عندما نتأمل السماء ليلًا ونرى النجوم متلألئة، يخيل إلينا أن الضوء القادم منها قد شق طريقًا مستقيمًا عبر الفضاء حتى وصل إلى أعيننا. لكن الفيزياء الحديثة تكشف لنا أن هذا ليس صحيحًا دائمًا. الضوء، الذي نسميه عادة رمز الاستقامة والوضوح، يمكن أن ينحني في رحلته عبر الكون. هذا الانحناء لا يحدث بفعل أي عائق مادي، بل نتيجة لطبيعة الزمكان نفسه حين يتأثر بالكتلة والطاقة.
في زمن نيوتن، كان الضوء يُنظر إليه كجسيمات صغيرة تتحرك بخطوط مستقيمة. وبما أن الأجسام المادية تخضع لقوة الجاذبية، فقد خطر لبعض العلماء مثل جون ميتشيل (1783) وبيير سيمون لابلاس (1796) أن الضوء قد يتأثر بجاذبية النجوم. حتى أن لابلاس افترض وجود نجوم كثيفة للغاية لا يستطيع الضوء الإفلات منها، وهي فكرة تشبه ما نسميه اليوم الثقوب السوداء.
في أوائل القرن التاسع عشر، قام عالم ألماني يُدعى يوهان جورج سولدنر بحساب أولي لانحراف الضوء وفق ميكانيكا نيوتن. اعتبر الضوء جسيمات لها كتلة ضئيلة فتنجذب نحو الشمس مثل الكواكب. نتائجه أعطت انحرافًا يقارب 0.87 ثانية قوسية لضوء يمر قريبًا من سطح الشمس. هذه القيمة نصف ما نتوقعه اليوم وفق النسبية العامة.
عام 1915 طرح أينشتاين نظريته في النسبية العامة، التي غيرت جذريًا فهمنا للجاذبية. لم تعد الجاذبية قوة تسحب الأجسام كما تخيل نيوتن، بل هي انحناء في نسيج الزمكان نفسه. الأجسام الثقيلة مثل الشمس تشوه الفضاء من حولها، والضوء، الذي يسير دائمًا في أقصر طريق ممكن (ما يُسمى الجيوديسيا)، ينحني مساره تبعًا لذلك التشوه.
المعادلة الأساسية التي تصف زاوية انحراف الضوء قرب جسم كتلته M وعلى مسافة اقتراب b هي: 4GM/(bc2 ) α
حيث G ثابت الجاذبية وc سرعة الضوء. بالنسبة للشمس، يعطي هذا انحرافًا مقداره 1.75 ثانية قوسية، أي ضعف التقدير النيوتوني.
لكي تتحول النظرية إلى حقيقة علمية، كان لا بد من اختبارها. جاءت الفرصة أثناء كسوف الشمس الكلي عام 1919. قاد الفلكي البريطاني آرثر إدينغتون بعثة لرصد مواقع النجوم الظاهرة بجوار قرص الشمس المحجوب. بالمقارنة مع مواقعها المعتادة في السماء، ظهر أن ضوءها قد انحنى بالفعل أثناء مروره قرب الشمس، بقيمة مطابقة تقريبًا لتنبؤ أينشتاين. هذه النتيجة لم تثبت صحة النظرية فقط، بل جعلت أينشتاين أشهر عالم في العالم بين ليلة وضحاها.
مع مرور الوقت، أصبح انحناء الضوء أداة قوية في الفلك، فيما يُعرف بعدسات الجاذبية. عندما يمر ضوء مجرة بعيدة قرب عنقود مجري ضخم، ينحني الضوء بدرجة تجعلنا نرى صورًا متعددة للمجرة أو أقواسًا متوهجة تعرف بـ "حلقة أينشتاين". هذه العدسات الجاذبية القوية لا تكشف فقط مواقع الأجسام البعيدة، بل تسمح بقياس كتلة المجرات والعناقيد بدقة، بما في ذلك الكتلة المظلمة غير المرئية.
إلى جانب العدسات القوية، هناك عدسات ضعيفة تشوه صور آلاف المجرات البعيدة بشكل طفيف، وتحليلها إحصائيًا يسمح برسم خرائط لتوزيع المادة المظلمة في الكون. وهناك أيضًا الميكروعدسات الجاذبية، حيث يمر نجم أو كوكب أمام نجم أبعد، فيزداد سطوع النجم البعيد مؤقتًا. هذه التقنية تُستخدم اليوم لاكتشاف كواكب خارجية جديدة.
قد يبدو انحناء الضوء أمرًا بعيدًا عنا، لكنه يؤثر حتى في حياتنا اليومية. أنظمة تحديد المواقع (GPS) تعتمد على إشارات كهرومغناطيسية من أقمار صناعية. هذه الإشارات تتأثر بالجاذبية الأرضية وفق النسبية العامة. صحيح أن التصحيح الأكبر في GPS يتعلق باختلاف الزمن بين الأقمار وسطح الأرض، لكن مسار الضوء أيضًا ينحني قليلًا بفعل الجاذبية. من دون هذه التصحيحات، ستظهر أخطاء متزايدة في تحديد المواقع قد تصل إلى كيلومترات.
حين نقترب من أقوى مصادر الجاذبية في الكون، أي الثقوب السوداء، يصبح انحناء الضوء ظاهرة مدهشة. على مسافة معينة تعرف بـ الكرة الضوئية (Photon Sphere) يمكن للضوء أن يدور حول الثقب الأسود في مدار شبه مستقر. داخل هذه المنطقة يزداد الانحناء إلى حد يستحيل معه الهروب بعد عبور أفق الحدث. الصور الشهيرة التي التقطها تلسكوب أفق الحدث (EHT) عام 2019 للثقب الأسود في مجرة M87 أظهرت لنا توهج الغاز والضوء حول الظلام المطلق، في أول دليل بصري مباشر على هذه الظواهر.
من الناحية الفلسفية، يكشف انحناء الضوء أننا لا نعيش في فضاء ثابت وصلب، بل في نسيج مرن يخضع لتأثير الكتلة والطاقة. الضوء، الذي لا يملك كتلة ساكنة، يخضع لقوانين هذا النسيج لأنه يحمل طاقة وزخمًا. إدراكنا لهذه الحقيقة غيّر جذريًا مفهومنا عن المكان والزمان، وأعاد صياغة علاقتنا بالكون.
انحناء الضوء في الفضاء ليس مجرد ظاهرة غريبة أو اختبار لنظرية فيزيائية، بل هو نافذة نطل منها على أسرار الكون. بدأ كفكرة افتراضية لدى علماء مثل ميتشيل ولابلاس، وأصبح برهانًا على صحة نظرية أينشتاين، واليوم صار أداة لاستكشاف المجرات البعيدة، ورسم خرائط المادة المظلمة، وحتى اكتشاف كواكب جديدة. إن الضوء ينحني لكنه لا ينكسر، ومع كل انحناءة يفتح لنا بابًا لفهم أعمق لكون لا يزال يخفي الكثير من الأسرار.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN