النبي الأعظم محمد بن عبد الله
أسرة النبي (صلى الله عليه وآله)
آبائه
زوجاته واولاده
الولادة والنشأة
حاله قبل البعثة
حاله بعد البعثة
حاله بعد الهجرة
شهادة النبي وآخر الأيام
التراث النبوي الشريف
معجزاته
قضايا عامة
الإمام علي بن أبي طالب
الولادة والنشأة
مناقب أمير المؤمنين (عليه السّلام)
حياة الامام علي (عليه السّلام) و أحواله
حياته في زمن النبي (صلى الله عليه وآله)
حياته في عهد الخلفاء الثلاثة
بيعته و ماجرى في حكمه
أولاد الامام علي (عليه السلام) و زوجاته
شهادة أمير المؤمنين والأيام الأخيرة
التراث العلوي الشريف
قضايا عامة
السيدة فاطمة الزهراء
الولادة والنشأة
مناقبها
شهادتها والأيام الأخيرة
التراث الفاطمي الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي المجتبى
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن (عليه السّلام)
التراث الحسني الشريف
صلح الامام الحسن (عليه السّلام)
أولاد الامام الحسن (عليه السلام) و زوجاته
شهادة الإمام الحسن والأيام الأخيرة
قضايا عامة
الإمام الحسين بن علي الشهيد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسين (عليه السّلام)
الأحداث ما قبل عاشوراء
استشهاد الإمام الحسين (عليه السّلام) ويوم عاشوراء
الأحداث ما بعد عاشوراء
التراث الحسينيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن الحسين السجّاد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام السجّاد (عليه السّلام)
شهادة الإمام السجّاد (عليه السّلام)
التراث السجّاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الباقر
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الباقر (عليه السلام)
شهادة الامام الباقر (عليه السلام)
التراث الباقريّ الشريف
قضايا عامة
الإمام جعفر بن محمد الصادق
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الصادق (عليه السلام)
شهادة الإمام الصادق (عليه السلام)
التراث الصادقيّ الشريف
قضايا عامة
الإمام موسى بن جعفر الكاظم
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الكاظم (عليه السلام)
شهادة الإمام الكاظم (عليه السلام)
التراث الكاظميّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن موسى الرّضا
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الرضا (عليه السّلام)
موقفه السياسي وولاية العهد
شهادة الإمام الرضا والأيام الأخيرة
التراث الرضوي الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن علي الجواد
الولادة والنشأة
مناقب الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
شهادة الإمام محمد الجواد (عليه السّلام)
التراث الجواديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام علي بن محمد الهادي
الولادة والنشأة
مناقب الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
شهادة الإمام علي الهادي (عليه السّلام)
التراث الهاديّ الشريف
قضايا عامة
الإمام الحسن بن علي العسكري
الولادة والنشأة
مناقب الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)
التراث العسكري الشريف
قضايا عامة
الإمام محمد بن الحسن المهدي
الولادة والنشأة
خصائصه ومناقبه
الغيبة الصغرى
السفراء الاربعة
الغيبة الكبرى
علامات الظهور
تكاليف المؤمنين في الغيبة الكبرى
مشاهدة الإمام المهدي (ع)
الدولة المهدوية
قضايا عامة
وجه الشبه بين الخضر "ع" والإمام المهدي "عج"
المؤلف :
الشيخ محمد السند
المصدر :
الإمام المهدي "عج" والظواهر القرآنية
الجزء والصفحة :
ص123-198
2025-05-20
47
ظاهرة ثالثة يستعرضها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف ، وهي ظاهرة الخضر عليه السلام في مطلع سورة الكهف ، ومطلع كلّ سورة يحدّد المسار في تلك السورة ، كما ذكر ذلك جملة من المحقّقين المفسّرين لاسيّما من الإمامية من مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، إنَّ بدايات سورة الكهف كما في هذه الآية : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف : 6 ) ، قد تضمّن تأثّر واغتمام واهتمام النبيّ الشديد بمصير الرسالة والإيمان بهذا الدين الذي بُعث به ، فمطلع السورة هو المحور الأصلي الذي تدور حوله مقاطع السورة الكريمة سورة الكهف كافّة ، وربَّما يقال : إنَّ سورة الكهف فيها من الأسرار والمعارف ما هو حري بالإمعان والتدبّر الملئ الطويل المديد المستغرق فيها ، فإنَّ مطلع السورة حول مصير الرسالة واهتمام واغتمام النبيّ حول مصير رسالته ، التي وعد الله بأن يظهرها على الدين كلّه ، إلَّا أنَّ النبيّ أشفق على مصير هذا الدين وعلى مصير هذه الرسالة نتيجة وجود المنافقين والمناوئين والأعداء ، ووجود متزلزلي الإيمان وضعاف النفوس ، وقد مرَّ بنا في الحديث عن السنن الإلهية أنَّ العاقبة تكون للمتّقين ، وإلَّا فإنَّ المراحل المتوسّطة دوماً في السنن الإلهية مؤهّلة للظلم وللفساد ، حينئذٍ يكون مصير هذا الدين مع الموعود أيضاً بإظهاره وغلبته على الدين كلّه ، هذا هو المحور الأصلي في هذه السورة ، اهتمام واغتمام النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بمصير الدين .
ضمان بقاء الدين :
أوّلًا : الفطرة :
لكن الباري تعالى يذكر عدّة نماذج لطمأنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حول مصير الدين ، فذكر نموذج أصحاب الكهف ، ثمّ استعرض استخلاف آدم من باب النموذج الأولي في خليفة الله في الأرض ، ثمّ استعرض لقاء النبيّ موسى مع الخضر ، وهذه الصلة الوطيدة الوثيقة بين استخلاف الله تعالى لخليفة في الأرض : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، حيث ذكر هذا في هذه السورة بعد قصّة أصحاب الكهف ، وقصَّتهم تمثّل الهداية الفطرية من الله عز وجل للأمم وللبشرية ، ( كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه )[1]، كما ورد في الحديث الشريف ، فإذن الهداية الفطرية أحد ضمانات بقاء الرسالة ، وهي ما استعرضه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف حول أصحاب الكهف ، وهذا نموذج أوّل يذكره القرآن الكريم لطمأنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم حول مصير الرسالة .
ثانياً : وجود خليفة الله في الأرض :
الضمانة الثانية التي تستعرضها سورة الكهف هي وجود خليفة لله في الأرض وعدم انقطاعه ، بل هو سُنّة دائمة إلهية من بدء خليقة البشر إلى يوم القيامة ، أي ما دام البشر موجوداً على وجه البسيطة ، كما قال تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فلم يكن التعبير القرآني : إنّي جاعل في الأرض رسولًا ، أو إنّي جاعل في الأرض نبيّاً ، أو إنّي جاعل في الأرض آدم خليفة ليخصّص ذلك بخصوص النبيّ آدم ، كلَّا ، إنَّما هي معادلة دائمة ، سُنّة إلهية دائمة دائبة مستمرّة لا تقويض لها ، ومن ثَمَّ يأتي بعد ذلك تساؤل الملائكة : ( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) ( البقرة : 30 ) ، يعني مع وجود الطبيعة البشرية ، تقرن الطبيعة البشرية على وجه الأرض بالخليفة ، خليفته الذي يستخلفه الله للتدبير والقدرة .
فوجود الخليفة في الأرض وسُنّة استخلاف الله ضمانة ثانية لبقاء الدين ، ومن ثَمَّ لم يقل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : لا خليفة بعدي ، وإنَّما قال : ( لا نبيّ بعدي ) ، إنَّما هو انقطاع النبوّة لا انقطاع للخلافة الإلهية ، لأنَّها سُنّة دائمة دائبة مستمرّة إلى يوم القيامة ، بل أكَّد ذلك في الحديث النبوي أنَّ ( الخلفاء من بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش ) ، وفي بعض ألفاظ الحديث : ( من هذا البطن من بني هاشم ) .
ثالثاً : لقاء موسى والخضر عليهما السلام :
ويذكر ضمانة ثالثة لها صلة بوجود الخليفة في الأرض ، وهي لقاء موسى والخضر ، وهنا نستعرض هذه الظاهرة .
( وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً * فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ) ( الكهف : 60 و 61 ) ، فقد ورد في روايات الفريقين في تفسير المفسّرين تبيان وتفسير لهذه الظاهرة ، ( فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً ) ( الكهف : 62 ) ، كان فتاه يوشع وصيّ النبيّ موسى ، ( قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً * قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً * فَوَجَدا عَبْداً ) ( الكهف : 65 63 ) ، هنا بداية اللقاء ، في مطلع هذه الآيات ما يدلُّ على ذلك كما ذكر ذلك في روايات الفريقين والمفسّرون من الفريقين ، أنَّ مجمع البحرين وانسياب الحوت وهو السمك الذي كان غداء للنبيّ موسى ووصيّه يوشع بن نون وهذه الحادثة كانت علامة لموضع لقاء النبيّ موسى عليه السلام بالخضر ، علامة من الله[2].
أنظر هذا التدبير الأمني الخفي ، إنَّ لقاء النبيّ موسى وهو نبيّ من أولي العزم ورسول مع الخضر قد أحيط بتمام السرّية والخفاء والبرمجة الأمنية ، بحيث وضعت شفرة خاصّة بين الله والنبيّ موسى والخضر ، يلقى فيها الخضر من دون أن يعلم حتَّى وصيّ النبيّ موسى وهو فتاه يوشع بن نون الذي كان معه ، أجواء أمنية شديدة السرّية ، هذا جانب من جوانب الغيبة وهو الستار الأمني ، الغيبة التي يطرحها القرآن الكريم في الواقع في أوليائه هي عبارة عن حفاظ وحراسة أمنية لأولياء الله الذين عهد إليهم الأدوار الخاصّة ، إذن هذه الظاهرة الآن نراها مطوية ومشحونة بشفرة أمنية خاصّة ، لاسيّما من لديه مزاولة في علوم الإدارة الأمنية والتدبير الاستراتيجي الأمني ، يلتفتون إلى أنَّ مثل هذه اللقطات كلّها عبارة عن شفرات ومصطلحات رمزية ، إنَّه الوعد الإلهي في لقاء النبيّ موسى والخضر عند مجمع البحرين ، ثمّ لا بدَّ أن تحدث علامة أخرى تنظمّ إلى مجمع البحرين ، وهو انسياب السمك في البحر ، هذه علامة أخرى كما يقال ، أو رؤية النبيّ موسى عليه السلام لرجل مستلقي على قفاه قد تغطّى بردائه ، تشفير أمني لا يستطيع أن يطَّلع عليها الأغيار ، لا يستطيع الاطلاع عليها من لا يُراد إطّلاعه .
إذن الخضر قد أحيط بسياج شديد من الستار ، إنَّ تغييب الله لأوليائه لا يعني أنَّ ذلك كما هو في نهج البشر قد تتخلَّله خروقات أمنية ، بل هو سياج وحفاظ وحراسة إلهية لا يمكن أن تُخترق إلَّا بإيعاز ربّاني من الله عز وجل ، نعم بعد ذلك تواصل الآية الكريمة : ( قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً * فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 64 و 65 ) ، هنا بدء اللقاء بين الخضر والنبيّ موسى ، وهنا يعرّف القرآن الكريم الخضر ، ما هي الهوية الشخصية والبطاقة الشخصية التي يعرّف بها القرآن الكريم الخضر ؟ لم يعبّر عن الخضر بالنبيّ أو بالرسول ، ولم يعبّر عنه بإمام ، ولكن عبَّر عنه بما يقرب من الاصطفاء والحجّية ، ( فَوَجَدا ) أي موسى ويوشع بن نون ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، هي صفة العبودية الكاملة لديه ، وهي صفة الطاعة والطهارة والاصطفاء ، أي نوع من العصمة ، لأنَّه وصف بهذا الوصف وهو من قمم الأوصاف للفرد البشري ، أن يبلغ مرتبة العبودية الكاملة لله ، ومن ثَمَّ كان من أوصاف القممية لسيّد الأنبياء : ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) ( الإسراء : 1 ) ، وهذا مقام عبودية للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لا يبلغه بشر لأنَّه أضيف إلى ضمير ( هو ) الذي يمثّل غيب الغيوب .
وهنا لم تعرّف التحديدات القرآنية البطاقة الشخصية للخضر بأنَّه نبيّ أو رسول ، وإنَّما عرَّفته ب - ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، فهل هذا العبد نظير بقيّة البشر ؟ كلَّا ، وإنَّما ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ، فلديه علم لدنّي ، وهو اصطلاح قرآني ، ليس نبوّة وليس رسالة ، وإنَّما هو حجّية بتزويد ذلك العبد العلم اللدنّي .
ظاهرة الخضر عليه السلام وصلتها بضمان ظهور الدين وبقائه :
قصَّة الخضر التي سطّرها لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لها صلة وثيقة بديمومة هذا الدين في هذه الأمّة ، وفي هذه الحُقب البشرية وفي أرجاء الأرض إلى يوم الظهور الموعود للإمام المهدي عليه السلام ، حيث يُبسط الدين على أرجاء الكرة الأرضية كافّة .
إذن لا بدَّ أن يلتفت القارئ الكريم والمسلم والمؤمن إلى هذه القصَّة حينما يقرأها في سورة الكهف ، إنَّها ذات صلة بالمحور الأصلي في سورة الكهف ، وهو كيفية تأمين انتشار هذا الدين وبقائه إلى اليوم الموعود لظهور دين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على يد أحد ذراريه من ذراري فاطمة وعلي عليهما السلام وهو الإمام المهدي عليه السلام .
إذن ما يكتشف من تركيز القرآن الكريم في ظاهرة الخضر أنَّها ذات صلة وثيقة جدَّاً وخطيرة ومهمّة ، وبالغة الأهمّية يجب أن يتفطَّن إليها قارئ القرآن الكريم ، وهي أنَّ ما يستعرضه القرآن من ظاهرة ثالثة في سورة الكهف ، بل عدّة ظواهر من أصحاب الكهف ومن استخلاف الخليفة وما له صلة بوجود الخليفة في الأرض من كونه مصدر ديمومة وبقاء هذا الدين ، حيث استعرض لنا القرآن في سورة الكهف هنا استخلاف آدم كنموذج أوّل لقافلة خلفاء الله في الأرض ، ممَّا يدلّل على استخلاف الله بعد نبيّه سيّد الأنبياء خلفاء من الله ومن رسوله وهم الذين أنبأ عنهم النبيّ في حديثه المعروف بين الفريقين :
( لا يزال هذا الدين عزيزاً منيعاً ينصرون على من ناواهم إلى اثنى عشر خليفة )[3] ؛ وإنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قد أفاض به وألقاه إلى المسلمين في مواطن عديدة ، فمن الألفاظ التي ورد بها هذا الحديث النبوي الشريف قوله صلى الله عليه وآله وسلم :
( إنَّ هذا الدين لن يزال ظاهراً على من ناواه لا يضرّه مخالف ولا مفارق حتَّى يمضي من أمّتي اثنا عشر خليفة )[4] ، مفاد هذا الحديث النبوي الشريف في الخلفاء الاثني عشر في بعض ألفاظه التي وردت من طرق متطابقة عيناً مع مفاد سورة الكهف ، إذ يقول تعالى : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ، هو حديث الدين ، فوجوب بقاء الدين وحراسته تكون باستخلاف الله عز وجل خليفة له بعد نبيّه في الأرض ، وهم الخلفاء الاثنا عشر كما حدَّثتنا بذلك سورة الكهف قبل استعراضها لظاهرة الخضر .
وكذلك في ظاهرة أصحاب الكهف تجد الهداية الفطرية من الله عز وجل ، هذا النبض الدائم الموجود في الفطرة البشرية ، وحتَّى في الشعوب الغربية والشعوب الآسيوية تجد أنَّ الفطرة تنبض ، فرغم هذا السيل من التثقيف القالِب للحقائق تبقى الفطرة تنبض وترفض وتأبى سياسة أنظمتها الغاشمة ، فهداية الفطرة هذه من ضمانات بقاء الدين والإسلام وهو دين الفطرة ، ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ) ( الروم : 30 ) .
فأوّل ضمانة استعرضتها سورة الكهف هي الهداية الفطرية كما حصلت لأصحاب الكهف .
أمَّا الهداية الثانية أو الضمانة الثانية التي استعرضتها سورة الكهف لبقاء الدين الحنيف هو وجود الخليفة ، ولذلك استعرضت استخلاف آدم قبل استعراضها لظاهرة الخضر ، والتسلسل الذي في سورة الكهف تسلسل إعجازي في الضمانات لبقاء الدين ، فالضمانة الأولى التي ذكرت في سورة الكهف لوجَل النبيّ في بقاء الدين هي حراسته بالهداية الفطرية في نفوس عامّة البشر والتي ألهمها الله عز وجل في كلّ البشر ومنهم أصحاب الكهف ، فإنَّهم لم يُبعث فيهم رسول ولا نبيّ ولا إمام ولا صفي ولا حجّة لله ، ولكن هدايتهم كانت عبر نفس فطرهم ، ( كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ) .
وهنا لا يزال التبيان للدين الإسلامي لاسيّما من مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، والتي هي الرؤيا الواسعة العميقة لدين الإسلام ينافس أي خطاب بشري آخر في التنظير .
رابعاً : ذو القرنين ظاهرة الحكم العلني :
الضمانة الرابعة التي تطرحها هي ظاهرة ذي القرنين ، ظاهرة ذي القرنين هي الوصول إلى منصّة الحكومة في العلن واستتباب القدرة المهيمنة على أرجاء الأرض ، وهو ظهور المهدي ، فهذا رمز في الظاهرة الرابعة ، رمز قرآني ، وبيان قرآني بيّن عن مرحلة الظهور ، إذن سورة الكهف هي طمأنة لهذا الوجل النبوي ، وهذا المحور الأصلي من بقاء الدين ، وقد صرَّح ابن كثير صاحب التفسير عندما وصل إلى تفسير هذه الآية في سورة ( المائدة : 12 ) : ( وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) ، قال بعد أن أورد حديث : ( الخلفاء الاثني عشر ) ، وأقرّ بأنَّه الثاني عشر : ( والظاهر أنَّ منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره ، فذكر أنَّه يواطئ اسمه اسم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم )[5] ، وليس ابن كثير فقط ذكر ذلك ، بل عشرات من علماء أهل السُنّة أقرّوا بأنَّ الثاني عشر من الخلفاء ينطبق على المهدي الموعود عليه السلام .
خلاصة ما سبق :
ونذكر أنَّ بقاء الدين له أربع دعامات :
الدعامة الأولى : هي من أهمّ الدعامات ، وهي الهداية الفطرية ، كما ورد في حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم : ( كلّ مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه ) .
الدعامة الثانية : وجود الخليفة ، وهي الهداية من الخارج ، خارج أفراد البشر كنصب الإمام ، لذلك استعرضت سوره الكهف قصَّة استخلاف آدم كنموذج لخلفاء الله بعد استعراضها لنموذج أصحاب الكهف ، وهذه الدعامة الثانية قد مرَّت كما في الحديث النبوي[6].
الدعامة الثالثة : ظاهرة الخضر ، والتي سنخوض فيها بشكل مفصَّل إن شاء الله والتي عنوانها : رجال الغيب ، أي الرجال الذين هم أولياء لله ضمن مجموعة ومنظومة وشبكة تقوم بأدوار قطبها خليفة الله في الأرض وهو الإمام المهدي عليه السلام ، هذه المجموعة تلتفّ في منظومة حول خليفة الله في الأرض كظاهرة ثالثة تقوم بأدوار وبرامج إلهية تقع في المفاصل المهمّة لمسير البشر من حيث لا يشعر البشر بأدوارهم ، وهذه بيعة الخفاء الذي هم فيه ، هذه الظاهرة الثالثة حالياً سنخوض فيها بشكل مفصَّل .
الدعامة الرابعة : هي مرحلة الظهور لذي القرنين ، وكما ورد في الروايات أنَّه قد مَلَك الأرض[7]، اثنان صالحان واثنان ظالمان ، ظالمان كنمرود وفرعون ، وصالحان كسليمان وذي القرنين ، وهم نماذج لملك التدبير الذي سيولّيه الله عز وجل في العلن للإمام المهدي عليه السلام في الظهور ، فظاهرة ذي القرنين كدعامة رابعة تبيّن نهاية المطاف والذي ذكرت في السورة رابعة الظواهر .
ظاهرة رجال الغيب :
الظاهرة الثالثة التي نتكلَّم فيها حالياً هي وجود مجموعة ومنظومة تقوم بأعمال خفيّة وفي ستار الغيب وتسمّى برجال الغيب ، ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، إذن ليس هو عبد واحد له هذه البطاقة القرآنية الخاصّة في تعريفه ، بل هو من ضمن مجموعة هويّتها القرآنية حسب ما يبيّن القرآن الكريم : ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ) ، إذن لديه رحمة لدنّية من عند الله عز وجل ( وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، هذه المجموعة ليست أدواتها العلمية عبر الأدوات والأسباب الطبيعية في تحصيلها للعلم وفي استخدامها لسلاح العلم كأداة تدبيرية كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : ( العلم سلطان من وجده صال ومن فقده صيل عليه )[8] ، فهذا العلم الذي لديهم ضمن هذه المجموعة كما يحدّثنا القرآن الكريم في هذه السورة في الدعامة الثالثة هو وجود مجموعة لها هذه المواصفات تعيش في ستار الخفاء والسرّية ، ومن ثَمَّ ورد في التعابير الروائية أنَّها قد يعبّر عنها كثير من كتب العلوم الإسلاميّة ب - ( رجال الغيب ) ، وهي ظاهرة مهمّة جدَّاً ولها صلة وثيقة بالإمام المهدي عليه السلام وغيبته . إذ هذه المعادلة ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، كما مرَّ بنا معادلة ذكرها القرآن الكريم في سبع سور ، ومنها سورة الكهف ، استخلاف الله لخليفة ، ليست بنبوّة ، ولا رسالة ، بل تلك مقامات إلهية ومناصب إلهية ولكن ليست دائمة ، بل قُطعت وختمت بسيّد الرسل ( لا نبيّ بعدي ) ، ولكن لم يرد في الحديث النبوي أنَّه لا خليفة بعدي ، بل ورد : ( الخلفاء بعدي اثنى عشر ) ، وهم الخلفاء الذين حدَّثنا القرآن الكريم في قوله الله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، فحينئذٍ هذه المجموعة لها صلة بالخليفة كدعامة ثالثة ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف بعد الدعامة الثانية ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، لماذا لم يقتصر القرآن الكريم في قوله تعالى هنا في هذه الآية : ( فوجدا عبدا آتيناه . . . ) ؟ ولماذا ركَّز القرآن الكريم في بيان أنَّ هذا العبد هو ضمن مجموعة أفراد بشرية وصلوا إلى درجة العبودية والطاعة والتقوى بدرجة فائقة حيث أهّلوا لمثل هذه البرامج والمأموريات الإلهية الخاصّة الخفيّة ، إذن القرآن الكريم يريد أن يركّز في هذه الآية على أنَّ هذا فرد من مجموعة وليس هو فرداً واحداً .
والظريف أنَّ ما سيأتي في إجابات الخضر للنبيّ موسى فيما قد خفي سرّه وغايته وهدفه وعاقبته على النبيّ موسى ممَّا ينبئه الخضر ردَّد التعبير وكرَّره بقوله فيما سيأتي : ( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما ) ( الكهف : 81 ) ، لم يقل : ( فأردت ) ، لو كان يريد بهذه الإرادة إرادة عن نفسه فمن غير المناسب مع الخضر وهو بذلك المقام الذي عرَّفه الله أنَّه آتاه رحمة من عنده وعلَّمه من لدنه علماً أن يتبجَّح بتعظيم وتفخيم نفسه فيقول : ( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما ) ، بل هو يتكلَّم عن إرادة مجموعية ضمن نفس مجموعة هذه المنظومة ، هذه الشبكة الخفيّة التي ينبئنا بها القرآن الكريم ، هذه الظاهرة ظاهرة الخضر مع مجموعته ومنظومته التي تدور حول خليفة الله في الأرض وذكرها القرآن الكريم لطمأنة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ دينه باقٍ بهذه المجموعة ، باقٍ بهذه الشبكة ، التي تدور في حلقات دائرية حول قطبها ، وهو خليفة الله في الأرض ، كما حدَّثتنا بذلك أيضاً سورة الكهف في الدعامة الثانية لبقاء دين النبيّ .
فهنا تقصُّد واضح من ربّ العزّة في هذه العبارة الشريفة من الآية الكريمة : ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ، إذن هي مجموعة ، وأنَّ الخضر هو واحد ضمن مجموعة ومنظومة من رجال الغيب يقومون بأدوار .
هوية رجال الغيب :
والبطاقة والهوية الشخصية لهذه المجموعة ولهذه المنظومة أنَّ لديها علماً لدنّياً تتَّصل مع بعضها البعض وتقوم بالأدوار بالتنسيق فيما بين بعضها البعض بواسطة العلم اللدنّي ، وليس هو علم عبر الآلات وعبر الإنترنت أو عبر الأقمار الصناعية أو عبر ذبذبات الأثير في الهواء التي يمكن التغلّب عليها واختراقها ، وإنَّما عبر العلم اللدنّي ، هذا الذي لا يصل إليه البشر ، وهو الذي يوحّد أدوار هذه المجموعة وهذه المنظومة بحسب نصّ القرآن الكريم ، ومن ثَمَّ تكون هذه في تمام الخفاء والسرّية وممَّا لا يمكن اختراقه أو ما لا يمكن التغلّب عليه . وهذه المجموعة هي حراسة ضمانية لبقاء الدين بأيدٍ بشرية ، هذا الذي نذكره كلّه من إفادات وجواهر روايات أهل البيت عليهم السلام ، فهم الذين نبّهونا وأرشدونا إلى مثل هذه الحقائق العلمية الموجودة في ظهور القرآن الكريم ، وطريقة اللقاء بين النبيّ موسى وهو المستأمن من الله على خلقه وصاحب شريعة ، مع فرد من تلك المجموعة كان عبر تشفير علامة أمنية خاصّة لم يفشها النبيّ موسى حتَّى إلى يوشع بن نون فتاه ووصيّه ، أنظر السرّية ، هكذا يحدّثنا القرآن الكريم ، أنَّ تلك العلامتين وهما : مجمع البحرين ونسيان الحوت لم يكن يدري بها حتَّى فتى موسى ، وكان موسى هو وحده الذي أعلمه الله تعالى بهما ، هذه كلّها مؤدّيات ومفادات يبرزها لنا القرآن الكريم ، ويبيّنها لنا ويلوّح بها . فهذه تعطي بصمات ودلالات على أنَّ هذه المجموعة هي في تمام الخفاء والحراسة الإلهية من جهة التخفّي ومن جهة استتار الخلفاء ، والغيب المقصود هنا هو غيب المعرفة بهم ، غيب الشعور بهم ، وهو بهذا المعنى غائب عن علم البشر ، غائب عن معرفة البشر .
يبيّن لنا القرآن الكريم أنَّ هذه المجموعة تزاول أدواراً مهمّة عصيبة مفصلية في مسار البشر في ظلّ ستار الخفاء . ومن هنا يتَّضح أنَّ قيام أيّ مولى من أولياء الله وحجّة من حجج الله بالمسؤولية الإلهية ودوره في حفظ النظام البشري ليس مشروطاً بأن يكون ظاهراً مشهوراً شخصه ، بل ولو كان خفيّاً مستوراً فإنَّه يتحرَّك بسرّية ويقوم بأدواره بالتنسيق مع هذه المجموعة ، فإنَّ هذا هو نوع من الاضطلاع والأداء للمسؤولية ، هذا هو منطق القرآن ، هذا هو بيان القرآن بعدم التلازم بين قيام الإمام بأدواره وكونه ظاهراً في العلن ، وكونه مشهوراً أو معروفاً . وهناك ظواهر عديدة مرَّت بنا وستمرّ أيضاً تدلُّ على ذلك كما في ظاهرة النبيّ موسى وغيبته . وهذه الدعامة الثالثة لحفظ الدين تابعة وتلحق بالدعامة الثانية وهي أنَّ لله خليفة في الأرض ، إذن هذه المجموعة تدور في تنسيق شبكي مع خليفة الله في الأرض ، كما هو مقتضى سياق السورة بعد أن ذكرت الهداية الفطرية ؛ لأنَّ اللطف من الخارج للإنسان لا ينفع الإنسان ما لم يكن في داخله وفي ذاته فطرة تهديه ، ثمّ تكمّل هذه الفطرة الهداية من الخارج ، فما لم يكن عقل مطبوع ، فلا ينفع العقل المستفاد والمكتسب[9].
إذن علاقة هذه الظاهرة بالإمام المهدي عليه السلام لكونه خليفة لله عز وجل بضرورة جملة من الآيات الكريمة الدالّة على بقاء أهل البيت عليهم السلام كحجّة للبشر ربَّما نستعرض أكثرها لاحقاً وأنَّهم المبيّنون للقرآن الراسخون في العلم : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ( آل عمران : 7 ) ، ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة : 79 77 ) ، وأهل آية التطهير هم أهل البيت عليهم السلام ، يدلُّ على أنَّ هذين عِدْلان ثِقْلان مقترنان مع بعضهما البعض إلى يوم القيامة بنحو ثابت مستمرّ ، ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) .
فهذه المجموعة لها صلة بخليفة الله ، لأنَّ الآية في صدد بيان الضمانات الإلهية لحراسة وبقاء الدين ، وهذا لا يتحقَّق إلَّا بوجود الخليفة وهو الإمام المهدي عليه السلام مع هذه المجموعة المباركة .
وبيان آخر لهذه الصلة وهو الذي مرَّ بنا أيضاً أنَّ هناك حججاً لله وأولياء وأصفياء يقومون بأدوار ، لكن في ظلّ الستار والخفاء ، في ظلّ ستار غيبة الشعور بهم ، فالقرآن الكريم من استعراضه لهذه الظاهرة يريد أن يثبّت منطقاً مهمّاً ، هذا المنطق هو الذي توصَّلت إليه البشرية في القرون الأخيرة ، من أنَّ القيام بأدوار يمكن أن يتمّ في ظلّ الخفاء ، ويتمّ في ظلّ السرّية ، وليس هناك أيّ ضرورة تلازم بين القيام بالأدوار المهمّة المصيرية وبين الانكشاف والظهور في العلن ، بل يمكن أن يقوم الحجّة بهذه الأدوار في الخفاء ، وهذا ينكشف من خلال الصلة بين ظاهرة الخضر ومجموعته ، مع الإمام المهدي وغيبته .
لقاء موسى بالخضر عليهما السلام :
كم هي سطحية وخاوية تلك الإشكالات وذلك التهريج الذي يواجه بها الخصوم مدرسة أهل البيت عليهم السلام والتي مفادها : كيف يكون الإمام مع كونه إماماً معيّناً من الله غائباً أكثر من ألف سنة ؟ وفهمهم للغيبة بمعناها الخاطئ طبعاً ، وهو أنَّه المبتعد عن ساحة التدبير ، المنكفئ عن التصدّي لإدارة الأمن ، في حين أنَّ الغيبة تعني الخفاء ، وأنَّه يقوم بأدوار خفيّة مهمّة في مسير البشر من دون أن يعلم به الآخرون ؟ ومن دون أن يعلم به حتَّى الكثير من النخبة البشرية ، بل هاهنا النبيّ موسى عليه السلام لم يتوصَّل إلى الالتقاء بفرد من هذه المجموعة إلَّا عبر شفرات أمنية نصبها وأخطرها الله وأشار بها إلى موسى كي يصل إلى ذلك الفرد البشري ، يعني أن يصل إلى لقائه ويتعرَّف عليه .
إذن قضيّة الخفاء والغيبة إذا كانت خرافة هلامية وفكرة باطنية وما أشبه ذلك من الكلمات والمهاترات التي يهرّج بها الكثير ممَّن لا يريد أن يتَّبع الحقائق القرآنية ، فماذا يُصنع مع ظاهرة الخضر ومجموعته البشرية ، هل هذه أسطورة هلامية ؟ ( أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ) ( البقرة : 85 ) ، بل يجب الإيمان بجميع الكتاب ، هذا صرح مشيّد قرآني يعلّمنا درساً بأنَّ الحجّة لله والمنصوب والمضطلع بأدوار مهمّة وخطيرة يقوم بتمام تلك الأدوار والحركة والفاعلية والنشاط في ظلّ ستار الخفاء ، ليكون أفسح مجالًا للقيام بتلك الأدوار وأبعد عن أيدي المشاغبين والظالمين والمفسدين ، وقوى الشرّ . وهذا منطق قرآني أصيل ، فعلى هؤلاء أن يراجعوا عقولهم ويراجعوا خلفياتهم الدينية ومحاسباتهم ، ويرجعوا إلى أصولهم الدينية حيالَ منطق القرآن الكريم فضلًا عن المنطق البشري الراهن الذي يعي من السرّية والخفاء أنَّه أسلوب نظام قوّة وزيادة قدرة على إدارة وتدبير للأمور بسلامة عن معاوقة الأعداء والخصوم .
أخي القارئ الكريم بعد هذا نستعرض هذه الآية الكريمة : ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، ففي هذه الآية ملحمة عظيمة ، ويمكن أن نلمس فيها أنَّ نبيّاً من أنبياء الله ورسولًا من رسل الله من أولي العزم الخمسة يطلب اتّباع حجّة لله آخر ، ووليّ لم يعرّفه القرآن الكريم وهو الخضر بالنبوّة أو الرسالة فضلًا عن أن يكون من أولي العزم ، إنَّما عرَّفه القرآن الكريم بأنَّه مصطفىً ، ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا ) مزوّد بالعلم اللدنّي وبلطف من الرحمة الإلهية الخفيّة الخاصّة ، هذا الذي له هذا المقام يريد النبيّ موسى أن يكون له تابعاً ، طبعاً في هذا الجانب ، وإلَّا فهو صاحب شريعة ويكون الخضر تابعاً للنبيّ موسى في شريعته ، ولكن في العلم اللدنّي وعلم الولاية يريد النبيّ موسى أن يتَّبع ويتعلَّم ممَّا قد عُلّم الخضر علماً إلهياً لدنّياً .
هنا محطّة مهمّة يجب أن يلتفت إليها المسلمون ، أنَّ هذه الظاهرة وهذه الملحمة القرآنية ليس لها تفسير في غير مدرسة أهل البيت ؛ وذلك لأنَّ في المدارس الإسلاميّة الأخرى لم تفسّر ولم تبيّن المقامات والمناصب الإلهية إلَّا النبوّة والرسالة ، أمَّا مناصب ومقامات أخرى فلم تذكر في منهاجهم العقائدي ، بينما المنهج العقائدي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام يبيّن أنَّ هناك قنوات ارتباط بين الباري تعالى ، وبين بعض الأفراد المصطفين المطهّرين ، وهو غير وحي النبوّة وغير ارتباط وحي الرسالة ، بل هو ارتباط العلم اللدنّي ، كما في الإمام ، وكما في الحجّة المصطفى الذي ربَّما يكون غير إمام كفاطمة الزهراء ، وكمريم بنت عمران ، حيث تتَّبع سيّدتها فاطمة الزهراء ، لأنَّها كما ورد في نصوص المسلمين المتواترة أنَّها ( سيّدة نساء أهل الجنّة )[10]، ومريم من رعايا الجنّة ، فسيّدة مريم هي فاطمة عليها السلام ، بل وفي نصوص القرآن إشارات على رفعة مقام فاطمة عليها السلام على مقام مريم ، فمريم التابعة لفاطمة عليها السلام مقامها ليس نبوّة ولا رسالة ولا إمامة ولكن مقام حجّية ، ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) ( آل عمران : 42 ) ، هذا المقام لا تجد له تفسيراً في غير مدرسة أهل البيت ، الذي هو نظام عقائد القرآن الكريم بعمق وأصالة .
إذن لا يفتأ القرآن الكريم يبيّن العلم اللدنّي ، وينبّه ويؤكّد أنَّ هناك مجموعة وسلسلة من أفراد البشر ليسوا بأنبياء ولا رسل ولكن حجج مصطفون أئمّة أو غير أئمّة لهم ارتباط مع الغيب ، ولهم ارتباط مع الله بعلم لدنّي يعني من لدن الله تعالى غيبي .
فلماذا يهرّج أولئك الذين يقفون أمام هذه البيّنات الباهرة لمدرسة أهل البيت ، كأنَّما يحصرون الارتباط بالغيب بالنبوّة والرسالة ؟ كلَّا ، فهناك ارتباطات بالغيب أصيلة في منطق القرآن وفي سور كثيرة يبيّنها القرآن الكريم ، وهو ارتباط بالغيب ليس عبر قناة الوحي النبوي أو وحي الرسالة ، وإنَّما هو علم لدنّي ، وإن كان صاحب هذا العلم اللدنّي تابعاً لرسول الله أو تابعاً لصاحب الشريعة ، ولكنَّ ارتباطه بالغيب من خلال العلم اللدّني وراثة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ما هو العلم اللدنّي ؟
الآيات القرآنية تقول : ( عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ، وهذا العلم من الدرجة والمقام بحيث أنَّ نبيّ الله موسى الرسول أراد أن يتَّبعه ، وطبعاً في مدرسة أهل البيت فإنَّ أفضل الخلق على الإطلاق سيّد الرسل محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو إمام الأئمّة ، وهو إمام للأئمّة الاثني عشر وسيّدهم وأفضلهم ، وهم تابعون له ، وقد ورد في روايات المسلمين من الفريقين أنَّ النبيّ عيسى عند نزوله يتبع الإمام المهدي ، وقد أقرَّ بذلك علماء الفِرَق الإسلاميّة أنَّ النبيّ عيسى عندما ينزل يصلّي خلف المهدي ، ويكون تابعاً له وهو نبيّ من أولي العزم ، وربَّما لا يروق ذلك لمن لا يُكنُّ المودّة لأهل البيت ، ويغمطهم فضائلهم ومقاماتهم التي حباها الله إيّاهم ، ويغيضه أيضاً أن يقرأ من هذه الأحاديث التي رواها محدّثو الفريقين أجمع القائلة بأنَّ النبيّ عيسى يصلّي خلف الإمام المهدي ، ويكون تابعاً له .
ولرُبَّ أحد يقول : هذا مضمون لا أقبله ، أو أنَّ هذا مضمون منكر .
فنقول : لكن القرآن الكريم هاهنا قد حدَّثنا بأنَّ النبيّ موسى عليه السلام قد أراد اتّباع الخضر لما للخضر من علم لدنّي ، فهذه سُنّة بيَّنها القرآن وليست سُنّة منكرة ، وأنَّ هذا المضمون له صلة وثيقة ووطيدة بظاهرة الإمام المهدي عليه السلام وغيبته وظهوره ، وهو أنَّه عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام فإنَّ النبيّ عيسى عليه السلام مع أنَّه نبيّ مرسل من أولي العزم يأتمّ به ويصلّي خلفه ، وقد قال بذلك جمهرة من علماء الفريقين[11].
العلم اللدنّي وارتباطه بغيبة أولياء الله :
هذا العلم اللدنّي يؤهّل الخضر ومجموعته من الاطّلاع على الإرادات التفصيلية الإلهيّة ، والتدبيرات التفصيلية الجزئية في كلّ مراحل التطبيق لإصلاح النظام البشري ، ويؤهّلهم للاطلاع على برنامج تلك الإرادات ؛ لأنَّ في الشريعة قوانين عامّة كلّية في أفق التنظير ، وعندما يراد لهذه المنظومة من التشريعات التنفيذ والتطبيق والإجراء لا محال هنا يكون معترك تزاحم ومعترك أولويات ومعترك فحص موضوعي ، فإذا كان بنحو التدبير الإلهي الذي لا يخطئ فحينئذٍ يحتاج إلى التزوّد بالعلم اللدنّي ، ولننظر كيف ينبئنا القرآن الكريم عن تأهيل الخضر ليطّلع على الإرادة الإلهية بتوسّط هذا العلم ، وماذا يعبّر عنه في الآيات الكريمة في ذيل هذه القصَّة ، وهي الظاهرة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم مع النبيّ موسى : ( وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ ) ، هنا يريد الخضر أن يخبر النبيّ موسى عليه السلام بإرادة تفصيلية وليست إرادة تشريعية كلّية عامّة ، إرادة تفصيلية تطبيقية لتشريعات الشريعة ، ( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ( الكهف : 82 ) ، والمجموعة التي معه تمتلك أنشطة وبرامج مفصلية مصيرية للنظام البشري ، ليست من قريحة اقتدار لأنفسهم ، وإنَّما طبق أوامر جزئية تفصيلية تطبيقية إلهية ، فالخضر في أجوبته كما سنقرأها تفصيلًا ، وما جرى بينه وبين النبيّ موسى من أحداث شاهدها النبيّ موسى أمام عينه قد فسَّرها الخضر طبقاً لما هو مشرَّع في شريعة النبيّ موسى ، ومن ثَمَّ قنع وارتبط مع النبيّ موسى ، فالخضر لم يكن في تطبيقه وتنفيذه متخطّياً لشريعة النبيّ موسى ، بل مطبّقاً ومنفّذاً لها ، ولكن هذا التنفيذ أيضاً يحتاج إلى أوامر إلهية ، يحتاج إلى أحكام سياسية إلهية ، إلى أحكام قضائية إلهية ، إلى أحكام تدبيرية إلهية .
هذا هو الفرق بين مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدارس المسلمين الأخرى ، بل بين مدرسة أهل البيت وكلّ الأديان الأخرى من النصارى واليهود أو غيرهم ، حيث إنَّ أغلب الملل والنحل الآن من غير مدرسة أهل البيت تقول بانقطاع الاتّصال بين الأرض والسماء ، وأنَّ الارتباط بين البشر وبين السماء بختم النبوّة والرسالة ، بينما مدرسة أهل البيت هي المدرسة الوحيدة التي تشهد بحقّانية هذا الصرح العقائدي ، القرآن يشهد بأنَّ حاكمية الله تعالى ليست على صعيد التنظير فقط وإرسال الشريعة المباركة المقدَّسة ، بل لله عز وجل أيضاً برامج ومنظومات وأحكام وأوامر لتطبيق تلك الشريعة ، وليس لتشريع جديد ، ففي شريعة النبيّ موسى مثلًا كانت هناك مجموعة أوامر إلهية تصل لأولياء الله الحجج الذين لم يكونوا أنبياء ولا رسلًا ، وذلك من خلال العلم اللدنّي لبسط حاكمية الله السياسية وليست فقط حاكمية الله في التشريع ، ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) ( يوسف : 67 ) ، التوحيد في حاكمية الله ، التوحيد في الحاكم الأوّل هو الله وحده لا شريك له ، وليس في عرضه أحد ، هذه الحاكمية والتوحيد في الحاكمية لله لا تقتصر مدرسة أهل البيت فيها على نظام السلطة التشريعية والتشريع فقط ، بل على نطاق التطبيق أيضاً ، ويعني أنَّ التوحيد في حاكمية الله ليس فقط في التشريع ، بل على مستوى التطبيق أيضاً ، وعلى مستوى الحاكمية السياسية والقضائية والعسكرية والإدارية ، وعلى كلّ نطاق تلك المجالات والحقول والبيئات أيضاً ، فالحاكم الأوّل فيها هو الله وحده لا شريك له ، ليس في عرضه أحد ، هذا اللون من التوحيد لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
حيث تصرُّ هذه المدرسة على أنَّ الارتباط بين الأرض والسماء لن يقطع ، وإن انقطعت النبوّة والرسالة ، إلَّا أنَّ بقيّة ألوان الارتباط بين الأرض والسماء وهي نظير ظاهرة العلم اللدنّي التي تؤمّن تفسير حاكمية الله السياسية ونزول الأوامر السياسية لله ونزول الأوامر القضائية في منعطفات خطيرة في مسيرة النظام البشري ونزول الأوامر العسكرية ونزول الأوامر التنفيذية ليست فقط أوامر تشريعية عامّة ، كلَّا فهناك أوامر تفصيلية له تعالى في كلّ حقبة بشرية وهناك من يقوم بها ، كهذه المجموعة البشرية في حكومتهم الخفيّة ، لأنَّهم يديرون ويدبّرون الأمر في خفاء من اختراقهم للنظم البشرية الأخرى ، ويدبّرون ويديرون كلّ ما يملى عليهم من الله تعالى ، لذلك ترى الخضر عندما وصفه القرآن : ( وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) يعني بهذا الوصف تأهَّل الخضر أن يخبر عن إرادة الربّ التفصيلية التنفيذية في الحاكمية ، حيث قال : ( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا ) ، يخبر النبيّ موسى بأنَّ ما قام به من أدوار ليست اقتداراً منه أو من مجموعته في الشبكة البشرية الخفيّة ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) والمأمورة بأوامر الله تعالى ، بل : ( فَأَرادَ رَبُّكَ ) ، فالإرادة التفصيلية غير الإرادة العامّة الكلّية في التشريع كقانون كلّي عامّ ، فهناك إرادات تفصيلية تتنزَّل تطبيقاً لتلك الإرادات التشريعية العامّة بخصوص الموارد المهمّة ، ( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 82 ) ، ف - ( ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) هو عن أمر الله عز وجل .
إذن هذه السورة تثبت وجود مجموعة أوامر لله تفصيلية تنفيذية تطبيقية لشرائع الأنبياء أولي العزم في كلّ عصر ، وفي عصرنا الحاضر من الذي تتنزَّل عليه أوامر الله التنفيذية التطبيقية كما تنبئنا بذلك سورة الكهف ؟ وعند أيّ مدرسة إسلاميّة تفسَّر هذه الظاهرة ؟ هذه الحقيقة القرآنية بأنَّ هناك تنزُّلًا على أفراد مبشّرين حججاً مزوّدين بالعلم اللدنّي وليسوا بأنبياء ولا رسل تتنزَّل عليهم الأوامر الإلهية لتنفيذ تدبيرات مهمّة ، أوَليس هذا القرآن قرآننا ؟ أوَليس هذا الدين ديننا ؟ أوَلا يجب علينا أن نؤمن بما يقوله القرآن الكريم ؟ أوَليس ظاهرة الخضر ذكرها القرآن الكريم إجابة لما قد حصل من وجل واهتمام من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في مطلع السورة على بقاء الدين ، فكانت هذه إجابة وضمانة وبيان من الله لكيفية بقاء الدين .
فما يُذكر في قصَّة الخضر يتعلَّق بهذا الدين الخاتم ، يتعلَّق بهذه الحقبة البشرية من بعد الرسول إلى يوم القيامة ، فهناك إذن من تتنزَّل عليه الأوامر الإلهية التفصيلية التنفيذية التطبيقية ، ولا يستطيع أحد أن يجيب عن حقيقة هذا الإنسان غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام القائلة ببقاء الاتّصال بالغيب بقناة غير قناة النبوّة وغير قناة الرسالة وغير الوحي النبوي ووحي الرسالة ، لكنَّه علم لدنّي كما يثبته القرآن ليس في هذه السورة فحسب ، بل في سور عديدة أخرى .
فهذه الظاهرة تتَّضح صلتها بالإمام المهدي عليه السلام وغيبته من خلال أنَّ الإمام المهدي عليه السلام هو ذو علم لدنّي ، لأنَّه من هذه الأمّة ، وقد أنبأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم به وأخبر بأنَّ خلفاءه اثنا عشر ، تتنزَّل عليه الأوامر الإلهية والبرامج الإلهية لنظم وإدارة البشر والأخذ بأيديهم من المنزلقات في المنعطفات الحادّة في أيّ بيئة من البيئات سواء الاقتصادية أو التجارية أو الخلقية أو الزراعية أو العقائدية أو الفكرية أو الروحية أو السياسية أو العسكرية ، نعم تتنزَّل عليه أوامر إلهية ليقوم بأداء كلّ تلك الأوامر الحساسة ، ويعضده وينصره ويؤازره مجموعة بشرية حكاها لنا القرآن الكريم ، مجموعة عباد ، والخضر واحد من أولئك العباد موصوفون بأنَّ عندهم رحمة بلطف خاصّ من عند الله عز وجل ولديهم علم لدنّي يخضع ضمن سلسلة مراتب القيادة الإلهية ، فالخليفة هو المركز ، ومَن دونَه يتبعه ويتلوه .
وهذا هو الذي قالت به مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، أي إنَّ الإمامة يجب أن تكون أيضاً منصباً إلهياً على ارتباط بالغيب ، على ارتباط مع السماء ، وإن كانت الإمامة تبعاً للرسالة ، وإن كانت الإمامة تطبيقاً لشريعة النبيّ المرسل الخاتم ، ولكن في التطبيق تحتاج إلى نظارة السماء وحاكمية الله عز وجل .
هذا اللون من التوحيد من اتّساع حاكمية الله ليس على صعيد التشريع فقط ، بل على صعيد التطبيق في مظهر الاعتقاد والإيمان بأنَّ الإمام هو مهبط ومحطّة لهبوط الأوامر الإلهية التفصيلية التنفيذية ، وبتزويده بالعلم اللدنّي يتأهَّل لهبوط ونزول الأوامر التفصيلية ، ما هو إلَّا إشعاع من مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
فما يُهرّج به رخصاء الكلام من أنَّ الشيعة يقولون في أئمّتهم بالنبوّات يريدون أن يتعاموا عمَّا يبيّنه القرآن الكريم عندما ذكر الخضر وشبكته البشرية المزوّدة بالعلم اللدنّي ، فإنَّه لا يقول بأنَّ الخضر بُعث بشريعة تنافس شريعة النبيّ موسى ، أو بشريعة تضاد شريعة النبيّ موسى ، بل على العكس ، الخضر عليه السلام وضَّح بعد ذلك للنبيّ موسى عليه السلام أنَّ كلّ ما قام به هو تطبيق لنفس شريعة النبيّ موسى ، ومن ثَمَّ قنع بذلك ، لذلك تقول الآية : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 78 ) ، بأنَّه تطبيق لنفس الشريعة ، ولكنَّه تطبيق خفي بتدبير من الله ، ولا يمكن أن يكون من تدبير البشر . فإنَّ الشريعة الإلهية يراد لها تطبيق إلهي وليس على مستوى النظرية فقط ، وهذا ما لا يوجد في غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فهذا إذن محور مهمّ تعلّمنا وتربّينا عليه سورة الكهف وظاهرة الخضر هذه الظاهرة المشيّدة .
بعد ذلك تواصل الآيات سردها لظاهرة الخضر : ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، وهنا يبيّن القرآن الكريم أنَّ نبيّاً مرسلًا من أولي العزم يتَّبع من يكون مزوَّداً بالعلم اللدنّي ، فإذن لا يمكن أن يستنكر أحدهم تبعية النبيّ عيسى عليه السلام للإمام المهدي عليه السلام ، فها هو القرآن يبيّن لنا هذا النموذج ، ثمَّ إنَّ هذا الاستنكار مِن ماذا ؟ ألأنَّ المهدي من ذوي القربى من أهل البيت أفلا يكنّ له محبّة وقد عظَّم القرآن من شأنه ؟ ! ، بل هو الخليفة على الخضر ، فإن كان النبيّ موسى قد تبع الخضر مع أنَّ القرآن الكريم لم يصفه بأنَّه خليفة ، بل وصفه بأنَّه حجّة مصطفاة ، وفي ضمن مجموعة بشرية ، ولكن هذه المجموعة البشرية هي تبع للخليفة الذي ذكرته سورة الكهف كضمانة له ، وذكرت الخضر كضمانة ثالثة لبقاء الدين ، فمجموعة الخضر وشبكته تدور في دوائر مرتبطة متّصلة بالمركز ، وهو الخليفة ، فهذه حقيقة عقائدية عقدية قرآنية بيّنة بائنة برهانية لا يستطيع الإنسان المسلم والمؤمن التنصّل منها أو التجاوز عليها .
الكثيرون وربَّما في سطحية من التفكير يتبادر إليهم أنَّ الحكومة التي يديرها ويدبّرها الإمام المهدي عليه السلام يجب أن تكون معلنة مكشوفة الأوراق والأدوات والأجهزة ، بينما القرآن الكريم مذ نزل على النبيّ الخاتم الأمين صلى الله عليه وآله وسلم بيَّن لنا أنَّ السُنّة الإلهية التي هي ليست خاصّة بهذه الأمّة ، بل سُنّة إلهية من زمن النبيّ موسى فضلًا عن هذه الأمّة هي أنَّ هناك مجموعة بشرية ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) تمثّل وتجسّد حكومة إلهية خفيّة في كلّ الأزمان ، وظاهر هذا البيان القرآني أنَّ هذه الحكومة موجودة لدى كلّ الحجج والأنبياء والمرسلين السابقين من لدن آدم إلى نوح إلى إبراهيم[12]، وكذلك في حقبة النبيّ موسى وعيسى وفي عهد خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم فهو إمام الأئمّة وإمام البشر وسيّد الكائنات ، إلى حقبة ما بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم من الأئمّة الخلفاء الاثني عشر من أهل بيته ، إلى هذه الحقبة التي نعيش نحن فيها ، حقبة غيبة وخفاء وتكتّم وسرّية ، فهناك حكومة خفيّة ، ألا ترى أنَّ الله عز وجل أخبر إبراهيم في سورة البقرة فقال : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ، فقال إبراهيم بعد ذلك : ( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ( البقرة : 124 ) ، يعني أنَّ غير الظالمين من ذرّيته ينال ذلك ، وقد وصف القرآن الكريم إسحاق ويعقوب وبقيّة ذوي وذراري إبراهيم بأنَّهم أئمّة : ( وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ) ( الأنبياء : 73 ) ، أو في آية أخرى : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) ( السجدة : 24 ) ، وفي سورة النساء : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، فالقرآن يخبر بأنَّه قد جعل إبراهيم وآل إبراهيم أئمّة : ( وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ، مع أنَّ التاريخ البشري لا يحدّثنا أنَّ النبيّ إبراهيم أو ذرّية من آله رغم كونهم أئمّة من قِبَل الله للناس ، أنَّهم قد أسَّسوا حكومات معلنة أو ملكاً معلناً ، لكن القرآن الكريم هو أصدق القائلين : ( وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا ) ( النساء : 122 ) ، ينبئنا ويخبرنا أنَّه آتى آل إبراهيم ملكاً عظيماً ، فأيُّ ملك هذا ؟
الملك هو الإمامة منهم ، المصطفون منهم ، المجتبون منهم ، ولملكهم بُعد في الملكوت من إطاعة الملائكة لخليفة الله الإمام بنصّ سورة البقرة وغيرها من السور بأنَّ الخليفة مطاع ، فالملائكة كلّهم جند مجنَّدة وأعوان لخليفة الله في الأرض .
ومن صلاحيات ذلك الخليفة الموجود والمستمرّ إلى يوم القيامة كما يعرّف ذلك لنا القرآن الكريم هو السجود له من قِبَل الملائكة : ( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ) ( الإسراء : 61 ) ، وهو هنا كناية عن مطلق الطاعة والخضوع والانقياد والمتابعة ، وفي آية أخرى : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ) ( ص : 73 71 ) ، أنظر التعبير في القرآن الكريم ف - ( أل ) صيغة جمع تعميم ، صيغة استيعاب وشمول ، وكذلك الواو والنون في ( أَجْمَعُونَ ) يدلُّ كذلك على أنَّ القرآن الكريم لم يستثن تجنيد أيّ مَلَكٍ من الملائكة حتَّى الملائكة المقرَّبين عن طاعة وعون خليفة الله في الأرض ، وهذا طبعاً مُلك عظيم ، وصف بالملك العظيم إذا كان كلّ درجات الملائكة وكلّ مقامات الملائكة طوّعت وأخضِعَت وأمرت بالانقياد والمتابعة لخليفة الله في الأرض ، فلا ريب من أنَّ هذا مُلك عظيم يتجاوز مُلك وقدرات البشر ، وحتَّى في سورة الكهف وفي سبع سور قرآنية أنَّ الخليفة من صلاحياته وقدراته وسلطته وسطوته طوعانية وإطاعة جميع الملائكة له كحكومة ملكوتية .
قد يقول القائل : إذا كان الإمام والخليفة عنده هذه القدرة ، فلماذا لا يصلح الأرض في ليلة وضحاها ؟ هذا ما يقوله الكثيرون ممَّن يسترخصون الفكر ويسترخصون الكلام ويحبّون المشاغبة بأيّ إثارة ولو كانت رخيصة أو خاوية ، وهذا السؤال لا يوجّه لقضيّة الإمام المهدي فقط ، بل يوجّه للنبيّ إبراهيم حيث كان إماماً من قبل الله ، فلماذا لم يسحق نمرود بالملائكة ، فيأتي جناح جبرائيل فيجعل سافلها عاليها ؟ وهذا حينئذٍ يكون خلاف البرنامج الإلهي من امتحان البشر ، وخلاف الحكمة الإلهية لامتحان البشر ، فلا تفويض للبشر لجعل زمام أمورهم بيدهم ، ولا جبر ، وإنَّما أمر بين أمرين ، فلو كان قسراً وإلجاءً إلى الله في كلّ الأمور لكان جبراً ، وبذلك تبطل حكمة الامتحان والاختيار ، ولو كان انعزالٌ للإرادة الإلهية في التنفيذ أو انعزالٌ للحاكمية الإلهية في التنفيذ ، لكان نفوذاً للبشر وتفويضاً باطلًا ، فنحن لا نقرأ بطلان التفويض على صعيد الفعل الفردي فقط ، بل نقرأ بطلان نظرية التفويض على صعيد النظام الاجتماعي والنظام السياسي والنظام البشري ، فليس البشر مفوّضين إلى أمرهم أو موكّلين إلى إرادتهم البشرية ، ولا مجبرين بالقسر ، وإنَّما أمر بين أمرين ، إرادة بشرية وإرادة إلهية تمتزجان وبالتالي تكون جادة الامتحان وجادة الاختبار الإلهي والحكمة الإلهية ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) ( الأنفال : 42 ) .
فنظرية الاختيار تتجلّى على صعيد الرؤية الاجتماعية وعلى صعيد النظام الاجتماعي والسياسي ، أي إنَّه لا جبر ولا تفويض في النظرية الاجتماعية والنظرية السياسية ، وهذا يتمثَّل بعقيدة الإمامة الإلهية ، بعقيدة أنَّ هناك خليفة من الله منصوب ، حكومة خفيّة ، وكما مرَّ بنا فإنَّ إبراهيم وآل إبراهيم آتاهم الله ملكاً عظيماً ، توصف هذه القدرة وهذا التدبير بالملك العظيم لأنَّه كما حدَّثنا القرآن الكريم أنَّه يطوّع الله عز وجل للخليفة كلّ ملائكته بلا استثناء حتَّى الملائكة المقرَّبين في حكومته الملكوتية ، نعم الكثير يظنّ في محاسباته الفكرية على أدبيات ربَّما سياسية قديمة أكل الدهر عليها وشرب من أنَّ الحكومة لا يقرّ بوجودها إلَّا إذا كانت معلنة مكشوفة في العلن إلى منصّة الظاهر ومنصّة العلم البشري والمعرفة البشرية ، وهذا طبعاً منهج وفكر خاطئ في الأدبيات السياسية والإدارية والأمنية والنظمية ، فقد بات واضحاً بديهياً في الأدبيات الأكاديمية حتَّى السياسية والعلوم الاجتماعية السياسية أنَّ هناك أشكالًا وألواناً متعدّدة من الحكومات ، فالكثير من قوى النفوذ الحكومية في الدول ليست هي في الحقيقة عبر ما يشاهد من وزارات رسمية معلنة معروفة أو آليات وأدوات عسكرية إدارية رسمية ، بل إنَّ الحكومات الخفيّة هي في الواقع مصدر القدرة النافذ للدول وباتت الآن أمراً واضحاً بديهياً لديهم .
وهذه النظرية والرؤية في العلوم الاجتماعية السياسية وفي معرفة معنى الحكومة وتنوّعها قد بيَّنها القرآن الكريم في الواقع في سور عديدة قبل أربعة عشر قرن وقبل أن يهتدي إليها البشر في القرون الأخيرة ، حيث إنَّ القرآن الكريم كما مرَّ بنا يصف إمامة إبراهيم وآل إبراهيم أنَّها إمامة فعلية للناس ، نصبوا من قبل الله عز وجل ، وهذا منصب إلهي كما مرَّ بنا غير منصب النبوّة والرسالة لا تجد له تفسيراً عقدياً إعتقادياً في غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، فهناك منصب الرسالة ، ومنصب النبوّة ، وهناك منصب الإمامة وهو منصب الخلافة الإلهية ، والإمامة من المناصب التي صرَّح ونادى بها القرآن الكريم : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ، والخلافة اسم آخر لنفس المسمّى وهي الإمامة ، ولم يقل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : لا خليفة بعدي ، بل قال : ( الخلفاء بعدي اثنا عشر ) ، نعم هذه الإمامة وهذه الخلافة وصفها القرآن الكريم بأنَّها ملك عظيم ، ولم يحدّثنا التاريخ البشري كما قلنا بأنَّ إبراهيم استولى على حكومة ظاهرية معلنة معروفة المعالم ، أو رسمية رسمت وعرفت من قبل العرف البشري ، ولكن مع ذلك قام بأدوار تعجز عنها أكبر الحكومات ، ففي عهد وظلّ إمامته نجح في هداية البشرية من عبادة غير الله من الأصنام أو النجوم أو الكواكب إلى الملّة الحنيفة وعبادة الله الواحد الخالق ، إذ أنَّ شعوب الشرق الأوسط اهتدت على يديه ، وهي ما يعادل الآن ثلاثين دولة أو أكثر ، شعوب ثلاثين دولة استطاع النبيّ إبراهيم أن ينشر تعاليم رسالته بما لا تستطيع أن تقوم به دول عظمى في عصرنا الحاضر ، لأنَّ التبديل العقائدي أصعب أنواع التبديل والتغيير ، إذ ربَّما يحدث تغيير سياسي أو تغيير عسكري أو تغيير اقتصادي ، أو تغيير في الأخلاق الاجتماعية ، لكن التغيير العقدي الاعتقادي فهذا لا تستطيع أن تقوم به دول ، ومع ذلك قام به إبراهيم كفرد أو في ضمن مجموعة أو شبكة بشرية خفيّة ، حيث تتشكَّل الحكومة الخفيّة للنبيّ إبراهيم في بُعدها الملكي وفي بُعدها البشري وفي بُعدها من ناحية الأسباب المادية مضافاً إلى الحكومة الملكوتية من طاعة الملائكة عبر برمجة البرنامج الإلهي والأوامر الإلهية ، وهذه الحكومة التي يصفها القرآن بالمُلك العظيم في سورة النساء توجد في هذه الأمّة الإسلاميّة مثلها حيث إنَّ هناك ثلّة قد آتاهم الله منصب الإمامة : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، هذا الملك العظيم الذي يصفه القرآن الكريم لآل إبراهيم يتجسَّد في هذه الأمّة أيضاً من خلال وجود الخلافة ، وهو طاعة الملائكة وغيرهم وتجنيدها بما فيهم المقرَّبون ، وهنا أيضاً تطالعنا ظاهرة الخضر ، فهذه الحكومة مفعّلة من قبل الله عز وجل من لدن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى إلى نبيّنا الأكرم سيّد الرسل وسيّد الكائنات ، ثمّ الخلفاء من بعده التابعين له المنقادين له .
فمن السذاجة أو من الغفلة أن يظنّ الظانّ أو القارئ للقرآن الكريم أو المسلم أو المؤمن أنَّ حكومة المهدي عليه السلام تتشكَّل فقط في عصر الظهور ، بل هي مشكّلة الآن من هذه الشبكة البشرية : ( فَوَجَدا عَبْداً ) ، من مجموعة ( مِنْ عِبادِنا ) ، هنا يعزي لهم القرآن الكريم أدواراً خطيرة في مصير البشرية ، هذه نكتة ونقطة مهمّة وحساسة وهي أنَّ القرآن الكريم ينبئنا في إجابته عن الضمانات لوجل النبيّ في بقاء الدين وانتشاره وظهوره على الدين كلّه ، ليس من عمل المصادفة تحقّق الوعد الإلهي ، وليس من الفجأة ، وليس أيضاً من الإلجاء الإلهي ، فإنَّ سُنّة الله أن تجري الأمور بأسبابها ( لا جبر ولا تفويض ) ، هذا الدور الذي يقوم به الحجّة ليس دوراً فردياً ، وإنَّما هو دور منظومي ومجموعي ، دور في ظلّ حكومة خفيّة وفي ظلّ مجموعة بشريّة وشبكة بشرية منتشرة في أرجاء الأرض ، كما ينبئنا بذلك القرآن الكريم ، حتَّى في أوّل اللقاء بين موسى والخضر في مجمع البحرين ، فهذه الشبكة موجودة في بقاع الأرض وأرجاء الأرض كافّة ، ولكن لم يفصّل لنا القرآن الكريم إلَّا بهذا القدر ، هذا درس وصرح عقائدي يبرزه لنا القرآن الكريم في سورة الكهف لهذه الأمّة لهذه الحقبة الزمنية إلى موعد الظهور والإنجاز الإلهي من إظهار الدين على أرجاء الأرض كافّة .
هناك إذن حكومة حقبة بشرية ، غاية الأمر أنَّ البشر لا بدَّ أن يقوموا بالمسؤولية التي على عاتقهم من النصرة لدين الله والنصرة لإنجاز وعد الله .
دور الإمام المهدي عليه السلام ليس فردياً في الغيبة :
هناك شاهد قرآني عظيم على حقيقة الإمام المهدي عليه السلام ، لأنَّ طول عمر الخضر متسالم عليه باتّفاق كلمة المفسّرين واتّفاق كلمة فِرَق المسلمين ، إلَّا من شذَّ وندر ، وطول العمر هذا مقارن لقيامه واضطلاعه بأعباء المسؤولية التي توكل إليه من ربّ العالمين ، من خلال العلم اللدنّي الذي زوَّده به الله تعالى ، والقرآن لم يحدّثنا كثيراً عن مجموعة الخضر إلَّا أنَّه عرَّفهم بأنَّ عندهم رحمة ولطف خاصّ من الله : ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، فعبودية الخضر ومجموعته تتَّصف بمثل هذا المقام ، وهو مقام العلم اللدنّي ، وفي الواقع فإنَّ هذه الأدوار التي سنخوض فيها شيئاً فشيئاً نرى أنَّها ليست أدوار فعل فردي ، بل أدواراً ترتبط بالفعل النظامي والنظمي والفعل الاجتماعي والظاهرة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وبعبارة أخرى الفعل بالظاهرة النظمية فعل في النظم وفي التدبير ، وفي الإدارة والمس والمسيس بمجمل النظام البشري ، مثلًا في بداية هذه الأنشطة التي يحدّثنا بها القرآن الكريم عن الخضر ومجموعته ، تواصل الآيات : ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، تبيّن الآية هنا الرشد مقابل الغيّ ، وهي هداية مقابل هواية ، إذ لم يعبّر النبيّ موسى بالقول : هل أتبعك على أن تعلّمني ممَّا علّمت شريعة ، أو ممَّا علّمت منهاجاً ، أو ممَّا علّمت من الدين الإلهي وإنَّما : ( مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ، والرشد هو الصواب في تطبيق الشريعة وإقامة الشريعة في النظام الاجتماعي ، وهذا أيضاً تدليل آخر دالٌّ على أنَّ دائرة وحومة وحوزة البرنامج الذي يقوم به الخضر والشبكة البشرية هي في مجال إقامة الشريعة ، وفي مجال إقامة النظام للشريعة وتطبيقها ، ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ ) ، فقال له موسى عليه السلام : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) .
قال الشهيد الثاني قدس سره[13]: ( إنَّ قول موسى عليه السلام : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ، دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب )[14]، ولا ريب أنَّ هذه الآداب آداب إلهية علَّمها الله عز وجل أنبياءه ، ممَّا يدلُّ على خطورة الأمور وواقعية هذه الشبكة والمجموعة البشرية التي تقوم بهذه الأدوار ، بعد ذلك تواصل الآيات : ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) ( الكهف : 67 و 68 ) ، هنا يبيّن الخضر قاعدة معرفية أو ضابطة فيها معارف جمّة يستنير منها الإنسان ، وهي أنَّ طبيعة الإنسان أنَّه لا يصبر على ما لم يحط به علماً دوماً ، باعتبار أنَّ العلم يوسّع أفق الإنسان ويشرح صدره وبالتالي يزيد في صبره ومقاومته وقوّته ، ومن ثَمَّ فإنَّ الذي ييأس من بصيص الأمل تكون حصيلة صبره لا ريب ضعيفة وقليلة ، بخلاف الذي يفتح له الأمل والاحتمال الذي هو عبارة عن اتّساع الأفق ، والنظر إلى ما وراء ، وعدم الاحتجاب بحجاب قاصر ، بل رمي البصر والبصيرة إلى أبعاد وسيعة ، ومن ثَمَّ يعلم ضرورة الاعتقاد والإيمان بالمنجي والمصلح ، وأنَّه لماذا ( أفضل أعمال أمّتي انتظار الفرج من الله عز وجل ) ؟ كما ورد في الحديث النبوي ؛ لأنَّ انتظار الفرج باعث على الحيوية وباعث على الأمل وباعث على عدم الركوع والخنوع والانكسار والسقوط ، بل في الواقع يضخّ في الإرادة الإنسانية أو في إرادة المجتمع الإسلامي مزيد القوّة ومزيد الإرادة ، لأنَّ الأمل يوسّع ويتَّسع ويفتح ويفرج ولذلك سمّي الفرج فرجاً ، لأنَّه يفرج في الواقع من ضيق الأفق إلى آفاق أوسع وأوسع ، ومن ثَمَّ تكون حينئذٍ إرادة المجتمع الإسلامي إرادة قوّية حديدية لا تنكسر أمام الخصوم وأمام ضغوطات الأعداء ، مهما كانت تلك الضغوطات وتلك المخطّطات الهدّامة التي تفت في العضد ، ولكن مع وجود بارقة الأمل تجعل الثبات والصبر وطيداً .
أنقل هنا عبارة لخبير أمني استراتيجي فرنسي يُدعى ( فرانسوا توال ) كتب كتابه ( الجغرافيا السياسية للشيعة ) بعد سقوط الطاغية صدام ونشر في مراكز الدراسات الغربية حيث يذكر فيه أنَّ الاعتقاد بالإمام المهدي يضخّ وينبض بالأمل وبالإرادة وبالثبات وبقوّة الاستقامة وقوّة الشخصية لأتباع أهل البيت ، لأنَّ وجود الأمل يجعلهم لا ينكسرون ولا ييأسون ولا يستيئسون ، بل حينئذٍ يدوم ثباتهم وغايتهم وقوّتهم ، وكذلك ذكر في كتابه أنَّ معنى الغيبة للإمام المهدي عليه السلام يعني فيما يعنيه الخفاء في الحركة والنشاط وحيوية الحركة في أفق واسع متّسع في الغيبة .
فهو باعتباره خبيراً أمنياً فَهِم والتقط الشفرة العقائدية المهمّة في معنى الغيبة ، وأنَّها ليست بمعنى أسطورة وخرافات ، وإنَّما الغيبة تعني خفاء وسرّية الحركة في ظلّ نشاط وأدوار في النظام البشري ، هذا الذي استوحاه من معنى عقيدة الغيبة للإمام المهدي عليه السلام ، بل الملفت للنظر في كلامه أنَّه لا يتعرَّض لغيبة المهدي عليه السلام تحت عنوان أنَّ الشيعة تزعم ذلك ، بل يتعاطى مع غيبته كحقيقة راهنة مفروغ عنها وأنَّها سرّ قوّة التشيّع والشيعة .
كما قال أيضاً حول العقيدة بالعدالة المهدوية : ( هذه العقيدة مرشّحة لأن تعتنقها المجتمعات البشرية أجمع بين ليلة وضحاها ، وبأسرع ممَّا انتشرت فيه الشيوعية ) ، هذا نصّ عبارته ، ومن ثَمَّ يكتب عن هذه الحقيقة فيقول : ( أنا أهيب بالساسة الدوليين والمراقبين الدوليين أن يتعرَّفوا على نظرية وعقيدة العدالة المهدوية ، لأنَّها هي الأطروحة المستقبلية التي لا بدَّ أن يتصدّى في قبالها نظم وأنظمة الغرب ) ، ومن ثَمَّ هو يهيب بالمراقبين الدوليين والساسة العالميين أن يولوا العناية والتفكير بدراسة مثل هذه الأطروحة لأجل التصدّي ، وما شابه ذلك حسبما هو يذكره .
وهناك جملة من الباحثين في علم الاجتماع يذهبون إلى أنَّ الغرب وحتَّى شرق آسيا قد ينعم بنسبة من الحرّية ونسبة من العدالة ، ولكن إلى الآن لم ينعم هؤلاء بالعدالة ، وهم يتطَّلعون إلى العدالة الكاملة ومن ثَمَّ الأطروحة التي تحقّق مثل هذا الأمل ، أو هذه الأنشودة التي تخفق بها قلوب البشر ، سرعان ما تنجذب البشرية إليها بشكل خفّاق وسريع وأخّاذ بمجامع القلوب والعقول .
والحاصل إنَّ أدنى منصف نخبوي يفهم لغة الأمن الاستراتيجي ، ولغة الأدوار النظمية يفسّر معنى الغيبة للإمام المهدي عليه السلام أنَّها عبارة عن هذا المنهاج وهذا التقدير الإلهي الذي هو في الواقع نوع من التوطيد الأكثر دقّةً لقيام الإمام المهدي عليه السلام مع الشبكة التي تحيط به ، وهي ظاهرة الخضر ومجموعته المزوَّدون بالعلم اللدنّي بقيامهم بدور الحكومة الخفيّة .
وهنا يحضرني كلام لوزير الدفاع الأمريكي كتبه في مجلة اسمها ما ترجمته ( الشؤون الخارجية الأمريكية ) في عددها الصادر في ( 2002 م ) لعدد شهر مايو الشهر الخامس والسادس الميلادي ، حيث تحدَّث عن التحوّلات العسكرية في المنطقة وفي العالم ، قال : ( إنَّ التحدّي الذي يواجهنا في القرن الجديد تحدٍّ مختلف ، علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول غير المعلوم غير المرئي وغير المتوقّع ) .
لماذا وصف العدوّ في زعمه أنَّه عدوّ ( مجهول ) علينا الدفاع عن أمّتنا ضدّ المجهول ؟ ، ويا ليته ينتشل أمّته من الفقر ومن الحرمان الذي يفرضه واقع الطبقة الاقطاعية ، لأنَّه كما تحدَّثت منظّمة الأمم المتّحدة قبل سنين في تقرير لها : أنَّ ما يقرب من تسعين بالمائة من ثروات أمريكا هي بحوزة ما يقرب من أربعة بالمائة من الشعب الأمريكي . وبقيّة الشعوب الأمريكية من الطبقات المتوسّطة أو المحرومة المسحوقة ، وهنا يدّعي الدفاع عن أمّته ، والحال أنَّ الإمام المهدي عليه السلام يبعثه الله لإفشاء ونشر العدالة والقسط في الأرض . فذكر أربع صفات : المجهول ، غير المعلوم ، غير المرئي ، غير المتوقّع . هذا يكتبه في مقالة تصدر في مجلة رسمية تصدرها وزارة الخارجية الأمريكية ، بعد ذلك يواصل عبارته :
( ممكن أن يبدو ذلك مهمّة مستحيلة ، لكن هذا هو الحلّ للقيام بها ، علينا أن نضع جانباً الطُرق المريحة للتفكير والتخطيط ، وأن نأخذ المخاطر ونجرّب أشياء جديدة ) ، يقول هو حسب زعمه : ( هكذا يمكننا مواجهة وهزيمة الخصوم الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا ) ، خصوم وصفهم بأنَّهم لم يبرزوا بعد ، ولا يشير هذا الوصف إلى القاعدة فإنَّها إن صحَّ مواجهتها للدول الغربية وما شابه ذلك ، فهي الآن أصبحت معلومة ، وبرزت في ميدان مع الغرب على حسب السيناريو الظاهر المطروح .
فالمقصود بتعبيره : ( الذين لم يبرزوا بعد ليتحدّونا ) ، وتعبيره : ( ضدّ المجهول ، غير المعلوم ، غير المرئي ، غير المتوقّع ) أنَّهم يقرأون من هذه الأدبيات أنَّ غيبة الإمام المهدي عليه السلام هي غيبة خفاء وليست غيبة مزايلة عن ساحة الحدث وابتعاد عن مجريات الأمّة ، بل هو في كبد شؤون الأمّة ، وتحيطه مجموعة من خلالها يقوم بأدوار يعيى ويعجز البشر بالرغم ممَّا أعدّوا من أسلحة عملية وقنوات استخباراتية وآليات ضخّ المعلومات ؛ لأنَّهم لا يستطيعون إلى الآن أن يكتشفوا مثل هذه المجموعة المؤثّرة التي نقرأها في أدبيات المسلمين وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن وأحاديث أهل البيت عليهم السلام حول الإمام المهدي عليه السلام ، وأيّما خبير أمني استراتيجي تعطيه سورة الكهف أو ظاهرة الخضر ليقرأها فإنَّه يستنبط منها أنَّها عملية مجموعة أو منظومة تقوم بأدوار حكومة في الأرض ، أو تقوم بمثل هذه الأدوار في ظلّ خفاء مطبق ؛ لأنَّ أدواتها العلمية ليست عن طريق الأثير ولا عن طريق الأسباب المادية ، بل عن طريق العلم اللدنّي الذي زوّدت به ، وهو رحمة ولطف إلهي خاصّ ، فهو يفوق أفق البشر .
نعم تواصل الآيات في قول الخضر للنبيّ موسى : ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) ( الكهف : 67 و 68 ) ، فالأزمة في البشرية هي المعرفة ، أي إنَّها تجحد ما وراء علمها ، وهذا هو منهج : ( بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ) ( يونس : 39 ) ، وهذه توصية من القرآن أنَّ الإنسان عندما لا يحيط بشيء علماً أو خبراً فلا يجحده ، بل يسعى ويجري إلى الفحص عن حقيقته ؛ فإذا كان شعار الإنسان التصديق بما يحيط به علماً ، والإنكار بما لا يحيط به علماً ، فهذا شعار تفشّي الجهل ، والجهل عدوّ ، لأنَّ قوافل العلم في العلوم المختلفة عند هؤلاء البشر هو اكتشاف المجهول ، ولو لم يكن حرص البشر وأمل النخبة المتخصّصة من البشرية في أيّ علم من العلوم لأجل اكتشاف المجهول والرغبة في كشف الستار عن علم خفي عن حدود إحاطة البشر ، فلو لم تكن لديهم تلك الرغبة ، ولو لم يكن لهم ذلك الأمل لوقفت قوافل العلوم البشرية ، فالنهج العلمي هو عدم إنكار المجهول ، وذلك بالسعي والبحث عنه ، إذ له أعيان وعينية تكوينية في الخارج .
وإنكار ما لا يعلمه الإنسان ليس قاعدة ولا منهجاً علمياً ، وإنَّما هو منهج جهالة ، لاسيّما مع عدم الإحاطة الحسّية بالأشياء ، وقد تكون أمور كثيرة يعلمها الإنسان الآن ، كالكهرباء إذ لا يشاهدها بالحسّ ولكن يعلمها عن طريق استخدامها ، وكثير من الأمور المغيبة عن حسّ الإنسان ، فهل من الصحيح أن يبادر الإنسان بالتكذيب والجحود بها ؟ هذا منهج الجهلاء وطريقة الأميين ، فشعار العلم هو الفحص والتحرّي والتنقيب عمَّا لا يعلمه الإنسان ، لا المبادرة والمسارعة بالإنكار والجحود للذي لا يعلمه ، هذا ما يوصي به الخضر : ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ) ، هذه هي طبيعة الإنسان ، ( وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) ، ما لا يعلمه الإنسان من ضيق أفقها في طبيعتها وإن كان الأنبياء منزّهين طبعاً عن ذلك وإنَّما هي طبيعة الخلقة البشرية ، الأنبياء بما زوّدوا من كمالات لا ينحازون لمثل هذا النقص البشري ، ولكن هذا النقص موجود عند الإنسان عندما لا يحيط بشيء يتأكّده ، ويثقل على كاهله التفتيش والتنقيب والتعلّم عمَّا لا يعلم ، فيبادر بالإنكار والجحود ، كما ورد عن الباقر عليه السلام : ( لو أنَّ العباد إذ جهلوا وقفوا ، لم يجحدوا ولم يكفروا )[15].
هل يمكن ادّعاء شخص أنَّه من رجال الغيب ؟
سؤال : هل يمكن أن يدّعي أحد أنَّه من عناصر الشبكة التي عرفناها في القرآن الكريم من خلال سورة الكهف في قوله تعالى : ( عَبْداً مِنْ عِبادِنا ) ؟
الجواب : لا يمكن أن يدّعي أحد هذا الادّعاء ، وإن ادّعى هذه الدعوى فهذه علامة الكذب والدجل والافتراء ، لأنَّ من خاصّية هذه الشبكة هي السرّية التامّة والخفاء التامّ ، إذ كان لقاء النبيّ موسى مع الخضر محاطاً بهالة من السرّية والتعتيم والتكتّم الإلهي بعلامتين ( مجمع البحرين ) و ( ضياع الحوت ) ضياع السمك الذي لديهم وانسيابه في عمق البحر . علامتان خفيّتان جدَّاً لم يعلم بهما حتَّى صاحب موسى وفتاه ووصيّه يوشع بن نون ، وإنَّما علم بهما النبيّ موسى ممَّا يدلُّ على أنَّ هذه المجموعة يحيطها الله بهالة من الخفاء والسرّية وعدم الانكشاف من أيّ عنصر من عناصر الدليل .
نعم دور الإمام والشبكة الخفيّة التي تحيط به متفاعل مع البشر من دون أن يشعر به كما مرَّ بنا في قصَّة يوسف وفي قصَّة موسى وغيبتهما ، هذان النبيّان حينما كانت لهما أدوار مهمّة مصيرية متفاعلة مع النظام البشري يتعاطون معهم من دون أن يشعر أحد منهم ، فما نقوله بانقطاع الواسطة لا يعني ذلك أنَّ هناك انقطاعاً في التفاعل ، لكن من طرف واحدٍ لا من طرفين ، التفاعل من طرف الإمام المهدي ومجموعته مع البشر ونظامه الاجتماعي السياسي من دون شعور الطرف الآخر به ، فهذه محطّة بالغة الأهمية لكي لا ينفتح باب النصب والاحتيال والدجل والافتراء والكذب . فمن الأدبيات الجليّات في علم الأمن البشري فضلًا عن علم الأمن الإلهي ، إنَّ عناصر الخفاء يجب أن تبقى في الخفاء ، وما إن تظهر إلى منصّة الظهور فهذا هو موتها وزوالها .
فالبروز والظهور والانكشاف والانفضاح والاشتهار منافٍ لأوّليات صرح وجودها وتأسسها من قبل البرنامج الإلهي ، ومن ثَمَّ فإنّض هذه المجموعة كما تحدّثنا الكثير من الروايات الواردة عن بعض حالات أصحاب عناصر هذه المجموعة ما أن يكتشف أحد عناصرها أنَّه من الأبدال وما شابه ذلك تعاجله رصاصة الموت ، ويعاجله الأجل من الله عز وجل ، لأنَّ المقدَّر لهذه المجموعة أن لا تكشف ولا تبدي ولا تبرز عناصرها ، ومن ثَمَّ ما أن يحين انكشاف عنصر من عناصرها وواحد من أفرادها حيث يعرف بالتقى وبالصلاح وبأنَّ له نحو من الأدوار الغيبية يعاجل بمجيء الأجل الإلهي ، ومجئ الأجل نوع من التصفية لوجوده العلني ، كي لا يصبح وجوده مخلًا ومربكاً لدور تلك المجموعة ، وهذا شبيه ما يعتمد الآن في المجموعات الأمنية أنَّه إذا عُرف تورّط عنصر في الدول العصرية مثلًا في جهاز معيَّن أو ما شابه ذلك يصفّى من قبل نفس ذلك الجهاز كي لا يكون نافذاً لتسرّب واختراق العدوّ في ذلك الجهاز ، وإن كانت هذه تصفية تنتهجها أجهزة الظالمين وأجهزة دول الطغيان ، ولكن هذا النهج موجود أيضاً في التقدير والقضاء الإلهي وليس من باب الغشومة والعدوان ، ولكنَّ أصل برنامج ونظام الخفاء الأمني يستدعي مثل هذه الإحاطة وهي عدم بروز العناصر وانكشافها ، وإلَّا لوافاها الأجل ، فإذن ما يرى بين الفينة والأخرى من ظهور مدّعين أو متشدّقين بمثل هذه المقامات في العلن والاشتهار ، فهو في الحقيقة نوع من النصب والدجل والحيلة والافتراء لأجل جذب ضعاف العقول أو قليلي المعلومات أو الأميّين ومن هم على شاكلتهم ، لحرف مسيرة المؤمنين عمَّا هي عليه من الاستقامة ، ولقد بات ضرورياً في مذهب الإماميّة حتَّى عرفته عنهم المذاهب الإسلاميّة كافّة ، أنَّ الإمام المهدي عليه السلام في غيبة وخفاء عن شعورنا به وبوجوده وخفاء إحساسنا به ، لأنَّنا في معرض التفاعل مع أدوارهم من حيث لا نشعر ، وهو يقوم مع المجموعات الإلهية بتلك الأدوار الحساسة الخطيرة من حيث لا نشعر ولا نعرف تلك الأدوار وطبيعتها وآثارها القريبة ، وإن كنّا نشعر بالآثار العامّة التي يقومون بها ، ومن ثَمَّ فقد اتَّفقت مدرسة أهل البيت وأتباعها أنَّ من ادّعى الرؤية فهو كاذب ، والمقصود من الرؤية ليس أصل التشرّف بالإمام المهدي عليه السلام ، وقد بيّنا أنَّه يمكن أن تصبح هناك حالات من التشرّفات ، كما في ظاهرة النبيّ يوسف وغيبته أو حتَّى ظاهرة الخضر ، وإنَّما المقصود هو أن من يدّعي الرؤية لا يدّعي بها إلَّا لأجل غرض احتلال موقعية الوساطة بين الإمام الغائب وبين البشرية ، وهذه الدعوى وإن لم تُدَّعَ صريحاً من قِبَل أصحاب النصب والاحتيال والدجل والفرية ، إلَّا أنَّها ادُّعيَت على مستوى الوصول والالتقاء بالإمام الغائب أو برجال الغيب الذين هم من هذه المجموعة التي يستعرضها لنا القرآن الكريم .
فمثل هذه الدعاوى تغلّف الدعوة الأصلية التي يريد صاحب النصب والاحتيال ادّعاءها ، وهو أنَّه سفير أو نائب خاصّ أو كونه واسطة أو كونه من موالي الإمام الغائب الحجّة مع بقيّة الدوائر البشرية ، وللأسف فإنَّ هذا نوع من الافتراءات والأكاذيب تنطلي على ضعاف العقول وعلى قليلي المعرفة ، وإلَّا فقد بات الأمر ضرورياً كما تؤكّد سورة الكهف لهذه المجموعة أن تكون في الخفاء ، ومن ثَمَّ نشاهد في بدء لقاء النبيّ موسى مع الخضر أنَّ الله وضع لموسى من دون علم وصيّه يوشع بن نون الذي عبَّر عنه في الآية بفتاه علامتين هما : مجمع البحرين ، وانسياب السمكة أو الحوت إلى الماء ، فتلك العلامتان رمزيتان خفيّتان وضعاً ، إذا افترضنا أنَّه سوف يشاهد الخضر من تلك المجموعة ، وحتَّى بعد اللقاء فإنَّ النبيّ موسى يطلب وبالتماس من الخضر أن يواصل لقاءه وبقاءه معه ، ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، يستجيز الخضر ليبقى معه ، فأجابه الخضر : ( قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ) ( الكهف : 67 و 68 ) ، إلَّا أن الفترة كانت وجيزة ، وكان اللقاء متواصلًا بين النبيّ موسى والخضر حتَّى وصل إلى ساعة الافتراق ( قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) ( الكهف : 78 ) .
فنبيّ الله موسى المرسل وهو من أولي العزم لم يدم وصاله واتّصاله بهذه المجموعة ، فكيف بغيره ؟ ! على أنَّ نفس الآيات تعطينا زوايا عديدة وملامح كثيرة على سرّية وخفاء هذه المجموعة وأنَّها لا تتَّصل في المكشوف مع علم البشرية ، وإن كانت تقوم بأدوار في خضم المجموعة البشرية وفي خضم النظم البشرية ، ولكن ليس هناك معرفة بهم وبهويتهم وبحقيقة ما يقومون به من أدوار ، هذه التعبيرات ليست عبطاً وإنَّما هي تعبيرات لها مؤدّيات أمنية إستراتيجية في الخطّة الإلهية لإصلاح البشر ، حيث إنَّ ظاهرة الخضر كما تعرَّضنا لها مراراً استعرضت لأجل طمأنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في بدء سورة الكهف عن وجله حول بقاء الدين وتحقيق الوعد الإلهي بإظهار الدين على الدين كلّه ولو كره المشركون كما في الآية : ( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) ( التوبة : 33 ) ، حيث استعرضت المحور الأصلي في هذه السورة : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف : 6 ) ، حينئذٍ تواصل السورة بيان ضمانات إلهية لطمأنة النبيّ بإبقاء الدين من الحالة الفطرية للبشر كما في مثال أصحاب الكهف والرقيم ، ومنها استخلاف الخليفة وهو الإمام الذي له ملك عظيم يعني ملك التدبير وملك القدرة ، وطاعة كلّ ملائكة الله بكلّ طبقاتهم له ، كما استعرض ذلك القرآن الكريم في سور عديدة ، ومنها إحاطة هذا الخليفة بضمانة ثالثة وهي المجموعة البشرية : ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا ) ( الكهف : 65 ) ، مجموعة عباد مزوَّدين بالعلم اللدنّي ومزوَّدين برحمة ولطف إلهي خاصّ يقومون بهذه الأدوار ، فالسيرة التي شاهدها النبيّ موسى من الخضر هي أدوار مفصلية مصيرية خطيرة عصيبة جدَّاً وحساسة في النظام البشري مشحونة بالجوّ الرمزي وجوّ الخفاء الأمني في التعامل بين النبيّ موسى والخضر في اللحظة الأولى : ( قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) ( الكهف : 70 ) ؛ لأنَّ عملية الأخذ والعطاء الحواري والكلامي تسبّب كشف القناع عن تلك الأوامر والمسؤوليات والأدوار التي أوعزت إلى تلك المجموعة والتي تقتضي الخفاء في كيفية التنفيذ وفي كيفية القيام بها وفي كيفية مواصلتها ، ومن ثَمَّ فالآية الكريمة توحي بالأجواء الأمنية بشكل واضح ، وإنَّ من شرائط صحبة النبيّ موسى للخضر فيما يقوم به من أدوار أن يكون هناك نوع من الصرامة في الإجراء وفي التنفيذ من دون أيّ عائق وأيّ تلجلج وأيّ تلكّؤ . وطبيعة الأدوار الخفيّة سواء أكانت بيئتها اقتصادية أم أمنية أم سياسية أم اجتماعية خيرية محضة تتطلَّب أن تنجز في ظلّ الأجواء السرّية والحكومة الخفيّة ، وطبيعتها تتطلَّب نوعاً من الصرامة والسرعة في الإنجاز والإنفاذ ، ومن دون أيّ معوّق واعتراض وما شابه ذلك ، يعني ليست طبيعة أداء تلك الأدوار أن تأخذ لوناً وطابعاً كما هي أدوار الحكومة في العلن وعلى المكشوف من مداولة الأمور وبترسّل وأخذ ونقاش ومصادقة مجلس نيابة أو ما شابه ذلك من أمور معيّنة ، بل تلك الأمور في حالة الخفاء تتَّخذ جانب السرعة والإنفاذ والبتّ والصرامة وعدم المعوّقات ، فهذه آية أخرى من الآيات في ظاهرة النبيّ موسى مع الخضر عليهما السلام ومجموعته وشبكته البشرية تدلّل على أنَّ الأدوار في أيّ حقل من الحقول التي هي أدوار في الخفاء تمتاز بهذا الطابع وبهذه المعالم .
الأدوار الثلاثة للخضر :
نعم بعد ذلك تواصل الآيات استعراض مثل هذه الأدوار التي يقوم بها الخضر ( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً * قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً * فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) ( الكهف : 78 71 ) ، فطبيعة هذه الأدوار الثلاثة التي هي نموذج لما شاهده النبيّ موسى مع الخضر غير معلومة الوجه ، يعني حتَّى الدور ونفس الفعل الذي يقوم به الخضر ومجموعته هو غير واضح بالنسبة للناظر من بعد أو من قرب ، حيث لا يكون هو في ضمن تلك الشبكة الإلهية والمجموعة الإلهية المسندة لها تلك الأدوار والبرامج ، ويا له من خفاء ، ويا له من غموض في السرّية وتوغّل في الاستتار الشديد ، حتَّى إنَّ أفعالهم وحركاتهم غير معلومة الوجهة وغير معلومة الغاية والحكمة والهدف الظاهر ، تلك الأفعال ربَّما لا يستطيع الناظر حتَّى من قرب أن يترجمها وإن كان نبيّاً من أنبياء الله كموسى الذي هو من أولي العزم ومرسل ، فكيف بغيره ؟
بعد ذلك يقول له الخضر : ( هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ) ، الاعتراض أو التلكّؤ أو التلجلج أو البطء في إنفاذ المأموريات ممَّا لا يتحمَّله مقام ووضعية وبيئة هذه المجموعة التي اعتادت على الإنجاز والحتمية مع صرامة الأمر الإلهي ، فلا يقبل أيّ نوع من البطء والعوائق والتأخّر ، مع أنَّ الخضر من أولياء الله وأصفياء الله ، وأدبه مع النبيّ موسى أيضاً كان أدباً إلهياً عالياً ، كما أنَّ النبيّ موسى كان في تعامله مع الخضر يبدي ذلك الأدب الرائع الإلهي النبوي ، ويتوضَّح أدب الخضر في حديثه مع النبيّ موسى ، قال : ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي ) ، ولم يقل له : اتّبعني ، هذا نوع من الأدب ، حيث جعل الخيار بيد موسى ، ( فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي ) ، لكن هنا أتى نوع من الحسم ؛ لأنَّ طبيعة هذه المجموعة لا تقبل كما مرَّ بنا البطء ولا التراخي ولا التلكّؤ ولا التلجلج ، لأنَّه لا بدَّ من القيام بمسؤولية عالية .
طبيعة الأدوار في ظاهرة الخضر ومجموعته الخفيّة :
وتتجلّى أهمّية هذه الأدوار بما يوضّحه الخضر نفسه بقوله : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ) ( الكهف : 78 و 79 ) ، فخرْقُ السفينة في ظاهره تجاوز وعدوان على ملك أصحاب السفينة ، ولذلك اعترض النبيّ موسى : ( قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها ) ( الكهف : 71 ) ، لأنَّ ذلك في ظاهره أمر مشين ، أو فعل فيه إفساد ، ولكن هذا الفعل بلحاظ عاقبته فيه تمام المصلحة ، وهذا الفعل يمثّل في طبيعته أنَّ هذه المجموعة البشرية لها دور في الوضع الاقتصادي والوضع التجاري والوضع المالي والوضع المعيشي للبشرية ، يعني تقوم بأدوار مهمّة لإنجاء البشرية في وضعها المعاشي والغذائي والاقتصادي والمالي والتجاري عن فساد الاقطاعيين وإفساد الأغنياء الذين يبطرون في غناهم ويمتصّون ثروات الطبقات المحرومة ، فلهم هذا الدور من إيجاد العدالة النسبية المالية في المجتمعات البشرية ، في قبال وإزاء طبقة الإقطاع وطبقة المستشرين في امتصاص ثروات وحقوق الطبقات المحرومة المسحوقة ، فهذا الفعل له هذا الطابع ، ويدلُّ على أنَّه من أدوار هذه المجموعة البشرية وهو إرساء العدالة ولو بدرجة نسبية ، لئلَّا يعمَّ الفساد الاقتصادي والمالي والتجاري والفساد في معاش البشر إلى ذروته ، فهم يقفون حائلًا دون استشراء الفساد المالي ، وإن كانت العدالة المطلقة المالية هي عند ظهور الإمام المهدي عليه السلام ، وهذا مثلٌ ضربه الله في سورة الكهف لطمأنة النبيّ في بقاء الدين ، والنظام الاجتماعي وصلاحه ، وعدالته في بُعده المالي وبُعده المعاشي ، وهذا دور مهمّ ، وهذا النموذج الذي استعرضته لنا الآية الشريفة من ظاهرة فعل النبيّ موسى مع الخضر أو ظاهرة الخضر مع الشبكة الخفيّة البشرية .
الحقل الثاني الذي تنبئنا به ظاهرة الخضر أيضاً وسورة الكهف عن أدوار مجموعة الخضر وشبكته الخفيّة قضيّة الغلام : ( وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنا ) ( الكهف : 80 و 81 ) ، فتعبير ( أردنا ) بدلًا من ( أردت ) يدلُّ على أنَّه ضمن مجموعته ، وتأكيد على أنَّ هذه الأدوار تقوم بها هذه المجموعة والشبكة الخفيّة من أبدال وأوتاد وسيّاح والمعروفين أيضاً في اصطلاح علماء المسلمين برجال الغيب ، ( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ) ( الكهف : 81 ) ، ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام وربَّما أيضاً في روايات مذاهب المسلمين الأخرى وأهل البيت أدرى بما في البيت أنَّ هذا الابن الذي قضى عليه الخضر ( قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) ( الكهف : 74 ) ، لو قدّر بقاؤه لكان يحول دون تولّد سبعين نبيّاً[16] « 1 » .
أنظر ! ضخّ سبعين نبيّاً في المجتمعات البشرية كم هو مؤثّر في صلاح البشرية ! وماذا يُحدث حذفُ هذا الرقم من المصلحين الإلهيين والحجج الإلهيين ، وماذا ينجم عنه من انحطاط البشرية وانحدارها . فهذا الدور الثاني وله طابع آخر .
سؤال :
ربَّما يعنُّ سؤال وهو أنَّه إذا كانوا يحولون دون الفساد والظلم في الأرض ، إذن كيف أنبأتنا الروايات المتواترة عند الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ المهدي عليه السلام بعد طول غيبته وقيامه بالأدوار الخفيّة يظهر بعد ما تملأ الأرض ظلماً وجوراً فيملأها قسطاً وعدلًا ؟ !
فكيف يكون الخليفة وهذه المجموعات من رجال الغيب التي تنبئنا بحقيقتهم وظاهرتهم سورة الكهف يحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور ؟
الجواب :
إنَّ المقصود من هذا الشرط للظهور المذكور في الأحاديث النبويّة شرط بيئي ، وإلَّا فمسؤولية الإصلاح ملقاة على عاتق الجميع ، كلّهم مكلَّفون بالحيلولة دون الفساد والظلم والجور ومجابهته ، والمقصود امتلاؤها ظلماً وجوراً بحيث لا يمكن حتَّى لهذه المجموعة البشرية والشبكة الإلهية أن تقوم بأدوارها من الإصلاح في ظلّ الخفاء مع قطب رحاهم وهو الإمام المهدي عليه السلام ، فإذا كانت بيئة الخفاء لا تفسح المجال ولا تمكّن من الحيلولة دون الفساد في الأرض وسفك الدماء ، يأتي حينئذٍ موعد الظهور ليبرز رجال الغيب وأمامهم الإمام المهدي على منصّة ومسرح الظهور لينفذ حينئذٍ وعد الله عز وجل بنشر القسط والعدل في الأرض ، وإلَّا فدائماً وجود الإمام ووجود الخليفة مع هذه المجموعة التي تحيط به ، هو للحيلولة دون استشراء وامتلاء الأرض بالفساد والظلم والطغيان والجور وسفك الدماء وقطع النسل البشري .
وهذه المجموعة التي تستعرضها لنا سورة الكهف هي الضمانة الثالثة لإبقاء وحماية الدين ، وتحوط خليفة الله في الأرض وتأزره في القيام بأدواره ، وكما مرَّ بنا أنَّ دور الإمام المهدي في الغيبة ليس دوراً ذا طابع فردي ، وإنَّما هو دور ذو طابع نظمي وحكومي في ظلّ حكومة خفيّة وأعوان مسندون يخترقون النظم البشرية ويعيقون سياسات الظلم والإجحاف والإفساد في الأرض ، ويصلحون ما قُدّر لهم وما خطّ وحدّد لهم من قِبَل السياسة الإلهية في أوامر الله عز وجل التي تتنزَّل عليهم في العلم اللدنّي ، ويحولون دون استشراء الفساد والظلم والجور وسفك الدماء .
والملاحظة المهمّة الأخرى في طبيعة هذه المجموعة أنَّها لا تقتصر في سياساتها وأدوارها المحسوبة على أفق قصير المدى ، أو على تداعيات مقطعية ، وكيف وهي سياسات قد أرسيت من قِبَل الله تعالى ، وهي أمور وبرامج قد خُطّط لها من قِبَل خالق البشر ، فلا يقدّر لها أن تكون تداعياتها مقطعية حالية تقتصر على أفق قصير المدى كما هو الحال في النظم البشرية ذات سياسات الخمسين سنة أو العشرين سنة أو العشر سنين استراتيجيات يبنونها ويقدّر لها أن تصيب عقوداً من السنين ، أمَّا في السياسات الإلهية وفي البرامج الإلهية فهناك تدبيرات وسياسات يقدّر لها أن تتجاوز الحدود والآفاق القصيرة ، بل إلى حدود وأمواج تبرز تداعياتها في البحر البشري إلى يوم القيامة ، لو تصوَّرنا هذا الدور كحجر يلقى في ذلك البحر فكيف أنَّ أمواجه تصل إلى نهاية ذلك البحر ونهاية ساحل ذلك البحر ، هكذا يحسب في التخطيط والبرنامج الإلهي الذي يعزى ويوكل لتلك المجموعة البشرية الخفيّة فيما تقوم به من أدوار ، لأنَّ محاسبة أن التنسيل البشري تضخّ فيه سبعين نبيّاً أو لا يضخّ فيه ، هذه محاسبات ليست بالسهلة ، وإلى الآن فإنَّ أفق العلم البشري حتَّى في علم الأحياء وعلم التنسيل البشري وعلم الدين وعلم الوراثة والهندسة الوراثية يريدون أن يتوصّلوا إلى كيفية تخصيب وتحسين النسل البشري ضمن محاسبات حدسية وليست محاسبات قطعية ، ضمن محاسبات إعدادية وليست محاسبات باتّة ، وإلى الآن لم يصلوا ، بينما في السياسة الإلهية والأدوار والبرامج الموكولة والمأمور بها تلك المجموعة قد حسب وحسم فيها مثل هذه المحاسبات .
فهذا الدور الثاني لهذه المجموعة ذو طابعين : طابع في الحقل الاجتماعي والتنسيل البشري ، ومسار صلاح وإصلاح النظام البشري وتنسيله وهدايته ، وهو طابع اجتماعي وعقائدي محض . والطابع الثاني في هذا الدور الثاني الذي يبرز أنَّ محاسبات هذه الأدوار ليست في نطاق سياسات قزمة وقتية مقطعية ، بل هي في سياسات واسعة النطاق ، في سياسات بعيدة المدى ، آثارها ونتاجها يصل إلى آفاق لا يمكن حسبانها في الذهن والعلم البشري الحالي ، وهذا أمر مهمّ ، ممَّا يدلّل على أنَّ خطورة دور هذه المجموعة البشرية حساس وخطير وفي موقع عصيب يقع في مفاصل خطيرة في العمود الفقري للأجيال البشرية ، وليس للجيل الحاضر فقط ، وهذا ما تعجز عنه نظم البشر الحالية ، إلَّا من المحاسبات الحدسية اليسيرة لم تحسم نتائجها ودرجة الإدراك العلمي فيها .
هذا الطابع الثاني في الدور الثاني الذي قام به الخضر أمام مشهد النبيّ موسى كعيّنة يسيرة .
الدور الثالث الذي قام به الخضر ( فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ ) ( الكهف : 77 ) ، هذه الآيات ، هذه المقاطع ، هذه الحالات التي تستعرضها لنا سورة الكهف تركّز في الفكر أنَّ الحكومة الخفيّة لرجال الغيب لا يقومون بالتفرّج فقط على الوضع الراهن وما سيأتي من مستقبل ، بل تجري في محاسبات أدوارهم وبرامجهم وخططهم آثار الماضي وترابطها مع الوضع الراهن ، وارتباطهم مع حلقات المستقبل ، ولربَّما هذا لا نجده في سياسات الدول ، الربط بين تاريخ الماضي وحالات الوضع الراهن وبيئته الفعلية وحلقات المستقبل .
وفي الحقيقة إنَّ هذا الدور الثالث معطوف على الدور الأوّل والدور الثاني من أنَّ السياسات الإلهية التي هي مبرمجة لأدوار هذه الشبكة الخفيّة البشرية تلاحظ وتراعي حلقات الماضي وحلقات الوضع الراهن ، وحلقات المستقبل في ضمن نظم نسيجي إعجازي باهر ، وهذا ما لا تستطيع أن تؤمّنه النظم البشرية في ذلك .
ومن نافلة القول أنَّ العناية التامّة الكاملة ستكون عند الظهور ، عندما يملأها الإمام المهدي مع هذه المجموعات من أعوانه ووزرائه قسطاً وعدلًا ، ولكن قبل ذلك تكون بقدر نسبي كما قال الباري تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) ( البقرة : 30 ) ، يعني إنَّ أبرز شيء في الخليفة أنَّه دارئ للفساد المطبق في الأرض ، هو دارئ وحائل دون سفك الدماء وقطع التنسيل البشري ، لكن الإصلاح التّام ( يملأها قسطاً وعدلًا ) هذا يكون عند ساعة الظهور ، ودولة الظهور ، ومهما يكن فإنَّ الباري تعالى ينبئنا ويحدّثنا أنَّه لا يضيع أجر عامل ، ليس فقط في الجزاء الأخروي ، وليس فقط في ضمن دائرة وسُنّة القضاء والقدر التكويني الإلهي ، بل ضمن النظام الإلهي السياسي والنظام البشري ، ولكن هو جهاز بتأسيس ربّاني وإلهي أعضاؤه وعناصره مزوَّدون بالعلم اللدنّي واللطف الخاصّ ، والباري تعالى يجازي عبر الحكومة التي أسّست من قبله تعالى ، هذه الحكومة التي من الظاهر أنَّها ليست مختصّة بحقبة النبيّ موسى ولا مختصّة أيضاً بحقبتنا نحن الأمّة الإسلاميّة ، باعتبار أنّها ذُكرت نموذجاً كإجابة للوجل حول بقاء الدين الذي استعرض في مطلع سورة الكهف ، إنَّما ذكر هذا أنموذجاً إيجابياً وضمانة ثالثة لبقاء الدين في هذه الأمّة الإسلاميّة ، وفي هذا العصر أيضاً هذه السُنّة الإلهية ليست سُنّة خاصّة بحقبة النبيّ موسى إلى أمّتنا هذه ، بل كانت من عهد آدم إلى يومنا هذا ، لأنَّه كما مرَّ بنا أنَّ الله عز وجل جعل إبراهيم إماماً وجعل من ذرّيته أئمّة كيعقوب وإسحاق ونسل إسماعيل ( آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) ( النساء : 54 ) ، كما تحدّثنا بذلك سورة النساء ، ولكن لم يكن له في الظاهر مُلك مكشوف ، أو ولاية مكشوفة ، ولم يحدّثنا أيّ مصدر تاريخي عن ذلك ، لكن مع ذلك فالنبيّ إبراهيم عليه السلام قد أنجز العجائب ، حوَّل أكثر مجتمعات الشرق الأوسط من عبدة أوثان أو كواكب أو نيران وغيرها إلى الملّة الحنيفية ، فتغيير مجتمعات لاسيّما في عقيدتهم أمر ليس يسيراً كما مرَّ ، فلم يكن عمله عملًا فردياً ، وإنَّما هو عمل ضمن نظام وجهاز إلهي كما تحدّثنا بذلك روايات الفريقين من التقاء النبيّ إبراهيم بالأبدال وشبكة الأوتاد وما شابه ذلك كأعوان ووزراء له ، وكذلك بنوه الذين وصفوا بأنَّهم أئمّة وأوتوا الملك العظيم ، فهو جهاز بشري حكومي مؤسّس من قبل ربّ العالمين يقوم بنظم معيّنة وطبق خطط تتجاوز التخطيط البشري إلى آفاق بوسع حدود علم الله ( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) ( الملك : 14 ) ، علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في السماء ولا في الأرض ولا أكبر من ذلك ولا أصغر ، ( ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ) ( الأنعام : 38 ) ، ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ ) ( يس : 12 ) ، وتداعيات كلّ دور وكلّ حدث وارتباطها بالبيئات المختلفة هذا ممَّا يعجز ويثقل بكاهله حتَّى أكثر التمدّنات البشرية ، ولو فرضناها بعد قرون بمثل هذه الشبكة من المعلومات والعلوم ، وهذا الجهاز الإلهي الذي يحدّثنا القرآن الكريم عنه موجود على قدم وساق باعتباره أنموذجاً ضُرب من عهد النبيّ موسى ، بل ذكرنا بعض الشواهد التي تدلُّ على أنَّه من عهد آدم ، إنَّه أيضاً كان يحول دون الفساد في الأرض ، ولا بدَّ أنَّه لم يكن بعمل فردي ، وإنَّما بالأسباب الطبيعية بنظام إلهي وأدوات وآليات إلهية ، وكذلك في عهد نوح ، وكذلك في عهد إبراهيم وموسى وعيسى ، وكذلك في عهد سيّد الأنبياء وإمام الأئمّة خاتم النبيّين صلى الله عليه وآله وسلم ، وكذلك في عهد الأئمّة الاثني عشر عليهم السلام ، وكذلك في عهد الإمام المهدي وفي ظلّ غيبته غيبة الخفاء والسرّية والتستّر ، فهذا مثل عظيم ضربه لنا القرآن الكريم أنَّ أدوار هذه الحكومة متنوّعة متعدّدة لإرساء العدالة في الحقول المختلفة ، نعم القرآن الكريم ينبئنا بهذا الجهاز البشري المزوّد بالعلم اللدنّي والذي يحوط الخليفة المستخلف من قبل الله كجهاز وأذرع بعد أن ذكر استخلاف الخليفة كسُنّة دائمة أيضاً في سورة الكهف والتي هي مرصودة إلى الإجابة عن كيفية بقاء الدين .
الحسين عليه السلام وأصحاب الكهف :
في الحقيقة أودُّ هنا أن أذكر هذه النكتة التي ترتبط بسيّد الشهداء مع سورة الكهف ، فالمعروف في كتب التاريخ والمقاتل والرواية أنَّ رأس سيّد الشهداء عليه السلام عندما حُوّلت الرؤوس إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وإلى الطاغية يزيد بن معاوية كان يردّد هذه الآية : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) ( الكهف : 9 ) ، بعد تلك الآية : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف : 6 ) ، وربَّما يتساءل المؤمن والمسلم عن الصلة والمناسبة بين استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وترديده لهذه الآية ، ترديد الرأس الشريف كمظهر إعجازي لهذه الآية ، في الحقيقة إنَّ صلة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وقراءته لهذه الآية هي مناسبة تظهر بأدنى تأمّل وتدبّر ، وهو أنَّ القضاء على حياة سيّد الشهداء عليه السلام بالقتل هو إماتة لعمود الدين الذي كان يشيد أركانه سيّد الشهداء ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( حسين منّي وأنا من حسين )[17]، بقاء دين النبيّ من إنجازات سيّد الشهداء عليه السلام ، فما عملته الطغمة الطاغية الأموية من استئصال شجرة النبيّ في أهل بيته لأنَّهم يحسبون أنَّهم يقضون على الدين ، والحال أنَّ الله عز وجل ضرب مثلًا في أصحاب الكهف والرقيم أنَّهم كانوا مستضعفين وكانوا يعيشون في حالة من التقيّة والوجل والخوف ولا يظهرون دين التوحيد أمام ذلك الملك ( دقيانوس ) الذي كانوا يعيشون في وزارته ، وكانوا وزراء له في القصر الملكي ، وكانوا موحّدين ولكن لم يكونوا يجرؤون ليظهروا التوحيد ، فكانوا مستضعفين إلى حدّ ألجأهم الأمر إلى أن يفرّوا من ديوان الملك إلى الصحراء وآووا إلى الكهف بعد أن فُضح أمرهم وكُشف ، وبعد أن ذهب شرّ ( دقيانوس ) واندثرت مملكته واندثر زمانه عاود الله إحياءهم ليثبت الباري تعالى للبشرية : ( وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ) ( الكهف : 21 ) .
فإحياء الله لأصحاب الكهف والرقيم بعد اندثار ( دقيانوس ) وتفشّي التوحيد ليدلّل الله عز وجل على أنَّ العاقبة للمتّقين ، وأنَّ المستضعفين يعودون وارثين للأرض ، ويرجعهم الله للدنيا وهم الذين يكونون آيات حقّ وآيات هدى ، وكذلك الحال في سيّد الشهداء عليه السلام فإنَّه رغم استشهاده عليه السلام وتصفية الطغمة الأموية له إلَّا أنَّهم لم يبيدوا الدين ، بل كما نشاهد الآن أنَّ اسم سيّد الشهداء واسم جدّه المصطفى واسم دين المصطفى لا زال يرفرف خفّاقاً في أرجاء العالم وسينشر في أرجاء العالم على يد ابنه وولده المهدي ، وأين ذكر يزيد ؟ إنَّه في مزبلة التأريخ وأصبح مورد لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، وبقي سيّد الشهداء اسماً خالداً ونبراساً ينير البشرية ضياءً وهدايةً .
فهناك صلة وثيقة بين ما جرى لأصحاب الكهف وما جرى لسيّد الشهداء ، لاسيّما وإنَّنا نؤمن برجعة أئمّة أهل البيت بعد دولة ابنهم الإمام المهدي عليه السلام وأنَّهم سيحكمون في الأرض ، وعقيدة الرجعة عقيدة أصيلة قرآنية لها حديثها الخاصّ ، فهذه صلة واضحة بين سورة الكهف وما جرى لسيّد الشهداء ، سيّما وأنَّ ذكر قصَّة وظاهرة أصحاب الكهف ذكرت في سورة الكهف للدلالة على ضمانة : ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) ( الكهف : 6 ) ، يعني أنَّ المحور الأصلي لسورة الكهف هو بقاء الدين وعدم زوال الدين ، ولاستشهاد سيّد الشهداء صلة وثيقة جدَّاً وطيدة بإبقاء الدين وضمان بقاء الدين .
الضمانات الأخرى التي ذكرها القرآن الكريم في سورة الكهف : استخلاف الخليفة كضمانة ثانية محورية ، والضمانة الثالثة هي هذا الجهاز الخفيّ والشبكة الخفيّة الإلهية التي هي حكومة بشرية مؤسّسة من قبل الله تعالى ، ونظمه مزوَّد بعلوم خاصّة ونظام حاسم وخطط ومخطّطات مرسومة ومهندسة على الضوء العلمي الإلهي الذي لا يحدّده أفق ، ولا يقف في الإحاطة بالأمور بدوائر قصيرة أو مقطعية أو حلقات قصيرة ، بل يحسب فيه حساب التداعيات والحلقات كلّها ، حلقات الماضي والحاضر والمستقبل ، حلقات البيئة المالية والاجتماعية والإصلاحية من الضمان والكفالة الاجتماعية ، نظم تفوق قدرة البشر ، كما ستوافينا بحوث أخرى في الظواهر القرآنية أنَّ هذا النظم الإلهي يعتمد على معلومات وإحصائيات لا تخطئ ، وكمّ هائل بالمعلومات تقصر عنها بحوث الدراسات الاستراتيجية العصرية في الدول الكبرى ولا تجدها في أيّ مركز من مراكز البحوث والاستراتيجيات لصناعة الخطط والسياسات للدول المعاصرة ، فلا يقاس علم الله بعلم المخلوقات ، فإذا كان جهازاً مبنياً نظمه وخططه وسياساته ورموزه على علم الله فكيف ظنّك به ، لا بدَّ حينئذٍ أن يحسب فيه كلّ هذه الحلقات وكلّ هذه التداعيات وكلّ هذا النسيج والتنسيق المترابط فيما بين بعضها البعض ، ومن ثَمَّ أبرز القرآن الكريم عيّنة يسيرة من الفترة اليسيرة التي اصطحب فيها النبيّ موسى للخضر وأعطانا ثلاثة أدوار متنوّعة في حقول وبيئات مختلفة وفي منعطفات بشرية حسّاسة .
حقيقة العلم اللدنّي والشريعة الباطنة :
في ختام هذه الظّاهرة هناك محطّة أخيرة مهمّة جدَّاً يجب أن نتريّث بها ونتدبّرها بعمق ، فالنبيّ موسى صاحب شريعة والخضر صاحب علم لدنّي ، وهنا تأويل قد ورد ربَّما في جملة من كلمات المفسّرين ، أنَّ النبيّ موسى صاحب الشريعة الظاهرة ، وأنَّ الخضر صاحب الشريعة الباطنة .
في الحقيقة وحسب ما يُستفاد من روايات وتعاليم أهل البيت ، وعلومهم وبحسب ما استفدته واستظهرته من تعاليمهم عليهم السلام أنَّ الشريعة هي واحدة ، ليست لدينا شريعة ظاهرة وشريعة باطنة ، لكن الشريعة الكلّية العامّة إذا أريد لها التطبيق الحرفي الدقّي الذي لا يخطئ في الحكم والمصالح التي شُرّعت الشريعة من أجلها ترافقها آليات تطبق بعلم لدنّي يراد لها سياسات في التطبيق تُرسم بالعلم اللدنّي المحيط بالبيئات الموضوعية ، وموضوع البيئات بشكل مستقصى لا يعزب عنه ظاهرة موضوعية ولا بيئيّة ولا تداعياتها ، وطبعاً على علم خاصّ ، فليس يكفي فيه العلم بالوحي وهي الشريعة ووحي النبوّة ، بل احتاج إلى علم التأويل ، خاتم الأنبياء وسيّد الرسل وهو إمام الخلق وإمام الأئمّة فإنَّه في عقيدة مدرسة أهل البيت هو إمام الأئمّة الاثنا عشر ، فإنَّهم عليهم السلام أيضاً لهم إمام وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو أعظم درجةً ومقاماً ، وهم الوارثون لعلومه ، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لديه علم الشريعة وعلم التأويل . وقد ورث أهل بيته منه علم التأويل ، الذي يعبّر عنه القرآن الكريم أيضاً بالعلم اللدنّي ، أنظر هنا في مطلع السورة يحدّثنا القرآن الكريم عن ظاهرة الخضر : ( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، لطف خاصّ وقدرة خاصّة ، فما آثار هذا العلم اللدنّي الذي أراد النبيّ موسى صاحب الوحي النبوي أن يتعلَّم منه ، كما يحدّثنا بذلك القرآن الكريم ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، هذا جُمع بأكمله وبأقاصي درجاته لسيّد الأنبياء وخاتم الرسل ، فقد كان لديه علم التأويل وعلم التنزيل والعلم اللدنّي ، إلَّا أنَّه في ظاهرة النبيّ موسى لا يحدّثنا القرآن الكريم أنَّه لم يكن للنبيّ موسى شيء من علم التأويل ، ولكن كأنَّما الدرجة التي كانت لدى الخضر من علم التأويل والعلم اللدنّي لم تكن لدى النبيّ موسى ، على رغم أنَّه ما كان لديه وحي الشريعة ووحي النبوّة ، والنبيّ موسى عليه السلام كان من أولي العزم وشريعته ناسخة للشرائع التي قبله .
العلم اللدنّي وعلم التأويل عند الإمام المهدي عليه السلام :
إنَّ النبيّ موسى رغم كونه صاحب شريعة ناسخة للشرائع السابقة إلَّا أنَّ هذا الوحي وهذا العلم بالشريعة الوحياني النبوي مغاير للعلم اللدنّي وعلم التأويل ، وقد حار المفسّرون في كيفية تفسير هذه الظاهرة ، حيث إنَّ في مطلعها قول النبيّ موسى عليه السلام للخضر عليه السلام : ( هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ) ( الكهف : 66 ) ، فالعلم اللدنّي يغاير العلم بالشريعة .
وتُستخلص حقيقة عظيمة من هذه السورة ، ويجب أن يفهمها كلّ مسلم ، وهي أنَّ كلّ شريعة لها تأويل في مقام التطبيق والإقامة ، ولا يستطيع أن يطبّقها بحقيقة تأويلها إلَّا حاكم زوّد بالعلم اللدنّي الإلهي . وهذه السورة تبرز لنا ضرورة عقائدية وهي أنَّه كلّ شريعة لا بدَّ لها من حاكم إلهي ، حاكم منصوب من قبل الله ، إمام منصوب من قبل الله تعالى مزوّد بالعلم اللدنّي ، فهو الذي يستطيع أن يطبّق هذه الشريعة بتطبيق لدنّي إلهي لا يخطي الحقائق والصواب قيد شعرة .
أنظر هنا صاحب الشريعة النبيّ موسى كيف قد تفاجأ واستغرب واستنكر تطبيقات يقوم بها الخضر ، وربَّما حسبها أنَّها تتنافى مع ضوابط الشريعة ، لكن بعد أن أوَّل له الخضر : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 78 ) ، زال استنكار النبيّ موسى ، أي إنَّه قد رأى أنَّ كلّ هذه الأدوار قد روعي فيها ضوابط الشريعة الظاهرة ، لكن رعاية هذه الضوابط الشرعية في الشريعة الموسوية بأدوات علم التأويل والعلم اللدنّي وتطبيقه لم يكن في علم البشر ولا قدرتهم الوصول إلى ذلك التطبيق الهائل العظيم لإقامة الشريعة ، إلى أن يقول : ( فَأَرادَ رَبُّكَ ) ، أخبر عن الإرادة الإلهية .
إذن كما أنَّ هناك إرادة في الشريعة عامّة ، فهناك إرادات خاصّة متنزّلة لتطبيق تلك الإرادة العامّة ، متنزّلة لتطبيق الشريعة بتوسّط العلم اللدنّي ، ( فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 82 ) .
وما يدلُّك على أنَّ علم التأويل له كامل الصلة ، وأنَّه ركن الأركان في إقامة الحكم الإلهي وفي إقامة الشريعة ، وبفصيح القول وبعالي الصوت تخاطبنا سورة الكهف : أيّها المسلمون أيّها القرّاء للقرآن الكريم انتبهوا وعوا واستيقظوا فإنَّ الشريعة واحدة في الظاهر والباطن ، وأنَّ لها حاكماً إماماً يعلم بالتأويل بتوسّط علم لدنّي ، لأنَّه هو الذي يستطيع أن يقيم الشريعة بلا اخترام مورد من الموارد ، وبلا إخفاق بيئة من البيئات . هو الذي يستطيع أن يشيّد ويقيم أركان الدين بوصاية ربّانية وبهداية ربّانية ، وإرشاد ربّاني يصيب الأشياء والحقائق ولا يخطئها ، إذ كلّ شريعة لا بدَّ لها من علم تأويل ، وهذا ليس خاصّاً بحقيقة شريعة النبيّ موسى ، كيف وشريعة سيّد الرسل هي من أبلغ الشرائع .
وحينما ننظر في عصرنا الحاضر نتسائل من هو المزوّد بالعلم اللدنّي ؟ وأيّ مدرسة إسلامية اشترطت في الحاكم والإمام أن يكون مزوّداً بعلم لدنّي يغاير مقام النبوّة ويغاير مقام الرسالة ، وهو مقام اصطفائي إلهي كما يحدّثنا القرآن الكريم عن الخضر ، إذ لم يعرّفه بالنبوّة أو بالرسالة كبطاقة شخصية لتعريف هويته ، وإنَّما عرَّفه أن لديه أدواراً حكومية ضمن جهاز يقوم بأنشطة مفصلية لمسار النظام البشري وذلك بتزويدهم بالعلم اللدنّي وعلم التأويل ، فمن هو حينئذٍ الخليفة المزوّد بعلم التأويل ؟ أو أيّ مدرسة من المدارس الإسلاميّة اشترطت أن يكون الإمام الحاكم المنصوب من قبل الله تعالى مزوّداً بعلم لدنّي مرتبطاً بالغيب يؤهّله لأن يطَّلع على إرادات الله وبرامجه التفصيلية لإقامة الشريعة ؟ أيّ مدرسة تلك التي اشترطت ذلك ؟ فإنَّنا لا نجد غير مدرسة أهل البيت عليهم السلام .
الراسخون وعلم التأويل :
ولا نجد القرآن الكريم أيضاً يصرّح بأنَّ من هذه الأمّة من زوّد بعلم لدنّي وهو علم التأويل غير أهل البيت عليهم السلام . فإنَّ سورة الكهف تفصح لنا أنَّ العلم اللدنّي هو علم التأويل ، كما نقرأ في سورة ( آل عمران : 7 ) : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ، البعض من مفسّري المدارس الإسلاميّة الأخرى قالوا : إنَّ ( الواو ) هنا استئنافية وليست عاطفة ، يعني أنَّ الذي يعلم تأويل القرآن هو الله فقط ، أمَّا الراسخون في العلم فلا يعلمون ، وإنَّما الراسخون في العلم ( يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ) ، يعني نؤمن بالمحكم والمتشابه ، وطبعاً ( يَقُولُونَ ) هي صفة أو خبر آخر للراسخين في العلم[18].
لكن الواو هنا هي عاطفة وليست استئنافية ، وذلك لعدّة أدلّة وبراهين وشواهد ، منها : أنَّ سورة الكهف تبيّن أنَّ كلّ شريعة لها علم تأويل يزوّد الله به ثُلّة من أفراد البشرية يستطيعون بذلك أن يقيموا الشريعة كما يريدها الربّ ، ويرضاها بتلك الإقامة وتلك الشاكلة من بناء الصرح ، ونصّ القرآن الكريم هكذا يقول في حال الخضر : ( آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) ( الكهف : 65 ) ، وقول النبيّ موسى : ( قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً * قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً * قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ) ( الكهف : 70 66 ) ، ثمّ قول الخضر أيضاً : ( سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 78 ) ، ويقول أيضاً في نهاية تلك القصَّة والحادثة التي يرويها لنا القرآن الكريم على لسان الخضر : ( وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ) ( الكهف : 82 ) .
إذن الخضر صاحب علم لدنّي وتأويل ، فإذا كان الله عز وجل جعل إقامة كلّ شريعة بحقيقة الإقامة وإنجازها بحقيقة الإنجاز في الوعد الإلهي والحكمة الإلهية والغاية الإلهية هي بتوسّط علم التأويل ، أليس للشريعة الإسلاميّة التي هي أكبر الشرائع أن يكون من هذه الأمّة من يزوّدهم الله بالعلم اللدنّي ، أي علم التأويل ؟ ! فلا بدَّ أن تكون تلك الواو عاطفة في سورة آل عمران .
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام :
العلم اللدنّي وعلم التأويل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام لهما ترجمان ولهما تفسير ولهما موضع في منظومة عقائد أهل البيت عليهم السلام ، فإنَّه علم التدبير نفسه ، وقد بيَّنته سورة الكهف بشكل واضح جدَّاً في ظاهرة الخضر ، وهو أنَّه مرتبط بقيامه بأدوار في النظام الاجتماعي ، أدوار نظمية مرتبطة بالإدارة والتدبير ، أي بالقيادة ، أي بالإمامة ، فسورة الكهف هنا تبيّن وتفصح بشكل طافح لائح غير غامض أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل مرتبط بتدبير نظام البشر ، أي مرتبط بالإمامة وبالخلافة وبالحاكمية ، فهي موقعيّة إلهية ومنصب إلهي تدعى وتسمّى بالخلافة الإلهية ، ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، هذا المقام لا يبتر ولا ينقطع عن هذه السُنّة الإلهية المستمرّة من بدو الخليقة البشرية إلى نهايتها .
فسُنّة الله عز وجل كما يعلّمنا القرآن من حقائق العقائد التي يجب أن نلتزم بها أنَّ الخلافة الإلهية لم ولن تكون منقطعة ، بل مستمرّة ، نعم النبوّة والخلافة والرسالة ختمت بسيّد الأنبياء ، وكان بين كلّ نبوّة ونبوّة وكلّ رسالة ورسالة فترات ، ولكن الخلافة ليس فيها فتور ؛ لأنَّ حلقاتها متَّصلة دائماً من بدء الخليقة ابتداءاً بآدم إلى المهدي الثاني عشر خاتم الأوصياء ، فللنبيّ خلفاء اثنا عشر كما ورد في الحديث النبوي المتواتر بين الفريقين ، وهو مطابق لأصول القرآن والسُنّة القطعية .
سؤال :
وهنا يطرح هذا السؤال وهو : هل هناك وجه اشتراك ووجه اختلاف بين الشبكة الإنسانية الخفيّة في الحكومة الإلهية المزوّدة بالعلم اللدنّي وبين الإمامة والخليفة لله تعالى في أرضه المزوّدة أيضاً بالعلم اللدنّي ؟ الجواب :
في الحقيقة إنَّ بيانات القرآن وبراهينه ونوره وهداه وبصائره الاعتقادية والعقدية جليّة واضحة ، بأنَّ الاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة ، بل الاصطفاء الإلهي جعل الفرد البشري المصطفى والمجتبى من قبل الله تعالى خليفة لله في الأرض وإماماً ، كما في قوله تعالى : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ( البقرة : 30 ) ، وقوله في شأن إبراهيم : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، ومن الواضح أنَّ هذا الجعل يفترق عن التعبير فيما لو ورد : إنّي جاعلك للناس نبيّاً ، أو إنّي جاعلك للناس رسولًا ، فقول الله تعالى كما ورد في شأن إبراهيم : ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) هذا التعبير وهذه النغمة اللفظية النورية القرآنية هي على نفس وتيرة : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) ، فالاصطفاء الإلهي لا ينحصر بالنبوّة والرسالة ، بل يعمّ ، كما أنَّ هناك أنبياءً وليسوا برسل فهناك خلفاء لله وأئمّة وليسوا بأنبياء ولا رسل ، وقد يكون الأئمّة المنصوبون من قبل الله تعالى أيضاً أنبياء ورسلًا ، فتجمع في بعض الأفراد كما في إبراهيم ، فإنَّه نبيّ ورسول وإمام وخليفة لله تعالى في أرضه ، لكن هذه مقامات متعدّدة في الاصطفاء الإلهي ، قد تتفرَّق في أفراد ، وقد تجتمع في فرد ينال أوسمة ومقامات إلهية متعدّدة ، ولكن المهمّ على المسلم في تبرئة ذمّته وما يدين الله عز وجل به لينجو يوم القيامة هو أن يلتفت ويعتقد بما يقرّره له القرآن الكريم في حقائقه وبصائره ، من أنَّ هناك مقاماً يسمّى مقام الإمامة الإلهية ومقام الخلافة الإلهية ، له دور تدبير البشر ويزوّد بالعلم اللدنّي ، وهو يغاير مقام النبوّة والرسالة من حيث المقام ومن حيث الإنسان ، وإن كان قد يجتمع في شخص كما اجتمع في إبراهيم واجتمع كذلك في سيّد الرسل وخاتم الأنبياء بشكل أجلى وأتمّ ، وكذلك هناك مقام رابع يقصّه ويبيّنه لنا القرآن الكريم كما في شأن مريم وفي شأن فاطمة الزهراء ، حيث ورد نصّ القرآن الكريم بتطهير كلّ من فاطمة ومريم : ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب : 33 ) ، وقال تعالى في خصوص مريم : ( إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ) ( آل عمران : 42 ) ، وكانت فاطمة الزهراء عليها السلام من ضمن أهل البيت الخمسة ، كما ورد نظير ذلك أيضاً في مريم عليها السلام وإن كان دون درجة الطهارة في فاطمة ؛ لأنَّ درجة الطهارة التي في فاطمة كانت من نمط ونوعية الطهارة لسيّد الأنبياء ، وإن كانت هي تابعة لسيّد الأنبياء في الفضل ، لكن أشرك الله عز وجل نمط طهارة خاتم الأنبياء مع طهارة فاطمة عليها السلام ، بينما الطهارة التي ذكرها القرآن الكريم في مريم لا تساوي أو تشاكل بينها وبين طهارة سيّد الأنبياء ، ممَّا يعلم بأنَّ طهارة فاطمة عليها السلام هي بدرجة أرقى وأعلى وأعظم شأناً من طهارة مريم ، حيث ورد أيضاً في شأنها أنَّها مصطفاة وأنَّها مطهّرة ، وتسمّى : صفية لله ؛ وهي ليست بنبيّة ولا برسولة ولا بإمام ولا خليفة ، ولكنَّها حجّة من حجج الله ، ويجب على المسلم أن يتدبَّر هذه الحقائق العقائدية في القرآن ويستلهم عقيدته من القرآن الكريم .
وعلى طبق ذلك العلم الإلهي الذي زوّدت به مريم بقناة غيبية خاصّة أمرت مريم ببرنامج إلهي خاصّ : ( فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا * فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ ) ( مريم : 26 و 27 ) ، إلى أن قامت بأداء ما عليها من وظيفة إلهية ، وقد أوحي إليها بذلك ، وليس هذا وحي شريعة ولا نبوّة ولا وحي رسالة ، ولكن وحي حجّية ، وكذلك في امّ موسى ، أمَّا فاطمة الزهراء عليها السلام فهي في درجة الطهارة والاصطفاء أعلى من مريم ، ومن ثَمَّ فإنَّ ما ورد في روايات الفريقين عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبشكل متواتر ، حتَّى في كتاب البخاري وغيره من الكتب الصحيحة عند المدارس الإسلاميّة الأخرى ، أنَّ ( فاطمة سيّد نساء أهل الجنّة ) ، ومن أهل الجنّة مريم ، وامّ موسى ، وامرأة فرعون الصالحة أيضاً التي كانت ذات مقام معيَّن خاصّ ، وفاطمة عليها السلام سيّدة نساء أهل الجنّة أجمع ، لها السؤدد لمكانها ودرجة طهارتها وارتفاعها العلوي الذي تشارك في طهارتها طهارة أبيها خاتم الرسل .
ومن الواضح أنَّ هناك درجات في العلم اللدنّي ، كما في النبوّة والرسالة والأنبياء والرسل ، وكيف أنَّ الله تعالى فضَّل بعضهم على بعض : ( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ . . . ) ( البقرة : 253 ) ، ممَّا يدلّل على أنَّ في كلّ مقام من هذه المقامات الأربعة : النبوّة ، والرسالة ، والإمامة ، والحجّية درجات ومفاضلة ، فمريم حجّة ومصطفاة ، وامّ موسى حجّة ومصطفاة ، وفاطمة عليها السلام مطهّرة وحجّة ومصطفاة اصطفاها الله للطهارة ، ولكن نمط طهارة فاطمة تعلو درجة عن نمط طهارة مريم ، مع كون كلّ من النموذجين أو النماذج هذه هي في مقام الحجّية والاصطفاء ، ولكن فيها درجات .
إذن هناك درجات ومفاضلة ، فالعلم اللدنّي الذي تزوّد به الشبكة الخفيّة والحجج يكون دون العلم اللدنّي الذي عند الخليفة ، وكذلك ورد في الروايات في ذيل ظاهرة الخضر أنَّه بعد ما انتهى وأزف الوقت في الفراق بين النبيّ موسى والخضر ، أتى طائر وهو ملك بصورة طائر وألقى قطرات من البحر جانباً يميناً وشمالًا ، وشرقاً وغرباً ، فأوحى الله إلى النبيّ موسى والخضر أنَّ علمهما كقطرة من علم خاتم الأنبياء وأهل بيته[19]. وهذا طبعاً تشهد له آيات قرآنية أخرى سنتعرَّض لها .
التطبيق الإلهي للشريعة :
في سورة الكهف تبيّن لنا أنَّ كلّ شريعة لا بدَّ أن تقترن بتطبيق إلهي أيضاً ، كما أنَّ جهاز التطبيق وجهاز التنفيذ والجهاز الحاكم والحكومة لا بدَّ أن يكون أيضاً تعيينه وبرامجه وأوامره من الله عز وجل ، وإليك عزيزي القارئ هذا المثال ربَّما نشاهد دولة مركزية ، وحكومة مركزية ، وهناك حكومات محلّية لمحافظات ومقاطعات ، لكن يبقى الدور الرئيسي للحكومة المركزية ، فإذا أردنا أن نقايس بينها وبين الحكومة الإلهية في وجه الأرض الذي أحد أشكالها وأنماطها دائماً هو الحكومة الخفيّة كما تستعرضه لنا سورة الكهف ، هذه الحكومة هي الحكومة المركزية على وجه الأرض ، وبقيّة نظم البشر أشبه ما يمكن أن يقول القائل فيها : إنَّها حكومة محافظات أو مقاطعات ليس بيدها الحلّ والعقد في الأمور المركزية والفصل المركزي ، نعم لها مساحات وصلاحيات محدّدة لا تتجاوزها .
وإليك مثالًا آخراً أيضاً ، ربَّما نشاهد في عصرنا دولًا عظمى ذات نفوذ وهيمنة على دول أخرى ضعيفة ، فالدولة العظمى ذات النفوذ قد تسمح للدول التي تحت هيمنتها وسيطرتها بأن تشكّل مجالس نيابية أو حكومات أو أموراً أخرى ليست خطيرة ، لكن ما أن يصل الأمر إلى قضيّة خطيرة سواء في الجانب الاقتصادي أو العسكري أو السياسي عندها يكون التدخّل والإملاء من تلك الدولة العظمى على تلك الدول الصغيرة ، أي إنَّ المسار الأصلي الذي حدّد في المنعطفات المهمّة ينطلق من الدول العظمى على الدول الصغيرة ، أمَّا التفاصيل ذات الشأن غير الاستراتيجي بالنسبة للدول العظمى ، توكله إلى الدول المتوسّطة أو الدول الصغيرة أو الدول الضعيفة حتَّى يخيّل أنَّ فيها ديمقراطية وفيها حرّية نسبية أو سطحية ، وأمَّا اللبّ والجوهر فهو بيد الدول الغنية التي يُصطلح عليها بالدول العظمى ذات النفوذ ، والمسار الأصلي يبقى بيدها بالضغط وبالترغيب وبالترهيب ، ونحن دائماً نشاهد في ظلّ الأنظمة البشرية هناك مساحات في النفوذ ومساحات في الحكم ، دوائر في القدرة لا تتقاطع ، بل هي كما يقال دوائر مركزية ، وفيها دوائر فرعية جانبية . والحكومة الإلهية لخليفة الله في الأرض مع أنظمة البشر نستطيع أن نمثّل لها بهذا المثال القريب ، وإن كان المثال يقرّب من جهة ويبعّد ربَّما من عشرات الجهات ، لكن كتقريب إلى هذه العلاقة بين حكومة الله السياسية التي أحد أشكالها حكومة خفيّة تسطرها لنا سورة الكهف في ظاهرة الخضر كضمانة رابعة لبقاء الدين ، وهو الموضوع الأصلي المركزي لسورة الكهف حيث تفيدنا هذه السورة : أنَّ هذه الحكومة الإلهية بالجهاز الإلهي المزوّد بالعلم اللدنّي وبالبرامج والأدوار العصيبة المهمّة في البيئات المختلفة أنَّ الحكم والحسم والفصل لها ، أمَّا فيما تدنّى من أدوار أخرى متوسّطة في البرنامج الإلهي فيمكن فسح المجال لتلك الأنظمة والحكومات الوقتية البشرية ، وهي تظنّ أنَّ كلّ المقدّرات بيدها ، والحال أنَّه ليس كلّ المقدّرات بيدها كما يظنّ كثير من الشعوب في العالم الثالث أنَّه إذا أسّس لها مجالس نيابية ودوائر انتخابية وما شابه ذلك فإنَّ زمام الأمور كلّه بيدها ، والحال أنَّ كثيراً من المساحات الحساسة مفروضة عليها بهيمنة الدول الكبرى ، ففي الحقيقة هذا التغافل أو هذا التخيّل موجود لدى دول العالم الثالث أو الدول الصغيرة أو الدول المتوسّطة بالقياس إلى هيمنة وقدرة نفوذ الدول الكبرى .
إذن الأمور الحساسة التي تقف حائلًا وسدّاً دون الفساد المنتشر ودون كثير من المخاطر المحيطة بالبشر وبالنظام البشري يقوم بها هذا الجهاز الخفي الذي تنبئنا به سورة الكهف ، كما ورد لدينا في النصّ عنهم عليهم السلام أنَّه : ( لولا الحجّة لساخت الأرض بأهلها )[20]، وأحد تفاسير ومعاني هذا الحديث الشريف هو عين مفاد الآية الكريمة : ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) ( البقرة : 30 ) ، هي نوع من سوخ الأرض وقطع النسل البشري ، وقد أورد الباري تعالى هذا الحديث على الملائكة لأجل أن يبيّن أنَّ الدور المركزي المحوري لخليفة الله هو المحافظة على عمارة الأرض وحياة البشر في الأرض ، وأنَّه لولاه لانفرط عقد ونظم الحياة .
فهاهنا محور مركزي مصيري تبيّنه لنا تعاليم القرآن الكريم وبياناته وبصائره ، وهو أنَّ السُنّة الإلهية في جعل الخليفة والإمام ( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) الذي هو على نسق ( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ) ( البقرة : 124 ) ، في شأن النبيّ إبراهيم ، هذا الجعل للخليفة والإمام في الحقيقة ليس منصباً تشريفياً ووساماً إلهياً ، بل هو حقيقة الدور العميق الذي يشرحه لنا القرآن الكريم في سورة ( البقرة : 30 ) : ( قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ) ، أي إنَّ الخليفة والإمام في الأرض بتدبيره يحول دون الإفساد في الأرض ودون سفك الدماء ودون قطع النسل البشري ، فطبيعة البشر تقتضي وتستلزم استئصال النسل البشري وسفك الدماء : ( اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) ( البقرة : 36 ) ، طبيعة البشر تقتضي الإفساد في الأرض ، ولولا تلك الحكومة الخفيّة لما سلم الكثير من البشر ، والنظم البشرية تستعمل تجارب في شتّى المجالات والبيئات ، وتلك التجارب أو تلك كثيراً ما تكون فاتكة بالصلاح البشري وببقاء النسل البشري سواء على الصعيد الصحّي أو الأمني أو البيئي أو الغذائي أو غيرها من المجالات حيث يفاجئون بعد فترة وبرهة أنَّ هذا النظام المالي أو النظام الصناعي يعصف ويحدق بالخطر على البشرية في تلك الفترة . فمن الذي حال دون وقوع المخاطر قبل أن يفيق البشر وتفيق القافلة العلمية للبشر من غفلتهم فيما يستعملونه من برامج ونظم تكون قاتلة لهم وللصلاح البشري في تلك الفترة والغفلة ؟ من الذي حفظهم ودبَّر أمرهم ؟ هناك قوى ما وراء معرفتهم ، قوّة ما وراء شعورهم ، قوّة موجودة بين أيديهم وظهرانيهم يحدّثنا عنها القرآن الكريم ، وهي من أمثال شبكة الخضر تقوم بتلك الأدوار بالتنسيق مع المركز وهو خليفة الله في الأرض .
صلة الأمّة الإسلاميّة بالعلم اللدنّي :
هنا نقطة أخيرة في ظاهرة الخضر ، تظهر عندما نسأل أنفسنا : هل أنَّ العلم اللدنّي وعلم التأويل في خليفة الله له صلة بهذه الأمّة الإسلاميّة ، وأنَّ سورة الكهف تعالج شأن الأمّة الإسلاميّة ؟ هل القرآن الكريم ينبئنا عن ثلّة في هذه الأمّة لديها هذا العلم اللدنّي وعلم التأويل ؟ وقد مرَّ بنا الحديث في ذلك بشكل مقتضب ، أنَّ القرآن الكريم في سورة آل عمران وفي سور عديدة يحدّثنا بحديث الثقلين ، وكما مرَّ بنا فحديث الثقلين قبل أن يكون حديثاً نبويّاً هو حديث قرآني ، وفي عدّة سور تمَّ استعراضه نظير قوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) ( آل عمران : 7 ) .
إذن للقرآن تأويل لا يعلمه فقهاء الأمّة وعلماؤها ، وإنَّما : ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) ، فمن في هذه الأمّة ادّعى علم التأويل بالقرآن كلّه ؟ ليس من أحد استطاع أن يدّعي ذلك غير أهل البيت عليهم السلام ، فهم الراسخون في العلم ، وهم الثقل الثاني في هذه الأمّة بعد الثقل الأوّل وهو كتاب الله ، وهذه الآية في سورة آل عمران تبيّن أنَّ هناك ثِقْلَين مقرونين ، وكما ورد الخبر المتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :
( يا أيّها الناس ، إنّي فرطكم ، وإنَّكم واردون عليَّ الحوض ، حوض أعرض ممَّا بين بصرى إلى صنعاء ، فيه عدد النجوم قدحان من فضّة ، وإنّي سائلكم حين تردون عليَّ عن الثقلين ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، الثقل الأكبر كتاب الله عز وجل سبب طرفه بيد الله وطرف بأيديكم ، فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدلّوا ، وعترتي أهل بيتي ، فإنَّه قد نبَّأني اللطيف الخبير أنَّهما لن ينقضيا حتَّى يردا عليَّ الحوض )[21] « 1 » ،
والواو في ( وعترتي ) عاطفة كما مرَّ بنا ، فهل كان تأويل القرآن غير معلوم لأحد من البشر ويكون مجهولًا ومعطَّلًا ! حاشا لكتاب الله أن يكون معطَّلًا ، هذا قول المعطّلة والعياذ بالله الذين يعطّلون أحكام القرآن والمعرفة بالشريعة والمعرفة بالمعارف الإلهية ، وأمَّا المثبّتين لهذه الحقائق المعتقدين لها يعلمون بأنَّ الواو عاطفة ، فللقرآن الكريم تنزيل وتأويل كما ورد في الحديث النبوي الذي رواه الفريقان : أنَّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أخبر أمير المؤمنين عليه السلام بأنَّه سيقاتل على تأويل القرآن كما قاتل هو على تنزيله[22] « 2 » ، ومن الواضح أنَّ سيّد الأنبياء وخاتم الأنبياء كان معلّم سيّد الأوصياء من أهل بيته ، وقد ورَّث علياً علم التنزيل والتأويل الحقّ للقرآن الكريم ، وبذلك يكون خلفاء النبيّ من أهل بيته هم أصحاب علم التأويل ، أي العلم اللدنّي .
وقد اقترن علم التأويل بالعلم اللدنّي وبأدوار الحكومة الإلهية ، أي دور الإمام ومقام الإمامة والحكومة الإلهية الخفيّة في الأرض ، وأحد أشكالها يكون في الخفاء ، وبعض من أشكالها يكون في العلن .
السورة الأخرى التي تحدّثنا بحديث الثقلين في القرآن الكريم هي سورة الواقعة : ( إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ ) ( الواقعة : 77 و 78 ) ، هنا الثقل الأوّل والأكبر هو كتاب مكنون ، يعني في لوح محفوظ ، يعجز البشر أن يصل إلى أعماقه ودرجاته وبواطنه ، ( لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) ( الواقعة : 79 ) ، الثقل الثاني المطهّرون ، وهم من عرَّفهم القرآن في سورة الأحزاب : ( إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ( الأحزاب : 33 ) ، إذن أهل البيت هم المطهّرون في هذه الأمّة الذين اصطفاهم الله عز وجل لعلم تأويل الكتاب ، فهم أصحاب مقام الإمامة .
[1] بحار الأنوار 187 : 58 ؛ مسند أحمد 410 : 2 .
[2] راجع : تفسير مجمع البيان 360 : 6 ؛ تفسير الرازي 143 : 21 .
[3] الخصال : 470 / ح 17 ؛ مسند أحمد 98 : 5 .
[4] مسند أحمد 87 : 5 .
[5] تفسير ابن كثير 34 : 2 .
[6] أي حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ الخلفاء من بعده اثنا عشر ، وقد تقدَّم .
[7] من ذلك ما ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في حديث طويل قال : ( ثمّ ذو القرنين عبد أحبّ الله فأحبّه الله وطوى له الأسباب وملَّكه مشارق الأرض ومغاربها وكان يقول الحقّ ويعمل به . . . ) ، ( الكافي 70 : 5 / باب معنى الزهد / ح 1 ) .
[8] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 319 : 20 / ح 660 .
[9] قال أمير المؤمنين عليه السلام : ( العلم علمان : مطبوع ومسموع ، ولا ينفع المسموع إذا لم يكن المطبوع ) . ( نهج البلاغة 79 : 4 / ح 338 ) .
[10] روى الشيخ الصدوق في أماليه ( ص 187 / ح 196 / 7 ) : بسنده إلى الحسن بن زياد العطّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ) ، أسيّدة نساء عالمها ؟ قال : ( ذاك مريم ، وفاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين ) . وروى البخاري في صحيحه ( ج 4 / ص 183 ) : بسنده إلى عائشة ، قالت : أقبلت فاطمة تمشى كأنَّ مشيتها مشى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : ( مرحباً يا بنتي ) ، ثمّ أجلسها عن يمينه أو عن شماله ثمّ أسرَّ إليها حديثاً فبكت ، فقلت لها : لم تبكين ، ثمّ أسرَّ إليها حديثاً فضحكت ، فقلت : ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن ، فسألتها عمَّا قال ؟ فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتَّى قبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، فسألتها ، فقالت : ( أسرَّ إليَّ أنَّ جبريل كان يعارضني القرآن كلّ سنة مرَّة ، وإنَّه عارضني العام مرَّتين ، ولا أراه إلَّا حضر أجلي وإنَّك أوّل أهل بيتي لحاقاً بي ) ، فبكيت ، فقال : ( أمَا ترضين أن تكوني سيّدة نساء أهل الجنّة - أو نساء المؤمنين - ؟ ) ، روى نحوه الترمذي في سننه ( ج 5 / ص 368 / ح 3985 ) وروى الحاكم في مستدركه ( ج 3 / ص 151 ) : بسنده إلى حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلّم عليَّ لم ينزل قبلها ، فبشَّرني أنَّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة ) .
[11] رواه جمهور الخاصّة والعامّة بألفاظ عدّة والمعنى واحد ، راجع - لا على الحصر - : الكافي 49 : 8 / ح 10 ؛ كمال الدين : 78 ؛ الغيبة للنعماني : 65 / باب 4 / ح 1 ؛ مسند أحمد 336 : 2 ؛ صحيح البخاري 143 : 4 ؛ صحيح مسلم 94 : 1 ؛ المعجم الكبير 60 : 9 ؛ كنز العمّال 266 : 14 / ح 38673 ؛ تاريخ مدينة دمشق 501 : 47 ؛ . . . وغيرهم .
[12] عن محمّد بن عبد الله بن محمّد طيفور قال في قول إبراهيم عليه السلام : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى . . . الآية ( البقرة : 260 ) : إنَّ الله عز وجل أمر إبراهيم أن يزور عبداً من عباده الصالحين ، فزاره فلمَّا كلَّمه قال له : إنَّ لله تبارك وتعالى في الدنيا عبداً يقال له : إبراهيم اتَّخذه خليلًا ، قال إبراهيم : وما علامة ذلك العبد ؟ قال : يحيى له الموتى ، فوقع لإبراهيم أنَّه هو فسأله أن يحيى له الموتى ، قالَ أَ وَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي يعنى على الخلّة ، ويقال : إنَّه أراد أن تكون له في ذلك معجزة كما كانت للرسل ، وإنَّ إبراهيم سأل ربَّه عز وجل أن يحيى له الميّت فأمره الله عز وجل أن يميت لأجله الحيّ سواء بسواء وهو لمَّا أمره بذبح ابنه إسماعيل ، وأنَّ الله عز وجل أمر إبراهيم عليه السلام بذبح أربعة من الطير ، طاووساً ونسراً وديكاً وبطاً ، فالطاووس يريد به زينة الدنيا ، والنسر يريد به الأمل الطويل ، والبط يريد به الحرص ، والديك يريد به الشهوة ، يقول الله عز وجل : إن أحببت أن يحيى قلبك ويطمئن معي فأخرج عن هذا الأشياء الأربعة ، فإذا كانت هذه الأشياء في قلب ( عبدي ) فإنَّه لا يطمئن معي ، وسألته : كيف ؟ قال : أوَلم تؤمن ؟ مع علمه بسرّه وحاله ، فقال : إنَّه لمَّا قال : رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى ، كان ظاهر هذه اللفظة يوهم أنَّه لم يكن بيقين فقرَّره الله عز وجل بسؤاله عنه ، إسقاطاً للتهمة عنه وتنزيهاً له من الشكّ . ( علل الشرائع 36 : 1 / باب 32 / ح 8 ) .
[13] هو الشيخ الشهيد السعيد زين الدين بن نور الدين علي بن أحمد العاملي الشامي الجبعي المعروف بالشهيد الثاني ، من مشاهير الفقهاء المتبحّرين العظام ، ومن الوجوه المشرقة في التاريخ الدموي للإسلام ، ولد في ( 13 ) شوال سنة ( 911 ه - ) في جبع ، ختم القرآن وعمره تسع سنوات ، درس على والده ثمّ سافر إلى ميس ودرس فيها ، ثمّ ارتحل إلى الشام ودرس فيها على عدّة من علمائها ، ثمّ ذهب إلى مصر ودرس فيها عند أفاضل علمائها ، له من الآثار ( 79 ) مصنَّفاً ، أشهرها الروضة البهية ومسالك الأفهام ، واستشهد رحمه الله سنة ( 965 ه - ) في قصَّة مفصَّلة كما حكاها السيّد الأمين في أعيان الشيعة 143 : 7 - 158 / الرقم 493 ، فراجع .
[14] قال الشهيد الثاني قدس سره في كتابه ( منية المريد : 235 - 237 ) : ( وفي قوله : سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً جملة جليلة من الآداب الواقعة من المتعلّم لمعلّمه ، مع جلالة قدر موسى عليه السلام وعظم شأنه ، وكونه من أولي العزم من الرسل ، ثمّ لم يمنعه ذلك من استعمال الآداب اللائقة بالمعلّم ، وإن كان المتعلّم أكمل منه من جهات أخرى . . . نشير إلى ما يتعلَّق بالكلمة الأولى ، وهي قوله : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً . فقد دلَّت على اثنتي عشرة فائدة من فوائد الأدب :
الأولى : جعل نفسه تبعاً له ، المقتضي لانحطاط المنزلة في جانب المتبوع . الثانية : الاستيذان ب ( هَلْ ) ، أي هل تأذن لي في اتّباعك ، وهو مبالغة عظيمة في التواضع . الثالثة : تجهيل نفسه والاعتراف لمعلّمه بالعلم بقوله : عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ . الرابعة : الاعتراف له بعظيم النعمة بالتعليم ، لأنَّه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله تعالى به ، أي يكون إنعامك عليَّ كإنعام الله عليك . ولهذا المعنى قيل : ( أنا عبد من تعلَّمت منه ) . و ( من علَّم إنساناً مسألة ملك رقّه ) . الخامسة : أنَّ المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير ، لكونه فعله لا لوجه آخر ، ودلَّ ذلك على أنَّ المتعلّم يجب عليه من أوّل الأمر التسليم ، وترك المنازعة . السادسة : الإتيان بالمتابعة من غير تقييد بشيء ، بل اتّباعاً مطلقاً ، لا يقيّد عليه فيه بقيد ، وهو غاية التواضع . السابعة : الابتداء بالاتّباع ، ثمّ بالتعليم ، ثمّ بالخدمة ، ثمّ بطلب العلم . الثامنة : أنَّه قال : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ ، أي : لم أطلب على تلك المتابعة إلَّا التعليم ، كأنَّه قال : لا أطلب منك على تلك المتابعة مالًا ولا جاهاً . التاسعة : مِمَّا عُلِّمْتَ إشارة إلى بعض ما علم ، أي لا أطلب منك المساواة ، بل بعض ما علمت ، فأنت أبداً مرتفع علي زائد القدر . العاشرة : قوله : مِمَّا عُلِّمْتَ اعتراف بأنَّ الله علَّمه ، وفيه تعظيم للمعلّم والعلم وتفخيم لشأنهما . الحادية عشرة : قوله : ( رُشْداً ) طلب الإرشاد ، وهو ما لولا حصوله لغوي وضلَّ ، وفيه اعتراف بشدّة الحاجة إلى التعلّم ، وهضم عظيم لنفسه ، واحتياج بيّن لعلمه الثانية عشرة : ورد أنَّ الخضر عليه السلام علم أوّلًا أنَّه نبيّ بني إسرائيل ، موسى عليه السلام صاحب التوراة الذي كلَّمه الله عز وجل بغير واسطة ، وخصَّه بالمعجزات ، وقد أتى - مع هذا المنصب - بهذا التواضع العظيم بأعظم أبواب المبالغة ، فدلَّ على أنَّ هذا هو الأليق ، لأنَّ من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فيشتدّ طلبه لها ، ويكون تعظيمه لأهل العلم أكمل ) .
[15] المحاسن للبرقي 216 : 1 / ح 103 .
[16] في الرواية عن الحسين بن سعيد اللخمي ، قال : ولد لرجل من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبد الله عليه السلام ، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبد الله عليه السلام : ( أرأيت لو أنَّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك أن أختار لك أو تختار لنفسك ما كنت تقول ؟ ) ، قال : كنت أقول : يا ربّ تختار لي ، قال : ( فإنَّ الله قد اختار لك ) ، قال : ثمّ قال : ( إنَّ الغلام الذي قتله العالم الذي كان مع موسى عليه السلام وهو قول الله عز وجل : فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّاً ) ( الكافي 6 : 6 / باب الدعاء في طلب الولد / ح 11 ؛ تفسير القرطبي 37 : 11 ) .
[17] بحار الأنوار 261 : 43 ؛ مسند أحمد 172 : 4 .
[18] للاستزادة راجع : تفسير الرازي 4 : 2 .
[19] روي أنَّه لمَّا وقع ما وقع بين موسى بن عمران والخضر عليهما السلام في قصَّة السفينة والغلام والجدار ، ورجع إلى قومه ، سأله أخوه هارون عمَّا استعلمه من الخضر ، فقال : علم لا يضرّ جهله ، ولكن كان ما هو أعجب من ذلك ، قال : وما أعجب من ذلك ؟ قال : بينما نحن على شاطئ البحر وقوف إذا قد أقبل طائر على هيأة الخطاف ، فنزل على البحر فأخذ بمنقاره فرمى به إلى الشرق ، ثمّ أخذ ثانية فرمى به إلى الغرب ، ثمّ أخذ ثالثة فرمى به إلى الجنوب ، ثمّ أخذ رابعة فرمى به إلى الشمال ، ثمّ أخذ فرمى به إلى السماء ، ثمّ أخذ فرمى به إلى الأرض ، ثمّ أخذ مرَّة أخرى فرمى به إلى البحر ، ثمّ جعل يرفرف وطار ، فبقينا متحيّرين لا نعلم ما أراد الطائر بفعله ، فبينما نحن كذلك إذ بعث الله علينا ملكاً في صورة آدمي ، فقال : ما لي أراكم متحيّرين ؟ قلنا : فيما أراد الطائر بفعله ؟ قال : ما تعلمان ما أراد ؟ قلنا : الله أعلم ، قال : إنَّه يقول : وحقّ من شرق الشرق وغرب الغرب ورفع السماء ودحا الأرض ليبعثنَّ الله في آخر الزمان نبيّاً اسمه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم له وصيّ اسمه علي عليه السلام ، علمكما جميعاً في علمهما مثل هذه القطرة في هذا البحر . ( بحار الأنوار 177 : 40 ) .
وفي الرواية عن أبي جعفر عليه السلام قال : ( لمَّا لقى موسى العالم وكلَّمه وسائله نظر إلى خطاف يصفر ويرتفع في السماء ويتسفَّل في البحر ، فقال العالم لموسى : أتدري ما يقول هذا الخطاف ؟ قال : وما يقول ؟ قال : يقول : وربّ السماء وربّ الأرض ، ما علمكما في علم ربّكما إلَّا مثل ما أخذت بمنقاري من هذا البحر ) ، قال : فقال أبو جعفر عليه السلام : ( أمَّا لو كنت عندهما لسألتهما عن مسألة لا يكون عندهما فيها علم ) . ( بصائر الدرجات : 250 / باب 6 / ح 2 ) .
[20] أنظر : الكافي 179 : 1 / باب أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة ؛ علل الشرائع 197 : 1 / باب العلّة التي من أجلها أنَّ الأرض لا تخلو من حجّة .
[21] رواه الهيثمي في : مجمع الزوائد 363 : 10 ؛ والطبراني في معجمه الكبير 67 : 3 / ح 2683 ؛ والمتّقي الهندي في كنز العمّال 189 : 1 / ح 958 ، وقد روى الحديث جمهور الخاصّة والعامّة بألفاظ عدّة لا تخرجه عن المعنى ، فراجع .
[22] عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانقطعت نعله ، فتخلَّف علي يخصفها ، فمشى قليلًا ثمّ قال : ( إنَّ منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ) ، فاستشرف لها القوم وفيهم أبو بكر وعمر ، قال أبو بكر : أنا هو ؟ قال : ( لا ) ، قال عمر : أنا هو ؟ قال : ( لا ، ولكن خاصف النعل ) ، يعنى علياً ، فأتيناه فبشّرناه ، فلم يرفع به رأسه ، كأنَّه قد كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . أنظر : ( ذخائر العقبى : 66 ؛ مسند أحمد 33 : 3 ؛ مستدرك الحاكم 122 : 3 )