اللحظات الأخيرة من حياة النبي الأكرم ـ صلى الله عليه وآله ـ

في هذه الفترة الحرجة، كانت السيّدة الزهراء (عليها السلام) تلازم فراش والدها (صلى الله عليه وآله) لا تفارقه لحظة، وفجأة طلب منها أن تقرّب رأسها إلى فمه ليحدّثها، فراح يكلّمها بصوت خفيف لم يُعرَف، ولكنّ الزهراء (عليها السلام) بكت بشدّة، إلاّ أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشار إليها مرّة أُخرى فحدّثها بشيء آخر، فرحت به وتبسّمت مستبشرة. ولم تكشف عن ذلك إلّا بعد وفاة [استشهاد] النبيّ (صلى الله عليه وآله) بناءً على إصرار عائشة: «أخبرني رسول اللّه ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قد حضر أجلُهُ وأنّه يُقبَض في وجعه، فبكيت، ثمّ أخبرني أنّي أوّل أهله لحوقاً به فضحكت» (1).
وفي آخر لحظة من حياته الشريفة طلبَ الاِمام عليّاً (عليه السلام) قائلاً: «ادعوا لي أخي». فعرف الجميع بأنَّه يريد عليّاً (عليه السلام) فدعَوا له عليّاً، فقال له: «ادنُ منّي فدنا منه، فاستند إليه فلم يزل مستنداً إليه يكلّمه».
وسأل رجل ابن عبّاس: هل توفّي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حِجر أحد؟ قال: توفّي وهو مستند إلى صدر علي (عليه السلام)، وهو الذي غسَّله وأخي الفضلُ بن عباس.
وقيل إنّ آخر جملة نطق بها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هي: «لا، إلى الرفيق الأعلى». فكأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه أو يلبّي دعوة ربّه، فاختار اللحاق بربّه.
وسأل كعب الاَحبار عن آخر كلمة قالها الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال الاِمام علي (عليه السلام): أنّه قال: الصلاة الصلاة.
وقد ترك الدنيا (صلى الله عليه وآله) يوم الإثنين 28 صفر، فَسُجِّيَ ببرد يمانيّ، وَوُضِعَ في حجرته بعض الوقت، وارتفعت صرخات العيال، وعلا بكاء الأقارب، وانتشر نبأ وفاته في كلّ أنحاء المدينة التي تحوّلت إلى مأتم كبير.
وقام الاِمام علي (عليه السلام) بغسل جسده الشريف وكفّنه، إذ أنّه كان قد ذكر: «يغسّلني أقربُ الناس إليّ». وصلّى عليه مع المسلمين، وتقرّر دفنُهُ في حجرته المباركة... ودفنه الاِمام علي (عليه السلام) يساعده الفضل بن العباس.
ولمّا فرغ الاِمام (عليه السلام) من غسله (صلى الله عليه وآله) كشف الاِزار عن وجهه (صلى الله عليه وآله) وقال ـ والدموع تنهمر من عينيه ـ : بأبي أنت وأُمّي، طبتَ حيّاً وطبتَ ميّتاً، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة والإنباء... ولولا أنّك أمرت بالصبر ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماءَ الشؤون، ولكان الداءُ مماطلاً، والكمَدُ محالِفاً وقلاّ لك، ولكنّه ما لا يُملَك ردّه ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وأمّي أُذكرنا عند ربّك واجعلنا من بالك» (2).
وهكذا غربت شمس أعظم شخصيّة غيّرت مسار التاريخ البشريّ بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية، وأعظم رسولٍ إلهيٍ فتح أمام الإنسانيّة صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنيّة.
ومن هنا فإنّنا نختم حديثنا هذا بالشكر للّه تعالى على هذه النعمة الكبرى، والحمد للّه ربّ العالمين (3). (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبقات ابن سعد:2 / 263؛ الكامل في التاريخ: 2 / 219.
(2) نهج البلاغة: خطبة رقم 235.
(3) تمّ تدوين هذه المحاضرات وتوثيقها وتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409هـ في مدينة قم. جعفر الهادي.
(4) المصدر: كتاب السّيرة المحمديّة، دراسة تحليليّة للسيرة المحمّديّة على ضوء الكتاب والسُّنَّة والتاريخ الصحيح لآية الله العظمى الشيخ جعفر السبحاني.
1