسَه وعرفه المسلمون والمؤمنون من أمرها في ظلّ تلك الظروف التي استدعي فيها الإمام الهادي وهو الإمام العاشر من أئمّة أهل البيت عليهم السلام ، وما كان ذلك إلَّا لِتَحسُّب الدولة العبّاسية آنذاك من ظهور هذا المصلح الموعود الذي روى الفريقان فيه ما يقرب من اثني عشر ألف حديث ، كما رصدته إحدى المؤسسات التحقيقية العلمية في الحوزة العلمية عندنا[5].

إذن الحديث متواتر في ذهنية المسلمين ، في أنَّ هناك مظهراً مصلحاً منجياً منقذاً للبشرية عموماً ، وهذا محور آخر عسى أن نوفَّق لنستعرض الوعود القرآنية الدالّة على ظهور الإمام المهدي عليه السلام وأنَّه هو الذي يُظهر الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة .

الوحي الإلهي لُامّ موسى عليه السلام :

هنا الآية الكريمة تقول : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى . . . ) وهذا مقطع لطيف ، فما معنى هذا الوحي ؟ فامّ موسى ليست بنبيّ وليست برسول ، هذه ظاهرة قرآنية واضحة ، وهو أنَّ هناك من الأوصياء ومن الحجج الإلهيين غير الأنبياء وغير الرسل يوحى إليهم ، هذه الظاهرة القرآنية لا تفسّرها غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فإنَّ امّ موسى أوحي إليها ( أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( القصص : 7 ) ، هذا ليس وحياً كما يقال تكوينياً أو غريزة تكوينية ، كلَّا ، وإنَّما أمر ( أَنْ أَرْضِعِيهِ ) ، والأمر يعني وحياً إنشائياً ، لكن ليس وحي نبوّة ، وليس وحي شريعة ، وإنَّما هو وحي إنشائي في الحجج الإلهية ، وسنستعرض فيما يأتي بقيّة تفاصيل خفاء ولادة الإمام المهدي عليه السلام ، وبقيّة تفاصيل ولادة النبيّ موسى المشاكلة والمشابهة لخفاء ولادة الإمام المهدي عليه السلام وأنَّها عِظة وعِبرة قرآنية كبرى سطّرها القرآن الكريم للمسلمين وللبشرية إلى يوم القيامة عند تلاوتهم لسورة القصص والسور القرآنية الأخرى .

سرّ استعراض القرآن الكريم عبراً اعتقادية ذات مغزى عظيم :

إنَّ ما يستعرضه القرآن الكريم لنا من قصص الأنبياء هي عِبر كما نصَّ عليه القرآن الكريم في ذيل سورة النبيّ يوسف : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) ( يوسف : 111 ) ، فهي في الواقع سنن إلهية تُستعرض لكي يتَّعظ بها المسلمون والمؤمنون ، لاسيّما في الجانب العقدي والاعتقادي ، وقد ورد أيضاً في القرآن الكريم أنَّ سُنّة الله لا تتحوَّل ولا تتبدَّل ، وهي سنن دائمة متكرّرة في الأدوار والحقب البشرية إلى يوم القيامة ، مع ما ورد عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من أنَّ هذه الأمّة ستنتهج ما نهج في الأمم السابق تحذو حذوهم حذو القذّة بالقذّة والنعل بالنعل[6]، وما شابه ذلك ، وربَّما فيه إشارة إلى بعض الآيات الكريمة حيث تؤكّد ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ ) ( الانشقاق : 19 ) .

إذن هذه السنن التي تُستعرض في القرآن الكريم للمصلحين والمنجين المبعوثين لإصلاح ونجاة البشرية ، والبشرية في تلك الحقب والأدوار تتوقّع وتنتظر ظهورهم ، وما يستعرضه القرآن الكريم من تفصيلات متشعّبة عن أحوالهم ، إنَّما هو بيان وتذكرة لسنن اعتقادية عقدية للمسلمين وللمؤمنين فيما تكون فيه السنن الإلهية في هذه الأمّة أيضاً .

نعود إلى خفاء النبيّ موسى عليه السلام هذا النبيّ الذي كانت تتوقَّعه بنو إسرائيل وتنتظره كمصلح ومنج ، وقد انتشرت بشائره إلى أسماع السلطة الحاكمة الباطشة آنذاك وهي سلطة الفراعنة ، فحاولت تصفية نسل بني إسرائيل للحيلولة دون تولّد هذا المصلح ، وشاكل ذلك ما مارسته السلطة في الدولة العبّاسية في تلك الحقبة من استقدام الإمام الهادي علي بن محمّد النقي العسكري عليه السلام إلى القاعدة العسكرية آنذاك ، وتحت رقابة عسكرية في مدينة عسكرية مدجَّجة بالفِرَق العسكرية ، فكأنَّما هم في حالة استنفار وتعبئة عسكرية ، وليست حالة تعبوية سياسية ، وكأنَّما هناك نوعاً من التيّار الجارف الذي يُمهّد له الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري عليهما السلام لظهور ابنهم الإمام الثاني عشر ، سيّما وقد نصَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أنَّ الأئمّة الخلفاء من بعده اثنا عشر وكلّهم من قريش ، وفي بعض الروايات : من هذا البطن من بني هاشم كما مرَّ سابقاً ، وقد سمعوا بتلك الأحاديث المتواترة ، حينئذٍ هذه الذاكرة المليئة بالأحاديث النبوية والبشائر النبوية ، بل والقرآنية تجعل السلطة في حالة استنفار تعبوي عسكري ، هذا الذي شوهد في التاريخ بنحو قطعي واستعرضته كلّ كتب المسلمين من سجن الإمام الهادي والإمام الحسن العسكري في تلك القاعدة العسكرية التي تدعى ب - ( سُرَّ من رأى ) والتي تدعى الآن : ( سامراء ) وهي مثوى الإمامين الشريفين عليهما السلام هناك .

نعم ، هذه هي الحالة التي واكبت ولادة الإمام المهدي عليه السلام بالضبط ، وهي التي يستعرضها لنا القرآن الكريم عندما واكبت مصلحاً سابقاً في الأدوار والأحقاب البشرية السابقة ، بنفس الشاكلة ، أنَّ ولادته كانت بالخفاء من السلطة وإرهاب السلطة وبرنامجها التصفوي ، حيث يقول القرآن الكريم : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ . . . ) .

إذن كانت هنالك حالة خوف ورعب عند ولادة هذا المصلح ( فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، وهذه الآية الكريمة فيها محطّة بيّنة لطيفة تصبّ في بيان ما تنتهجه مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، وهو نهج أصيل قرآني ، من تقرير أنَّ هناك حججاً إلهيين ليسوا بأنبياء وليسوا بمرسلين ، ولكن لديهم وحي وعلم لدنّي وإن لم يكن وحياً نبويّاً ، وإن لم يكن وحي الرسالة ، وإنَّما هو علم لدني ، ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، فالعلم من لدن الله عز وجل ، وكذلك قوله تعالى : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) ، إذن امّ موسى صدّيقة ومصطفاة كمريم عليها السلام وانتخبت لولادة هذا النبيّ المرسل من أولي العزم ، ومن ثَمَّ كانت الرابطة والارتباط بينها وبين السماء ، حيث قالت الآية : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ ) وهذا أمر وليس إيعازاً وإلهاماً تكوينياً ، ( فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ ) وهذا أمر آخر ، ( وَلا تَخافِي ) وهذا طلب ثالث ، ( وَلا تَحْزَنِي ) طلب رابع ، ( إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ) إخبار عمَّا سيقع ، وإنباء بالمستقبل ، إذن هناك حجج من الله ليسوا بأنبياء ولا رسلًا يأمرهم بأوامر خاصّة تطبيقاً للشرائع السابقة ، وينفّذون برامج من قِبَل الباري تعالى ، يزقّون العلم اللدنّي ، وأنباء المستقبل ( وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إنباء عن مقام عقدي مستقبلي وهو رسالة للنبيّ موسى عليه السلام .

إذن ستّة أمور في هذا الوحي استعرضها لنا القرآن الكريم في مضامين الوحي وطيّاته التي ذكرت في الآية الكريمة ، في الوحي الذي كان على ارتباط واتّصال بامّ موسى .

إنَّ الظاهرة القرآنية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام يُفهم منها أنَّ مقام الحجج لا يقتصر على الرسل والأنبياء ، بل هناك الأئمّة ، وهناك الحجج الذين هم أيضاً ليسوا بأئمّة ولا أنبياء ولا مرسلين كمريم عليها السلام ، فمريم لم تكن إماماً ، ولم تكن نبيّاً ، ولم تكن رسولًا ، ولكنَّها كانت مصطفاة مطهَّرة معصومة من الزلل والخلل ، وكان بينها وبين السماء ارتباط ، ثمّ إنَّ ظاهرة مريم وامّ موسى ليستا استثنائيتين ، بل هما سُنّتان إلهيتان دائمتان لا تجد لهما تفسيراً عقدياً واعتقادياً في مناهج الاعتقاد في مدرسة من مدارس أهل السُنّة وغيرها ، إلَّا في مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، حيث الاعتقاد بمقام النبوّة ومقام الرسالة بالإضافة إلى الاعتقاد بمقام الإمامة ومقام الحجّية ، وأيضاً مقام الاصطفاء والطهارة والعصمة ، كما هو الحال في فاطمة الزهراء عليها السلام .

إذن هذه ظاهرة مهمّة يركّز عليها القرآن الكريم ، وهي ظاهرة خفاء ولادة النبيّ موسى الذي كان مصلحاً ومنقذاً ومنجياً تنتظره البشرية الأكثرية في تلك الحقبة ، وفيها أمر عجيب وهو أنَّ قدرة الله ليست محدودة ولا متناهية ، ويستطيع سبحانه وتعالى أن يحفظ وليّه وحجّته في أحضان عدوّه ، إذ قال تعالى : ( فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ ) ( القصص : 8 ) .

إذن ما الذي تستبعده البشرية في ولادة الإمام المهدي عليه السلام في حين كان أبوه وجدّه عليهما السلام محاصَرَين في قاعدة عسكرية تدعى ب - ( سُرَّ من رأى ) سجنوهما كسجينين عسكريين ، أي إنَّ الدولة متّخذة ضدّهما التعبئة والاستنفار العسكري ، والنظام إذا كان يتوجَّس من انقلاب عسكري فإنَّه سيعلن حالة الطوارئ العسكرية والاستنفار العسكري ، والدولة العبّاسية طيلة حياة الإمام علي الهادي الذي هو جدّ الإمام المهدي عليه السلام ، وطيلة حياة الإمام الحسن العسكري عليه السلام كانت تعيش حالة تعبئة واستنفار عسكري ، هذا ما سجَّله لنا التاريخ وكتب الروايات إذ أنَّ خلفاء بني العبّاس كانوا آنذاك يستعرضون العسكر والجيوش أمام الإمام الهادي عليه السلام[7]، ليقولوا له : ليكن في حسبانك أنَّ أيّ انقضاض على نظام الدولة العبّاسية فسيكون أمامك أرتال وفِرَق تملأ الأفق من العسكر ، وهم يظنّون أنَّ هذه هي القدرة وهذه هي القوّة ، لأنَّ المنطق عندهم هو منطق القوّة المادّية الظاهرية لا غير .

إذن التعبئة العسكرية كانت موجودة كما هو في حالة النبيّ موسى ، وأنَّ آل فرعون رغم تعبئتهم ورغم استنفارهم لاستئصال وذبح كلّ نسل بني إسرائيل إلَّا أنَّ آل فرعون التقطوه ليكون لهم عدوّاً وحزناً ، ( إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) ( القصص : 8 ) ، لأنَّ قدرة الله تحفظ وليّه وحجّته والمبعوث مصلحاً ومنجياً في أحضان عدوّه بحماية الله ، النبيّ موسى كان يترعرع وينمو وينشأ في أحضان العدوّ وعلى بساط النظام الغاشم الظالم ، لكن مع ذلك لم يكن يعرف هوية النبيّ موسى ، هذه الغيبة من النبيّ موسى وخفاء ولادته ونشوئه وترعرعه ليست غيبة مقابل حضور ، بل هو حاضر لديهم ، إنَّما هي غيبة هوية ، غيبة معرفة ، غيبة تشخّص .

سرّ استعراض تفاصيل خفاء ولادة موسى عليه السلام :

إنَّ لهذه القصّة وتفاصيلها حول خفاء ولادة موسى عليه السلام مغزى عظيم وحكمة يتَّعظ بها المسلمون في قراءتهم للقرآن الكريم ، نعم ، هو محطّة جيّدة للتأمّل والتدبّر والتمعّن ، فإنَّ هذه التفاصيل التي تستعرضها سورة القصص بمفردها ، فضلًا عن السور الأخرى بتفاصيل وملابسات وشؤون وشجون خفاء الولادة والرعب الذي لابسها ، والمراحل التي ترعرع فيها النبيّ موسى عليه السلام ، كلّ ذلك لتبيان القرآن بشكل واضح على أنَّ خفاء ولادة المصلح الموعود المنجي وكيفية ترعرعه ونشأته عن المؤمنين به ، وعن المستضعفين في الأرض كما هو الحال مع النبيّ موسى وذلك بعد تفشّي الظلم وفساد الفراعنة والنظام الفرعوني في أرجاء الأرض لا تتنافى مع حجّيته ، لأنَّ هذه سُنّة إلهية في الحجج المبشّرين والموعود بهم من قِبَل الله تعالى في البشائر السماوية ، لأنَّهم مصلحون ومنتظرون للإصلاح ونجاة البشرية ، ومن الطبيعي أنَّ تلابس نشأتهم وولادتهم وترعرعهم حالةٌ من الخفاء يتسنّى لهم من خلالها ممارسة دورهم وبسط نفوذهم وقدرتهم ، وفي الحقيقة أنَّ الخفاء الذي يستعرضه القرآن الكريم في ولادة النبيّ موسى عليه السلام والذي فيه نماذج تأتي من الظواهر القرآنية ليست أسطورة ، وليست خرافة ، ففي هذا العصر توصَّلت البشرية إلى أنَّ من أسرار ورموز القوّة هو السرّية ، أنظر إلى أيّ نظام من أنظمة الدول العصرية الآن إذا لم يتسلَّح بسلاح السرّية والخفاء فماذا سيحدث ؟ إذن أدبية السرّية والخفاء وفكرة الغيبة والاستتار ظاهرة متقدّمة منظورة متمدّنة في علم إنشاء القدرة ، لاسيّما في سبيل الإصلاح ، أي إنَّ أيّة قدرة تريد أن تترعرع أو تتكوَّن أو تريد أن تبسط أرضيتها وقاعدتها لا بدَّ لها من استعمال عامل الخفاء ، وعامل السرّية .

فهذه ليست هي عقيدة أو فكرة محضة ، بل هي ممارسة عملية عبر التاريخ . والكثير كان يهرّج ويوظّف الأقلام الوضيعة والألسن الساقطة لادّعاء أنَّ هذه خرافة وأسطورة وأنَّ من يعتقد بها يعيش في خيال وما شابه ذلك ، فتبيَّن من خلال ما سبق : إنَّ هذه حقيقة قرآنية ، وهذه الحقيقة تقرّرها البشرية في إدارة نظم الدول ونظم القدرات ، فليس الإعلام ولا حتَّى السلاح النووي أو غيره له قدرة توازي قدرة الخفاء السرّي ، فربَّما دولة من الدول ليست لديها تلك الأسلحة والأجهزة والآليات اللوجستيكية ، ولكن لديها العمل الخفي السرّي في العمل والنفوذ والاختراق لخصومها أنفذ من بقيّة الدول التي تكون ظاهرياً أكثر سيطرة وأكثر قوّة .

فعنصر الخفاء وعنصر الغيبة وعنصر السرّية ليس عنصراً كما يروق للبعض أن يعبّر عنه ب - ( عقيدة باطنية ) أو ما شابه ذلك ممَّا تلهج به الألسن الرخيصة ، بل هو مفهوم حضاري قرآني يستعرضه لنا القرآن الكريم في المصلحين الإلهيين والحجج الموعود ببعثهم لإنقاذ البشرية من ملابسات تلك الظروف ، وهذا أمر وتسلسل وتكوّن طبيعي واضح ، أنَّه لا بدَّ من طبيعة المناجزة والمصادمة بين القوى على الصعيد الكائن الموجود للاجتماع البشري .

ويمكن أن نحسبها سُنّة إلهية وسُنّة طبيعية . فطبيعة البشرية الاحتماء من الأخطار بالالتجاء إلى علوم الأمن وعلوم السرّية وعلوم الخفاء وعلوم المخابرات وعلوم عديدة ، بل هناك علوم عديدة تضاهي العلوم المعلَن عنها من العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية وغيرها ، فعلم الأمن يدخل في صلب الإدارة وفي صلب القيادة وفي صلب التدبير ، وتقارن السرّية والخفاء مع التدبير والقيادة والإدارة والنظم والنظام ، وهذه في الواقع عناوين تحمل معنى الإمامة ، أي القيادة ، أي التدبير ، أي الإدارة ، أي النظم ، أي رئاسة النظم ، لا بدَّ أن تقترن ملفّاتها وفي حقب فاعليتها وفعاليتها بجانب الخفاء ، فلنواكب بقيّة التفاصيل التي تستعرضها لنا سورة القصص بتفاصيل متعدّدة متكثّرة مبسوطة عن خفاء وملابسات ولادة النبيّ موسى عليه السلام وهو إمام من الأئمّة الذين جعلهم الله تعالى أئمّة للبشر في تلك الحقب ، وهو من أولي العزم ، تقول الآية الكريمة : ( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ) ( القصص : 9 ) ، إذن معنى الغيبة هنا الذي تستعرضه لنا الآية الكريمة للنبيّ موسى ليست غيبة وجود ولا مزايلة حضور ، وإنَّما غيبة هوية ، وللأسف هذه المفردة لم تتبلور بشكل واضح في غيبة الإمام المهدي ، فإنَّه ليس من أمر استعرضه القرآن إلَّا لأجل عبرة في هذه الأمّة ، أنَّه سيجري في هذه الأمّة من السُّنَن السابقة في الأمم الماضية وفي الحجج الإلهيين ما سيجري في هذه الأمّة .

فمفهوم الغيبة ليس المراد منه غياب حضور ، وإن كان كثر في الكتابات والألسن أنَّ الغيبة في مقابل الحضور ، وهذه في الواقع مفهومة مغلوطة ، الغيبة مقابل الظهور وليست مقابل الحضور ، فالإمام حاضر ، والحجّة الإلهية حاضرة ، النبيّ موسى الذي استعرض لنا القرآن الكريم أمره كان حاضراً ، غاية الأمر أنَّه كان مخفيّاً خفاء هوية ، غائباً عن معرفة أولئك به ، لا غائباً وجوداً ، وإلَّا فهو في كبد الحدث ، وفي صلب الحدث ، أنظر التعبير في الآية الكريمة : ( وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ) ، إنَّما غيبته عدم معرفتهم به وهو موجود بين أيديهم حاضر عندهم ، هذا معنى الغيبة ، أي عدم الشعور بالموجود ، عدم الشعور بالحاضر ، كما قال تعالى : ( وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ ) ( القصص : 9 و 10 ) ، ( لَتُبْدِي بِهِ ) أي : تُظهر هويته ، ليس التعبير في الآية الكريمة : ( كادت لتأتي به ) ، هو لم يغب وجوداً كي تأتي به ، بل هو حاضر لكن ليس بظاهر ، فالغيبة في مدرسة أهل البيت عليهم السلام هي غيبة مقابل الظهور وليست في مقابل الحضور ، حضور لكنَّه بالخفاء ، وفي الظهور حضور لكنَّه بِعلَن وعلانية ، ففي كلّ من الغيبة والظهور حضور في ساحة الحدث ، ومجريات الحدث البشري تدبيراً وإدارة من الله العلي العظيم ، ولكنَّه في حالة الغيبة في الخفاء والسرّية وعدم الشعور به ، وفي حالة الظهور حضور مع شعور به ، ومعرفة به ، والتعبير القرآني دقيق ، وكلّ كلمات القرآن الكريم فيها حكمة ومغازي .

وأنَّ هناك ثلّة من الحجج ومن شابههم ، يعرفون بموضع المصلح والمنجي والمنقذ ، لكن هناك حصانة وحراسة إلهية ضاربة لتأمين حياة وجود هذا المصلح وهذا الموعود ، وهناك تأمين وضمانة إلهية لحراسة هذا المنقذ في ترعرعه وفي نشأته وفي استمرار حياته وفي تكوين قاعدته ، ونفوذه وقدرته ، ( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ ) .

فبعض المؤمنين آنذاك كانوا يعرفون هذا المنقذ المنجي الموعود المصلح الذي أنبأت به البشائر السماوية ، بعض المؤمنين الخُلَّص ككلثم أخت النبيّ موسى التي كما ذكر في الروايات تكون في الآخرة من النسوة الأربع زوجات لسيّد الأنبياء[8]، ( وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ . . . ) ( القصص : 11 و 12 ) ، إنَّ تفاصيل هاتين الآيتين تصبّ في هذا المغزى ، وهو أنَّ وليّ الله وحجّته الموعود بكونه منقذاً ومصلحاً للبشرية تحوطه العناية الربّانية والحراسة الإلهية في كبد أحضان العدوّ ، وفي متناول مخالب العدوّ ، من دون أن يشعروا أو يعلموا به أو يعرفوه ، كما يتَّضح أنَّ عامل الخفاء يكون من أقوى المؤثّرات ، وأقوى القدرات ، وأنَّ العلم أكبر سلاح ، والشعور بالشيء علم به ، والغيبة والخفاء عدم الشعور به ، إذ أنَّ أكبر سلاح لدى البشرية هو العلم ، فإذا سُلب هذا السلاح من يد العدوّ أي الشعور واستكشاف ذلك المصلح الذي تترقَّبه السماء سوف يكون حينئذٍ أكبر نقطة ضعف لدى العدوّ .

هناك وقفة أخّاذة جدَّاً بمجامع الفكر والعقل ، تتَّضح لنا في خضم هذا الاستعراض من القرآن الكريم وما أكَّد وركَّز ونبَّه من خلال لسان الآيات الكريمة على أنَّ هذا المصلح بطبيعة ما يترقَّب ويتوجَّس منه بشرياً من الإصلاح العامّ ، سوف تكون قوى الشرّ وقوى الظلام دوماً في تحسّب من مواجهته ، وهذه معادلة طبيعية ، معادلة قوى الخير وقوى الشرّ ، قوى الحقّ وقوى الباطل ، فمن ثَمَّ يكون هناك تعبئة عامّة واستنفار عامّ في صفوف الأنظمة الظالمة وقوى الفساد في وجه هذا المصلح الآتية بشائره ، إذن فهذه سنن إلهية موجودة .

وفي خضم تعرّض القرآن الكريم لأوّل محطّة من ظاهرة النبيّ موسى المصلح المنجي الموعود في تلك الحقبة الزمنية لتبيانها ، لاسيّما في سورة القصص وفيها ما لابس خفاء ولادة النبيّ موسى ، هنا نشاهد أنَّ القرآن الكريم يعطي وقفة نورية خلّابة جدَّاً أخّاذة بمجامع القلوب ، وهي تجليل لوالدة موسى ، وأنَّها موحى إليها ، وإن لم يكن وحياً نبويّاً ولم يكن وحي شريعة ، ولا وحي رسالة ، ولكن وحي لوليّ من أولياء الله ، وصفي من أصفياء الله ، كيف لا وهي قد استودعت أمانة النبوّة عن عدوّه . قال تعالى : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ( القصص : 7 ) .

إذن هي أنبئت وأخبرت بأنَّ موسى سوف يكون نبيّاً مرسلًا ، مع أنَّه إلى ذلك الوقت لم يُبعث النبيّ موسى بشريعته كي تعتنقها ، ولكن كانت على شريعة الأنبياء السابقين ، وانبئت ببعثة نبيّ من أولي العزم ناسخ للشريعة السابقة ومكمّل لسلسلة من النبوّات ، فأودعت هذه الأمانة العظيمة وحفظتها ، ولو لم تكن هي أمينة الله ومستودع الله لحفظ كليم الله ولحفظ نبيّ من أنبياء أولي العزم ، ولو لم تكن بهذه المنزلة لما أنبأها الله عز وجل بأنَّ هذا الموعود سوف يكون نبيّاً وأنَّه من المرسلين ، إذن هي بحدّ من الأمانة عند الله عز وجل وصدّيقة وصفية من أصفياء الله اصطفاها عز وجل بحيث يُجلّلها ويودعها هذه الأمانة ، وإلَّا لو لم تكن بتلك الدرجة من الأمانة لكشفت عن الأمر ، ولربَّما انقطع الطريق وسُدَّ عن البرنامج الإلهي من بعثة نبيّ من أنبياء أولي العزم .

إنَّه أمر عظيم وهو استحفاظ امّ موسى نبوّة النبيّ موسى ، إنَّه أمر ليس بالهيّن ، ويظهر من القرآن الكريم أنَّ امّهات الأنبياء جميعهنَّ مؤمنات مصطفيات مستودعات للسرّ الإلهي صدّيقات حاملات لأكبر أمانة إلهية ، فكيف بك بوالدة سيّد الأنبياء ، وهي آمنة بنت وهب ، وعجباً من هذه الألسن التي تلوك زوراً باطلًا كيف يتجرَّأون بالقول بكفر وشرك والدة سيّد الأنبياء أو والده أو آبائه عموماً الذين كانوا كلّهم أمناء مستودعين لنور النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان نور النبيّ في جبينهم يخفق ويسطع ، وكان من القبائل ومن الأمم من اليهود والنصارى من حاول مباغتة جدود النبيّ وقتلهم واستئصالهم حسداً للقضاء على نور النبوّة في جبينهم وفي صلبهم ، هؤلاء الذين استودعوا مثل هذا النور نور سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف حينئذٍ تتجرَّأ تلك الألسن وتلوك باطناً وتتجرَّأ على الساحة النبوية وعلى الساحة الإلهية في الوقيعة بأولئك الآباء الطاهرين والأجداد المطهَّرين للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .

يعلّمنا القرآن هنا درساً بأنَّ امّهات الأنبياء وآباء الأنبياء هم بهذه المنزلة ، أنظر هذا التعبير القرآني : ( وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى ) ، فكيف يكون المقام مع امّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيّد الأنبياء ، نعم فإذا كان النبيّ موسى قد ترعرع في هذا الحضن الطاهر والبطن الطاهر والرحم الطاهر والصدر الطاهر فكيف بك بسيّد الأنبياء ، نعم هناك ضغينة وشنشنة قديمة مع النبيّ وأهل بيته عليهم السلام ، يحملها أناس ولا زالت تنفث ، كما كانت قريش تعادي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .

فامّ موسى صدّيقة وصفية من الأصفياء ، هكذا شأنها كما كان شأن والدة النبيّ عيسى أيضاً ، حيث استودعت نبوّة النبيّ عيسى ، وأوعز إليها أن تقوم بدور إبلاغ بني إسرائيل بأنَّ هذا نبيّ من الأنبياء ، قالوا : ( يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشارَتْ إِلَيْهِ ) ( مريم : 28 و 29 ) ، يعني جلبت انتباه الملأ من بني إسرائيل ، وعلم بنو إسرائيل أنَّ الذي كلَّموه هو نبيّ من الأنبياء ، هذه البشارات التي أودعت وانبئت بها مريم ، وهي والدة أحد الأنبياء من أولي العزم ، فكيف بوالدة سيّد الأنبياء وبوالد سيّد الأنبياء ؟ إنَّ القرآن الكريم يعلّمنا درساً بالغ الأهمّية ، درساً عقدياً ومسألة عقدية ومحطّة عقائدية مهمّة ، وهي أنَّ والدات الأنبياء وآباء الأنبياء لهم مكانة إلهية ومقام إلهي مثّل هذا الشأن ، كما هو الحال في امّ موسى وفي امّ عيسى عليهما السلام .

خفاء النبيّ موسى عليه السلام بعد نبوّته في بني إسرائيل :

المحطّة الثانية التي يستعرضها لنا القرآن الكريم في قصَّة النبيّ موسى عليه السلام كمصلح للبشرية كما ستشير إليه سورة القصص ، وباعتباره نبيّاً مترقّباً من قِبَل المؤمنين من بني إسرائيل الذين كانوا يعانون أشدّ الضيم والويل من الفراعنة ، تقول الآيات الكريمة في سورة القصص : ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ( القصص : 14 ) ، وفي الآية إثارة جميلة وهي : إنَّ مقام عطاء الحكم والعلم لا لنبوّة النبيّ موسى وإنَّما لمقام الإحسان ومقام المحسن من الأصفياء والحجج ، سواء أكان نبيّاً أو كان رسولًا أو كان وصيّاً وإماماً أو كان حجّة من الحجج ، لأنَّ القرآن الكريم يستعرض لنا أربعة أقسام رئيسية ، وإلَّا فهناك أقسام أخرى ، وتلك الأقسام الأربعة الرئيسية تشير إليها سور عديدة ، وستمرُّ بنا في ظواهر القرآن الكريم ، فهناك حجّة وإن لم يكن نبيّاً ولا رسولًا ولا وصيّاً كمريم وامّ موسى ، فقد أنبأنا القرآن الكريم بأنَّهم مصطفون ومطهَّرون .

نعم ، بعدما ذكر القرآن الكريم ولادة النبيّ موسى وما قد رافقها من المخاطر والاستتار الشديد جدَّاً بحراسة إلهية قصوى ، وتقدير وضمانة إلهية لوالدة النبيّ موسى عليه السلام ولأخته ولذويه بأن يحفظ الله عز وجل هذا المصلح الذي تترقّبه القلوب وتنتظره أفئدة المؤمنين ، وتتوجَّس منه خيفة قلوب الفراعنة لكونه يقوّض أنظمتهم ، بعد ذلك يواصل لنا القرآن حالات النبيّ موسى عليه السلام باعتباره مُصلحاً ومُنجياً للبشرية في تلك الحقبة ، حيث نجد في السور القرآنية أنَّ هناك مقارنة متلازمة بين اسم النبيّ موسى وفرعون ، تقارن الإصلاح مع الظلم ، أو تقارن الظالم مع المصلح ، هذا التقارن مع عاقبة الإصلاح في الحقيقة يدلّل على أنَّ النظام الفرعوني هو نظام البطش والظلم الإفساد في الأرض ، رغم تقدّمه المدني في الجانب المادي ، فهذه الأهرامات التي تُشاهد الآن تدلُّ على الحضارة الفرعونية ، والحضارة المادية التي وصلت إلى تقنيّة لم تستطع التقنيّة الحديثة العصرية أن تفسّرها أو تدرك حقيقة حالها ، ومع ذلك فإنَّ هذا التحضّر أو التمدّن في البُعد المادي خيّم عليه انتشار الفساد والظلم ، وبالتالي اسم فرعون قُرن باسم الظلم والفساد والبطش ، ويشير القرآن الكريم إلى فرعون ذي الأوتاد كيف كان يبطش بالبشر ، وقُرن به اسم مصلح وهو النبيّ موسى .

إذن تكرّر في عدّة سور قرآنية اسم النبيّ موسى في مواجهة فرعون والسِمة البارزة في النبيّ موسى أنَّه دكدك عروش الفراعنة ، وباعتباره مصلحاً ومنجياً بسط العدل في زمانه بحدود معيّنة في بعض بقاع الأرض .

تواصل لنا سورة القصص وبقيّة السور القرآنية ما جرى على هذا المصلح بعد خفاء ولادته وحراسة السماء بشدّة له والحيطة عليه ، قالت الآية الكريمة : ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها ) ، دائماً في حالة خفاء ، ترعرعه ، نشوؤه ، ولادته ، خفاؤه واستتاره قبل ساعات الظهور ، وقبل ساعة إعلانه الإصلاح العامّ كان في حالة سرّية كمبعوث إلهي ، ( فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ ) ، مع عدم علمه به ( عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ) ( القصص : 15 ) ، يعني العراك الذي جرى بين ذاك الذي كان قد عرف النبيّ موسى وبين ذلك الذي لم يكن يعرفه .

ويظهر من الآية أنَّ النبيّ موسى كان يتحرَّك مع عدم علم واطلاع الفراعنة ولا بني إسرائيل بشخصيته وهويته ، كانوا يرونه ولا يعرفون أنَّه هو ذلك المنتظر الموعود المنجي لهم ، كان في كبد ساحة الحدث ، يتفاعل معه ، أي إنَّ النبيّ موسى عليه السلام كان يرعى ويشرف ويُهيمن على مجريات حال ومصير بني إسرائيل ، لكن مع ذلك لم يكونوا يعرفونه .

إذن كان يؤثّر في مجمل أوضاعهم في حدود معيّنة مقدَّرة من قِبَل الله تعالى من دون أن يشعروا به ومن دون أن يعرفوه ، هذه محطّة أخرى يذكرها لنا القرآن الكريم في ظاهرة النبيّ موسى ، وهي أنَّه كان يتفاعل مع مجمل الأحداث التي تجري على بني إسرائيل ، لكن من وراء ستار غياب الهوية ، من وراء ستار خفاء الشخصية ، مع كونه موجوداً بين أيديهم .

بعد ذلك تواصل الآيات : ( قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ) ( القصص : 17 ) ، فهو ظهير للمستضعفين ، وهو في حين لم تأتِ ساعة الصفر لظهوره ، أو إعلان دعوة إصلاحه وإنجائه لبني إسرائيل وللمؤمنين من براثن الفراعنة ، كان مع ذلك يزاول تدبير الحدث في خضم وفي وسط هذا الخفاء وفي وسط هذا الستار ، فهو لم يكن معطّلًا قبل ظهوره ، بل كان متفاعلًا مع الحدث ، ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ ) ( القصص : 18 ) ، فهاهنا في خضم تفاعل النبيّ موسى مع الأحداث وتأثيره في الحدث العامّ الذي يجري على بني إسرائيل كان في حال خوف ، وستر وسرّية لئلَّا ينكشف .

إيجابية صفة الخوف عند الأنبياء عليهم السلام :

إنَّ هذا الخوف ليس صفة شخصية أو خوفاً على شخصه ، فالنبيّ موسى والأنبياء عليهم السلام إنَّما كانوا يخافون على عدم استتمام المهمّة التي أوكلت إليهم ، ويخافون على التقصير أو عدم الوصول إلى الغرض فيما أوعز إليهم من رسالة وإصلاح وإنجاء ، سيّما في البرنامج الموسوي الذي أودع إليه من قِبل الله تعالى . فهذا الخوف في الواقع خوف على الهدف ، فلم يكن لموسى خوف شخصي على نفسه ، ( فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً ) ( القصص : 19 ) .

الغيبة الثانية لموسى عليه السلام :

ثمّ قال تعالى : ( وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ) ( القصص : 20 ) ، وهنا تبدأ الغيبة الثانية للنبيّ موسى ، ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( القصص : 21 ) ، فهذا الخوف في المصلحين هو بسبب ستار الغيبة والخفاء والسرّية لهم ، والحركة تحت سطح السرّية ، وليس خوفاً شخصياً على أنفسهم ، وكيف وهم بُسلاء الشهادة وروّاد البشرية اختارهم الله عز وجل وأصفاهم وهم أولياؤه ، وإنَّما هو خوف على عدم إنجاز المهمّة الإلهية ، وعدم إيصال هذه المهمّة إلى نهايتها . فلا ريب حينئذٍ أن يستدعي الأمر منه نوعاً من الغيبة ، وأن يكون تحت ستار الخفاء ، وما ذلك إلَّا لأجل المثابرة في أداء المسؤولية العظيمة الموكلة إليه من قِبَل الله تعالى ، وكما يحدُّثنا القرآن الكريم في المصلحين السابقين المبعوثين من قِبَل الله ، كان الاقتضاء أن يكونوا في فترات في ستار الخفاء والغيبة ليؤمّن لهم حرّية الحركة ، وحرّية الانطلاق وحرّية التفاعل مع الحدث والتأثير من دون أن تصل أيدي الظالمين إليهم ، لأنَّ طبيعة الأنظمة الظالمة أنَّها إذا شعرت بعنصر الإصلاح ولاسيّما عنصر الإصلاح الإلهي تباغته بالتصفية والإعدام والإزالة ، لا ريب في ذلك ، فلذا يكون الستار الأمني الحافظ لهم من استئصال وتصفية وإبادة قوى الظلم وقوى الظلام والشرّ والأنظمة الفاسدة لهم .

فستار الخفاء يعطي كمال الحيوية وكمال الحرّية في الحركة والنشاط والقيام بأتمّ ما يمكن من المسؤولية ، فكما يحدّثنا القرآن الكريم هنا عن ظاهرة النبيّ موسى في تلك الحقبة ، كان يحدّثنا أيضاً أنَّ الخوف كان برنامجه للإيفاء بدوره الفاعل ، وكانت السرّية هي غطاء لتأمين أداء دوره الفاعل وتأثيره في ذلك الحدث .

لقاء موسى بشعيب عليهما السلام :

ومن هنا تواصل الآيات الكريمة وتقصُّ لنا الغيبة الثانية والخفاء الثاني للنبيّ موسى ، ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) ( القصص : 22 ) ، إلى أن تصل إلى لقاء موسى بالنبيّ شعيب عليه السلام .

وهنا محطّة أخرى ، وهي أنَّ هذا المصلح المنجي الموعود يلتقي مع حجج آخرين لله ، فهناك نوع من الشبكة المتّصلة بين أولياء الله ، هناك نوع من المجموعات المرتبطة مع بعضها البعض ، وكلّ محطّة في ظاهرة النبيّ موسى والظواهر الأخرى التي سنأتي على استعراضها إن شاء الله فيها وقفات تستدعي الانتباه بإمعان ، منها هذه المحطّة التي هي غيبة ثانية تستعرضها لنا سورة القصص في ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام .

وهذا الخفاء وهذه الغيبة تأتي بجانب ما أوتي النبيّ موسى من بدء ولادته من الخفاء والسرّية إلى ترعرعه وبلوغ أشدّه واستوائه ، بعد ذلك تأتي مرحلة أخرى امتدَّت أكثر من عشر سنين عندما استأجره النبيّ شعيب ، ( قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ ) ( القصص : 29 27 ) ، حيث إنَّه أتمَّ عشراً كما ورد في الروايات[9]، فيتَّضح أنَّ هناك غيبة أخرى ثانية طالت أكثر من عشر سنين ، من ذهابه إلى مدين ، ثمّ مكثه عشر سنين أو أكثر عند النبيّ شعيب .

تلاؤم حجّية النبيّ موسى عليه السلام نبيّاً مع غيبته :

ولسائلٍ أن يسأل : هل هناك تنافٍ وتقاطع بين نصب الله عز وجل حجّة من حججه مصلحاً ومنجياً وموعوداً منتظراً في تلك الحقبة وبين غيبته ؟ سيّما أنَّ هذه الغيبة الثانية كما مرَّ بنا الحديث بيَّنت ومن خلال سورة القصص أنَّه لمَّا توجَّه تلقاء مدين مكث ما يربو ويزيد على العشرة ، وكان ذلك أجلًا ثانياً في غيبة النبيّ موسى ، والتقى فيها مع النبيّ شعيب ، وكانت محطّة لقاء حجج الله ومجموعة من أصفياء الله مع بعضهم البعض في تدبير الأمور الإلهية ، النبيّ موسى هو من أولي العزم ورسول مبعوث وصاحب شريعة ، وهو أيضاً في البشارات الإلهية موعود به المنجي والمنقذ لبني إسرائيل من براثن أنظمة الفراعنة ، فكيف يتلائم هذا مع الغيبة ؟ ! أليس هناك تقاطع ؟ أليس هناك تدافع ؟

هذه الإثارات والتساؤلات ناجمة ومنبعثة من فهم خاطئ لمعنى الغيبة ، وقد مرَّ بنا أنَّ معنى الغيبة ليست هي عدم وجود النبيّ موسى في ساحة الحدث ، وليس معنى الغيبة مزايلة النبيّ موسى عن موقعيته في التأثير في الأحداث ، ولا نأيه ولا ابتعاده عن التصدّي لمجمل الأمور ، فهذا معنى خاطئ للغيبة ، وهكذا معنى الغيبة للإمام المهدي عليه السلام ، فالبعض وربَّما من أتباع مدرسة أهل البيت فضلًا عن المدارس الإسلاميّة والملل والنحل الأخرى ربَّما ينساق إليهم معنى الغيبة بمعنى النأي والابتعاد عن مجمل المسؤولية أو التدبير أو الاضطلاع بكامل البرنامج الإلهي .

فنقول : ليس ذلك هو معنى الغيبة ، فتارةً تكون الغيبة في مقابل الحضور كقولنا : غاب وحضر ، وتارةً الغيبة تكون مقابل الظهور ، وهي التي تتَّخذ معنى الخفاء والسرّية والستار ، فإنَّ موسى ترعرع في أحضانهم وبين أيديهم لكنَّهم لا يشعرون به ، فهي إذن غيبة خفاء ، غيبة هوية ، غيبة ستر وستار ، لا غيبة انعدام ومزايلة عن الحضور ، فلو فُسّرت الغيبة بمعناها الصحيح كما في غيبة النبيّ موسى فهو في مدين يستنبئ أنباءهم ، وربَّما يقرب من ذلك كيفية إيعازه لجملة من البرامج الإلهية في المجتمع الفرعوني ومجتمع بني إسرائيل والأقباط هناك ، فإذن ليست هي ابتعاد ومزايلة عن التأثير في ساحة الحدث ، بالعكس هو نوع من الخفاء والسرّية في العمل والنشاط فلا يكون هناك أيّ تقاطع أو أيّ تصادم بين الحجّية والمسؤولية التي توكل إلى ذلك الوليّ والحجّة من حجج الله ، بل يكون هناك تمام الملائمة وتمام النسق والتأثير المتبادل ، وستكون حينئذٍ مسؤولية الخفاء هي أفضل فرصة لقيام ذلك الحجّة بما يُعهد إليه من مسؤولية ومن برامج إصلاح وما شابه ذلك ، وسيكون الخفاء والغيبة أنشط لدوره ، وأكثر فاعلية وتأثيراً ، بخلاف ما لو فسَّرناها بأيّ معنى خاطئ ، وللأسف أنَّه قد استشرى هذا المعنى الخاطئ في أذهان الكثيرين ، وهو أنَّ معنى الغيبة النأي والمزايلة والابتعاد والجمود وعدم التصدّي للأحداث وتدبير الأمور ، وكيف يلائم هذا المعنى الخاطئ للغيبة الحجّة الفعلية للنبيّ موسى ؟ وهو من أولي العزم ، وحجّة لله ، وموعود بأنَّه هو المنتظر المصلح المنقذ للبشرية من الأنظمة الفرعونية ، فكيف يكون حينئذٍ معطّلًا ؟ ! فالتعابير القرآنية السابقة تظهر مجمل حركة النبيّ موسى قبل إعلان دعوته في العلن ، أنَّها كانت دوماً في حالة خفاء ، دخوله ، خروجه ، ترعرعه ، نشوؤه ، نموّه ، وهذا ليس من الأسطوريات ؟ ! حاشا لأفعال الله تعالى ولرسل الله تعالى عن ذلك ، وإنَّما هي في صلب خضم التدبير الإلهي الحكيم النافذ البالغ الحكمة ، لأجل حيويةٍ أكثر ونشاطٍ أكثر لقيام ذلك المصلح بدوره في مرحلة الخفاء والسرّية إلى أن تُستكمل قدراته ونفوذه ، وتتهيَّأ الأرضية له ، حينئذٍ تأتي ساعة الصفر وساعة الظهور والإعلان .

إعلان الدعوة الموسوية :

ثمّ تأتي الآيات تزف لنا نهاية المطاف ، عندما أعلن النبيّ موسى دعوته وظهر باعتباره مصلحاً ومنجياً ، وهذا هو المقطع الثالث من حياة النبيّ موسى عليه السلام .

كيف بدأ ظهور النبيّ موسى مصلحاً ومنجياً أمام الفراعنة وأمام الأقباط ، وأمام المجتمع من بني إسرائيل ؟ قال تعالى : ( فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ) ( القصص : 29 و 30 ) ، وتواصل الآيات : ( اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ ) ( القصص : 32 ) ، هنا بدأ المسؤولية في الإعلان والظهور ، في سورة طه : ( اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى ) ( طه : 24 ) ، هذا النظام الجاثم على كبد البشرية في تلك الحقبة التي تصفها الآية الكريمة في سورة القصص : ( نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص : 3 و 4 ) ، ظلم وفساد ملأ أرجاء الأرض من النظام الفرعوني ، تأتي هنا حينئذٍ نهاية المطاف ، وهي إعلان الظهور وبدء المأمورية ، بأمر إلهي بظهور النبيّ موسى للإصلاح ، يتلقّى موسى عليه السلام الأمر فيقول : ( رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ) ( القصص : 33 ) ، يعني ربَّما لن أوفَّق لأداء تمام المسؤولية ، فإنَّه لا خوف شخصي كما مرَّ سابقاً ، بل إنَّ الخوف الذي ينتاب المصلحين الإلهيين والمنجين ، ليس خوفاً شخصياً من نزعة ذاتية وحبّ الذات وحبّ البقاء ، كيف وهم روّاد الشهود على البشرية ، كنماذج بشرية اصطفاها الله عز وجل للإصلاح ، وإنَّما خوف من عدم إتمام وإكمال البرنامج الإلهي ، وعدم التوفيق في الاضطلاع بأداء المهمّة الإلهية كالإصلاح والإنجاء للمستضعفين والمظلومين في الأرض ، وقلع الفساد الذي يتفشّى في أرجاء الأرض . نعم ( وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ * قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما . . . ) ( القصص : 35 33 ) ، أنظروا قوله تعالى : ( وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً ) ، أي إنَّ الحراسة الإلهية والضمانة الإلهية للمصلحين والمُنجين موجودة ، في حين لا تواكل ولا جبر ولا تفويض ، وإنَّما أمر بين أمرين ، التوكّل يعني أن يقوم المصلح بأدواره ، ومن وراء ذلك الحراسة الإلهية ، والضمانة الإلهية موجودة .

ظاهرة اختفاء وغيبة الأنبياء عليهم السلام سُنّة إلهية :

بعد أن استكملنا ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام باعتباره مصلحاً ومنجياً إلهياً وهادماً لعروش الفراعنة والظالمين وما رافق ذلك من خفاء ولادته عليه السلام وغيبته في فترة ترعرعه ونموّه ونشوئه ، ثمّ غيبته الثانية في بلاد مدين ، ثمّ قيامه بالإعلان والظهور للإصلاح وإنقاذ بني إسرائيل والبشرية من مخالب الظالمين والمفسدين ، نواجه هنا هذا السؤال ، وهو : هل ما جرى في ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام المصلح المنجي الإلهي هو سُنّة إلهية دائمة ، أم حالة استثنائية خاصّة بالنبيّ موسى عليه السلام ؟

والجواب : بعد ما مرَّ بنا باقتضاب من ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام كمبعوث إلهي مصلح ليُقوّض عروش الظالمين ، ويُقوّض براثن الفساد وينجي وينقذ البشرية في تلك الحقبة ، نقول : ليس ما استعرضه لنا القرآن الكريم في كلّ هذا الخضم هو لإشباع رغبة الخيال ، بل إنَّها محطّات عقدية اعتقادية ، وسنن إلهية دائمة في المصلحين والمنجين للبشرية .

هناك طائفة من الآيات القرآنية تبيّن وتدلّل على أنَّ هذه السنن الإلهية سنن دائمة وليست سنناً مؤقّتة ، قال تعالى : ( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ( الأحزاب : 62 ) ، وقوله : ( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ( فاطر : 43 ) .

فسننه في الرسل والمصلحين والمنجين والمنقذين المبعوثين من قبله تعالى تتكرّر ، سيّما مع طبايع البشر ونظامهم الاجتماعي ، ونظام قوى الظلم والشرّ في قِبال قوى الإصلاح الإلهي .

إذن العبرة في مجريات الأحداث التي مرَّ بها الأنبياء والرسل والتوقّف عندها لأنَّها محطّات اعتقادية معرفية وليست محطّات عملية لأجل عمل جوارح الإنسان .

قال تعالى : ( لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ ) ، ليس قصَّة إسحاق ويعقوب ويوسف فقط ، ففي ذيل سورة يوسف ( قَصَصِهِمْ ) ، الضمير يعود إلى كلّ الأنبياء والمرسلين السابقين والمصلحين المبعوثين من قبل السماء لإنقاذ وإنجاء البشرية ، سيّما مثل هذا الإصلاح الذي قام به النبيّ موسى ، وما رافق ذلك من خفاء ولادته وغيبته الأولى والثانية ، وهذا نظير وشبيه ما هو في مدرسة أهل البيت في إمامها الإمام المهدي من خفاء الولادة والغيبة الأولى والغيبة الثانية ، هذا عبرة لكم أنتم أيّها المسلمون ، أنتم أيّها التالون لكتاب الله ، لا تتلوا كتاب الله تلاوة لقلقة لسان من دون أن تتدبّروا معانيه ، ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ) ( القمر : 17 ) ، ( أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها ) ( محمّد : 24 ) .

إذن القرآن مفتوح بابه على مصراعيه للتدبّر وللتذكّر ، فقصص الأنبياء والمرسلين السابقين والأمم السابقة عبرة ، عقدية واعتقادية ، لأنَّ العقيدة كما مرَّ بنا هي واحدة في كلّ بعثات الأنبياء ، والذي يُنسخ إنَّما هو الشرايع في الفروع ، في الأحكام التفصيلية العملية في فروع الدين ، وأمَّا أصل أركان الفروع فضلًا عن الأمور العقدية والاعتقادية فهذه لا نسخ فيها ، وهل يمكن أن يتصوَّر في توحيد الله النسخ بين نبيّ وآخر والعياذ بالله ! ، كلَّا وحاشا ! ، أو في الاعتقاد بالمعاد نسخ ! ، بل ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ) ( آل عمران : 19 ) ، من يوم خلق السماوات والأرض ، دين الإسلام كعقائد بعثت بها جميع الأنبياء منذ آدم إلى سيّد الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم ، فكلّ هذه الأمور الاعتقادية هي عبرة ( لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ) ، إذن ليست هي ثرثرة قصص أو دعابة سمر ليلي يدغدغ الإنسان مشاعر خياله بها ، بل هي في الواقع عِبَر سطّرها القرآن لنتّعظ بها ، وسنن ستقع في هذه الأمّة ، وهذا بنفسه دليل وبرهان عظيم على أنَّ ما وقع في الأمم السابقة سيقع في هذه الأمّة ، كما في روايات عن الفريقين وكما مرَّ سابقاً .

فقصصهم فيها تفاصيل عقدية واعتقادية ، ( وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ، الذين يؤمنون بالسنن الإلهية يؤمنون بهذه المواقع الإلهية وسنن الله تعالى في أوليائه وحججه المصلحين للبشرية ، فعليكم أنتم أيّها الأمّة الأتباع لسيّد الرسل وآخر الأمم أن لا تجهلوا ذلك ، وعليكم التصديق والإيمان بما يجري على حجج الله تعالى والأئمّة الاثني عشر المستخلَفين من قِبَل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنَّ الثاني عشر منهم له غيبتان ، وله خفاء ولادة ، ومن قبل ولادته استدعي وسجن أبوه وجدّه في قاعدة عسكرية تُدعى ( سُرَّ من رأى ) . فمن الطبيعي إذن خفاء ولادته وليس من المنطق التكذيب بها خصوصاً بعد أن بشَّر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم به في متواتر الروايات ، من أنَّ المهدي من ولده يُبعث مصلحاً منجياً منقذاً[10] فمن خلال كلّ ذلك اتَّضح أنَّ ظاهرة نبيّ الله موسى ليست خاصّة به ، بل هي سُنّة إلهية حاصلة أيضاً في أمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، مضافاً إلى ذلك طائفة من الآيات القرآنية التي تنبئنا بذلك ، منها قوله تعالى : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ( الأحزاب : 62 ) .

وقوله تعالى : ( سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) ( غافر : 85 ) .

وقوله تعالى : ( فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ) ( فاطر : 43 ) .

وقوله تعالى : ( سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ) ( الفتح : 23 ) .

فهناك سنن الله في عباده تتكرّر دواليك في الأمم أيضاً ، وليس فيها تبديل ، بل دوام واستمرار .

والتعبير القرآني الآخر : ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) ( الأحزاب : 38 ) .

فهذه محاسبات في التقدير والقدر والقضاء الإلهي ، كما وقعت في الأمم التي خلت ستقع في هذه الأمّة ، فليكن ذلك عِبرةً وعِظةً لكم ، ولا تكونوا من طائفة المكذّبين ، بل كونوا من طائفة المؤمنين ، ولا تكونوا من طائفة الجاهلين ، بل كونوا من طائفة العالمين .

قال تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( النساء : 26 ) .

وقال أيضاً : ( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ) ( آل عمران : 137 ) ، اعتبروا واتّعظوا لتجدوا أجوبة شافية لأسئلتكم ، ولا تكونوا مفترين ومكذّبين ، فهناك سنن إلهية تتكرّر دواليك ، فكلَّما وجدت حالة تفشّي فساد وظلم يؤدّي إلى ما ذكرته الآية الكريمة في سورة القصص : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص : 4 ) .

تأتي حينئذٍ السنن الإلهية : ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) ( القصص : 5 ) ، ونريد هذه إرادة كسُنّة إلهية تتكرّر دوماً وتستمرّ ، كما تذكر لنا ذلك الآيات القرآنية : ( وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا ) ( الإسراء : 76 و 77 ) .

هذه هي الطائفة الأولى الدالّة على أنَّ ما كان في ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام المصلح والمنجي والمنقذ للبشرية هي سُنّة إلهية تتكرّر دواليك ، وليست سُنّة عابرة استثنائية خاصّة بالنبيّ موسى وانقضت ، وهناك طوائف أخرى من الآيات أيضاً تُحدّثنا عن كون هذه السنن الإلهية سنناً متواصلة .

الخوف والترقّب عند موسى عليه السلام :

في ظاهرة النبيّ موسى عليه السلام هناك صفة يكرّرها القرآن الكريم في جملة من السور ، ألا وهي صفة الخوف والترقّب في قوله تعالى : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ( القصص : 18 ) ، وقوله تعالى : ( فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) ( القصص : 21 ) ، وقد مرَّ أنَّ هذا الخوف ليس خوفاً شخصياً ، وإنَّما خوف على أداء الرسالة وأداء البرنامج الإلهي في إنجاء بني إسرائيل من أنظمة الظالمين والمفسدين ، والتعبير ب - ( خائِفاً يَتَرَقَّبُ ) يوحي بأنَّ النبيّ موسى عليه السلام كان دوماً في حالة استنفار وتوجّس وتحسّب أمني منذ بدء نشأته ، إلى أن أدّى ذلك الدور في الظهور المعلن وتقويضه للأنظمة الفرعونية وأنظمة الفساد والظلم يعني حالة التعبئة والاستنفار الأمني في أثناء حركته في الخفاء وفي الغيبة ، وحالة الترقّب هذه هي في الواقع صفة مهمّة موجودة في برامج المصلحين الإلهيين ، فالذين يُعدّون لبرامج إصلاحية إلهيّة عظيمة مؤثّرة في مسير ومصير تاريخ البشر يكون الملف الأمني نُصبَ أعينهم بشكل دائم ، وهذا ما نشاهده في الواقع في العقيدة بالإمام المهدي عليه السلام ، وهو أنَّ غيبته هي نوع من حالة التحسّب الصاعد إلى درجته القصوى في البرنامج الأمني ، لكي تستتمّ له المواصلة في مسير برنامج الوصول إلى درجة الصفر في الإصلاح وهي ساعة الظهور ، فهذه صفة أخرى أكَّدها القرآن الكريم في أوليائه الحجج المصلحين المنقذين ، يجب أن نلتفت إليها ، مضافاً إلى صفة الخوف التي هي هنا بمعنى الحيطة على البرنامج الإلهي المسند إليه والمكلّف به ، وأنَّه في مدّة خفاء ولادة النبيّ موسى وغيبته كانت هناك تعبئة لشيعته المؤمنين به وبالإصلاح على يديه ، حيث قال لهم كما في الآية : ( قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) ( الأعراف : 128 ) ، ممَّا يدلّل على أنَّ شيعة النبيّ موسى لاقوا من الأذى والهوان إلى درجة بلغ بها السيل الزبا ، وقد حدَّثنا القرآن الكريم في سور عديدة أنَّ شيعة النبيّ موسى قبل ظهوره بالإصلاح وانتصاره على أنظمة الظلم وأنظمة الفراعنة ، لاقوا من الظالمين والمفسدين ما لاقوا من الظلم والاضطهاد والذبح ، وإسالة الدماء وقطع وإبادة النسل كما في قوله عز وجل : ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ) ( القصص : 4 ) .

فالمحنة كانت شديدة ، ولها في الواقع وجه شَبَه أيضاً مع المؤمنين بالإمام المهدي عليه السلام ممَّن يكنُّ مودَّته ومشايعته ، فيوطّن نفسه على مثل هذا الامتحان قبل ظهور الحجّة ، وهذه عِظة يقف عندها المؤمن والمسلم القارئ للقرآن الكريم كي يتَّعظ من هذه المشاهد في حجج الله المصلحين ، ويأخذها عِظة وعِبرة ودرساً عقائدياً عقدياً فيما يعتقده بالإمام المهدي عليه السلام ، وإجابة لهذه التساؤلات والإثارات الكثيرة حول العقيدة بالإمام المهدي عليه السلام .

 


[1] من ذلك ما روي عن جابر بن سمرة السوائي ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في حجة الوداع : ( إنَّ هذا الدين لن يزال ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة ) ، قال : ثمّ تكلَّم بشيء لم أفهمه ، فقلت لأبي : ما قال ؟ قال : ( كلّهم من قريش ) ؛ وفي حديث آخر عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في حجة الوداع : ( لا يزال هذا الدين ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر أميراً كلّهم . . . ) ، ثمّ خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، قال : وكان أبي أقرب إلى راحلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منّي ، فقلت : يا أبتاه ما الذي خفي من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : يقول : ( كلّهم من قريش ) . أنظر : مسند أحمد 87 : 5 ؛ صحيح البخاري 127 : 8 ؛ صحيح مسلم 3 : 6 و 4 ؛ سنن أبي داود 309 : 2 ؛ سنن الترمذي 340 : 3 ؛ مستدرك الحاكم 617 : 3 ، رووه بألفاظ مختلفة ومعناها واحد . ومن ذلك ما روي عن عون ابن أبي جحيفة ، عن أبيه ، قال : كنت مع عمّي عند النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ( لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتَّى يمضي اثنا عشر خليفة ) ، ثمّ قال كلمة وخفض بها صوته ، فقلت لعمّي وكان أمامي : ما قال يا عمّ ؟ قال : قال : يا بني ( كلّهم من قريش ) . ( مستدرك الحاكم 618 : 3 ؛ المعجم الكبير 120 : 22 ) .

[2] روي عن عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة ، قال : كنت مع أبي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول : ( بعدي اثنا عشر خليفة ) ، ثمّ أخفى صوته ، فقلت لأبي : ما الذي قال ؟ قال : قال : ( كلّهم من بني هاشم ) . ( ينابيع المودّة 315 : 2 ) .

[3] العمدة : 436 / ح 918 ؛ بحار الأنوار 104 : 51 .

[4] مصباح المتهجّد : 631 / ح ( 709 / 85 ) .

[5] أنظر : كتاب معجم أحاديث الإمام المهدي عليه السلام ، الصادر عن الهيأة العلمية في مؤسسة المعارف الإسلاميّة .

[6] وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لتسلكنَّ طريق من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة ، وحذو النعل بالنعل لا تخطئون طريقهم ) . ( مستدرك الحاكم 469 : 4 ) .

وعن أبي عبد الله عليه السلام ، قال : ( إنَّ سنن الأنبياء عليهم السلام بما وقع بهم من الغيبات حادثة في القائم منّا أهل البيت حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة ) . ( كمال الدين : 345 / باب 33 / ح 31 ) .

[7] من ذلك ما روي أنَّ المتوكّل - وقيل : الواثق - أمر العسكر وهم تسعون ألف فارس من الأتراك الساكنين بسُرَّ من رأى أن يملأ كلّ واحد مخلاة فرسه ( أي : ما يجعل فيه العلف ويعلَّق في عنق الدابة ) من الطين الأحمر ، ويجعلوا بعضه على بعض في وسط برية واسعة هناك ، ففعلوا . فلمَّا صار مثل جبل عظيم صعد فوقه ، واستدعى أبا الحسن عليه السلام واستصعده ، وقال : استحضرك لنظارة خيولي ، وقد كان أمرهم أن يلبسوا التجافيف ( وهو شيء يترك على الفرس يقيه الأذى ، وقد يلبسه الإنسان ) ويحملوا الأسلحة وقد عرضوا بأحسن زينة ، وأتمّ عدّة ، وأعظم هيبة ، وكان غرضه أن يكسر قلب كلّ من يخرج عليه ، وكان خوفه من أبي الحسن عليه السلام أن يأمر أحداً من أهل بيته أن يخرج على الخليفة . فقال له أبو الحسن عليه السلام : ( وهل تريد أن أعرض عليك عسكري ؟ ) ، قال : نعم . فدعا الله سبحانه فإذا بين السماء والأرض من المشرق إلى المغرب ملائكة مدجَّجون ، فغشي على الخليفة ، فلمَّا أفاق قال أبو الحسن عليه السلام : ( نحن لا ننافسكم في الدنيا ، نحن مشتغلون بأمر الآخرة ، فلا عليك شيء ممَّا تظنّ ) . ( الخرائج والجرائح 414 : 1 / باب 11 / ح 19 ) .

[8] في الرواية : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على خديجة وهي لما بها ، فقال لها : بالرغم منّا ما نرى بك يا خديجة ، فإذا قدمت على ضرائرك فاقرئيهنَّ السلام ، فقالت : من هنَّ يا رسول الله ؟ قال : مريم ابنة عمران ، وكلثم أخت موسى ، وآسية امرأة فرعون ، قالت : بالرفاء يا رسول الله ) . ( من لا يحضره الفقيه 139 : 1 / ح 383 ) .

[9] في الرواية عن أحمد بن محمّد بن أبي نصر ، قال : قلت لأبي الحسن عليه السلام : قول شعيب عليه السلام : إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ أيّ الأجلين قضى ؟ قال : ( الوفاء منهما أبعدهما عشر سنين . . . ) ، ( الكافي 414 : 5 / باب التزويج بالإجارة / ح 1 ) .

وعن ابن عبّاس قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قال : ( أوفاهما وأبطأهما ) . وبالإسناد عن أبي ذر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى ؟ فقل : خيرهما وأبرّهما ) . ( تفسير مجمع البيان 432 : 7 ) .

[10] فممَّا جاء عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من ذلك :

ما رواه الصدوق بسنده إلى جابر بن يزيد الجعفي ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المهدي من ولدي اسمه اسمي ، وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً ، يكون له غيبة وحيرة تضلُّ فيها الأمم ، ثمّ يقبل كالشهاب الثاقب ، يملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) . ( كمال الدين : 286 / باب ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من وقوع الغيبة بالقائم عليه السلام / ح 1 ) .

وبسنده إلى أبي بصير ، عن أبي عبد الله ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المهدي من ولدي اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، أشبه الناس بي خَلقاً وخُلقاً ، يكون له غيبة وحيرة حتَّى يظلّ الخلق عن أديانهم ، فعند ذلك يقبل كالشهاب الثاقب ، فيملأها عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) . ( كمال الدين : 287 / باب ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من وقوع الغيبة بالقائم عليه السلام / ح 4 ) .

وبسنده إلى صالح بن عقبة ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المهدي من ولدي ، يكون له غيبة وحيرة تضلُّ فيها الأمم ، يأتي بذخيرة الأنبياء فيملؤها عدلًا وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ) . ( كمال الدين : 287 / باب ما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من وقوع الغيبة بالقائم عليه السلام / ح 5 ) .

وروى الشيخ الطوسي بسنده إلى عبد الله بن مسعود ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تذهب الدنيا حتَّى يلي أمّتي رجل من أهل بيتي يقال له : المهدي ) . ( الغيبة للطوسي : 182 / ح 141 ) .

وبسنده إلى أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله ذلك اليوم حتَّى يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلًا وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً ) . ( الغيبة للطوسي : 180 / ح 139 ) . وروى النعماني بسنده عن الصادق عليه السلام ، عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال لعلي عليه السلام : ( ألا ابشّرك ؟ ألا أحبوك ؟ ) ، قال : ( بلى يا رسول الله ) ، فقال : ( كان عندي جبرئيل آنفاً ، وأخبرني أنَّ القائم الذي يخرج في آخر الزمان فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً من ذرّيتك من ولد الحسين ) . ( الغيبة للنعماني : 255 / باب 14 / ح 1 ) .

أمَّا ما ورد من طريق العامّة فنورد هنا جملة ممَّا رواه القوم ، فمن ذلك :

ما رواه أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي الطفيل ، قال حجاج : سمعت علياً رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم لبعث الله عز وجل رجلًا منّا يملأها عدلًا كما ملئت جوراً ) . ( مسند أحمد 99 : 1 ) .

وما رواه ابن ماجة بسنده إلى أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم ، لطوَّله الله عز وجل حتَّى يملك رجل من أهل بيتي ، يملك جبل الديلم والقسطنطينية ) . ( سنن ابن ماجة 928 : 2 ) .

وما رواه أبو داود بسنده إلى سعيد بن المسيب ، عن امّ سَلَمة ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : ( المهدى من عترتي من ولد فاطمة ) .

وبسنده إلى أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( المهدى منّى أجلى الجبهة ، أقنى الانف ، يملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت جوراً وظلماً ، يملك سبع سنين ) . ( سنن أبي داود 310 : 2 / ح 4284 و 4285 ) .

والأخبار في ذلك من طريق العامّة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومن طريق الخاصّة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كثيرة يضيق عنها المقام ، ومن أراد الاستقصاء فليطلبها من مظانّها .

EN