ما النسيء الذي هو زيادة في الكفر؟
ما النسيء الذي هو زيادة في الكفر، الذي قال الله تعالى فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37] (قال): وهل كان له عند العرب قبل الإسلام نظام يدور عليه حساب السنين؟
الجواب:
(فأقول): النسيء مصدر كالنذير والنكير معناه التأخير، والمراد منه هنا تأخير الأشهر الحرم وغيرها من الأشهر القمريّة عمّا رتّبها الله سبحانه عليه، فإنّ العرب علموا أنّهم لو رتّبوا حسابهم على السنة القمريّة فإنّه يقع حجّهم تارة في الصيف، وتارة في الشتاء، وكان يشق عليهم الأسفار، ولم ينتفعوا بها في المرابحات والتجارات؛ لأنّ سائر الناس من سائر البلاد ما كانوا يحضرون إلا في الأوقات اللائقة الموافقة فعلموا أنّ بناء الأمر على رعاية السنة القمريّة يخلّ بمصالح الدنيا، فتركوا ذلك واعتبروا السنة الشمسيّة، ولمّا كانت السنة الشمسيّة زائدة عن السنة القمريّة بمقدار معيّن احتاجوا إلى الكبيسة، وحصل لهم بسبب تلك الكبيسة أمران:
أحدهما: أنّهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرًا بسبب اجتماع تلك الزيادات.
والثاني: أنّه كان ينتقل الحج من بعض الشهور القمريّة إلى غيره، فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة، وبعده في المحرّم، وبعده في صفر، وهكذا في الدور، حتّى ينتهي بعد مدّة مخصوصة مرّة أخرى إلى ذي الحجة، فحصل بسبب الكبيسة هذان الأمران: الزيادة في عدّة الشهور، وتأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر. هذا كله مما أفاده الامام فخر الدين الرازي(1) قال: والحاصل أنّ بناء العبادات على السنة القمريّة يخلّ بمصالح الدنيا، وبناءها على السنة الشمسيّة يفيد رعاية مصالح الدنيا، والله تعالى أمرهم من وقت إبراهيم واسماعيل ببناء الأمر على رعاية السنة القمريّة، فهم تركوا أمر الله في رعاية السنة القمريّة، واعتبروا السنة الشمسيّة رعاية لمصالح الدنيا، وأوقعوا الحج في شهر آخر سوى الأشهر الحرم، فلهذا السبب عاب الله عليهم وجعله سببًا لزيادة كفرهم وإنّما كان ذلك سببًا لزيادة الكفر؛ لأنّ الله تعالى أمرهم بإيقاع الحج في الأشهر الحرم، ثم إنّهم بسبب هذه الكبيسة أوقعوه في غير هذه الأشهر، وذكروا لأتباعهم أنّ هذا الذي عملناه هو الواجب، وأنّ إيقاعه في الشهور القمريّة غير واجب فكان هذا إنكارًا منهم لحكم الله مع العلم به، وتمرّدًا عن طاعته وذلك يوجب الكفر بإجماع المسلمين، فثبت أنّ عمله في ذلك النسيء يوجب زيادة في الكفر (قال الرازي): وأمّا الحساب الذي به يعرف مقادير الزيادات الحاصلة بسبب تلك الكبائس فمذكور في الزيجات.
(قال): وأمّا المفسرون فإنّهم ذكروا في سبب هذا التأخير وجهًا آخر(2) فقالوا: إنّ العرب كانت تحرّم الشهور الأربعة، وكان ذلك شريعة ثابتة من زمن إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام)، وكانت العرب اصحاب حروب وغارات فشقّ عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها، وقالوا: إن توالت ثلاثة أشهر حرم لا نصيب فيها شيئًا لنهلكنّ، وكانوا يؤخّرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمونه ويستحلّون المحرّم.
(قال): قال الواحديّ: وأكثر العلماء على أنّ هذا التأخير ما كان يختص بشهر واحد، بل كان ذلك حاصلًا في كلّ الشهور (قال الرازي) هذا هو الصحيح على ما قرّرناه.
(قال): واتّفقوا أنّه عليه الصلاة والسلام لمّا أراد أن يحجّ حجّة الوداع عاد الحج إلى شهر ذي الحجة في نفس الأمر، فقال (عليه السلام): ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا. أراد أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، هذا كلام الرازي نقلناه على طوله لما فيه من الفوائد، ولا منافاة بينه وبين ما قاله غيره من المفسّرين كما لا يخفى.
تنبيه: إنّ من أحاط علمًا بما نقلناه عن العرب من ترتيب حسابهم في نسيئهم على السنة الشمسيّة دون القمريّة يعلم الوجه في اتّخاذ الأئمّة الشهور الروميّة في حساب تلك السنين، ولا يعجب منهم كما عجب موسى جار الله إذ يقول: ذكر الوافي في الكتاب الخامس في ص 45 أنّ حساب الشهور كان عند الأئمّة روميًّا.
(ثم قال): ما وجه اتّخاذ الأئمّة حساب الروم وشهورهم وسنيهم، وحساب العرب وتاريخ الهجرة كان عربيًّا اه. ولعلّ هذا الرجل يراجع ما نقلناه عن الرازي ليعلم الوجه في ذلك(3).
للمزيد راجع كتاب أجوبة مسائل جار الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في معنى الآية من تفسيره الكبير ص 434 من جزئه الرابع في تفسير سورة التوبة.
(2) الوجهان وجيهان ولا منافاة بينهما.
(3) أجوبة مسائل جار الله، بقلم سماحة آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، الطبعة الثانية 1373 ه مطبعة العرفان ـ صيدا. 1953 م، ص 144 ـ 148، المسألة السابعة عشرة.
1
قسم الشؤون الفكرية يصدر كتاباً يوثق تاريخ السدانة في العتبة العباسية المقدسة
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)