أيّها الأحبّة.
منذ أن بعث الله نبيّه الأعظم محمداً (صلى الله عليه وآله) برسالة السماء، لم يترك الأمة هملاً بلا قائدٍ ولا هادٍ، بل جعل لكلّ زمانٍ حجّة، ولكلّ عصرٍ وصيّاً يحفظ شريعة الله ويصون وديعة الرسالة. فسلّم النبي الأكرم (ص) وصاياه وعلومه وسلاحه إلى أخيه ووصيّه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليكون الامتداد الحق لنهج السماء.
ثم توالت العهود المباركة، من علي إلى الحسن، ومن الحسن إلى الحسين، ومن الحسين إلى ولده علي بن الحسين السجاد، ومنه إلى الباقر، ومن الباقر إلى الصادق، وهكذا سلسلةً نورانيةً متواصلةً لا تنقطع، يحمل كل إمام وصيّة مَن قبله، علماً وإمامةً وسلاحاً، ليؤكّد أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله على عباده. ولم تكن تلك الوصايا دراهم ولا دنانير، بل كانت كنوز العلم المحمدي، وسلاح النبي، ومواريث الإمامة، تنتقل من صدرٍ معصوم إلى صدرٍ معصوم، لتبقى الأمة مرتبطة بخط السماء، لا تنفصم عراه أبداً. حتى انتهى هذا العهد الإلهي إلى بقية الله الأعظم، الإمام المهدي المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، الذي ادّخره الله ليوم الوعد الموعود، يوم يظهر فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً، تحقيقاً لقوله تعالى:وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ،القصص 5 ، وذكر في بصائر الدرجات عن أبي عبد الله الإمام الصادق (عليه السلام) قال ان الكتب كانت عند علي ابن أبي طالب (عليه السلام) فلما سار إلى العراق استودع الكتب عند أم سلمة فلما مضى علي كانت عند الحسن فلما مضى الحسن كانت عند الحسين فلما مضى الحسين كانت عند علي بن الحسين ثم كانت عند أبي الإمام الباقر (1). وفي الكافي عن سليم بن قيس قال : شهدتُ وصية أمير المؤمنين حين أوصى إلى ابنه الحسن (عليه السلام) واشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته ثم دفع إليه الكتاب والسلاح قال لابنه الحسن يا بني امرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان أوصي إليك وان ادفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى إلىَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ودفع إلىَّ كتبه وسلاحه وأمَرَني ان آمرك إذا حضرك الموت ان تدفعها إلى أخيك الحسين ثم اقبل على ابنه الحسين فقال له : وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله)ان تدفعها إلى ابنك هذا ثم اخذ بيد علي بن الحسين ثم قال لعلي بن الحسين : وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان تدفعها إلى ابنك محمد بن علي واقرأه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومني السلام.(2). قال العلامة العسكري : ما سلمه الإمام هنا إلى ابنه الحسن كتاب واحد وهو غير الكتب التي أودعها أم المؤمنين أم سلمة بالمدينة عند هجرته من المدينة ، والتي تسلمها الإمام الحسن منها عند عودته إلى المدينة.(3). وفي غيبة الشيخ الطوسي ومناقب ابن شهر آشوب والبحار عن الفضيل قال قال لي أبو جعفر الإمام الباقر (عليه السلام) : لما توجه الحسين (عليه السلام) إلى العراق دفع إلى أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) الوصية والكتب وغير ذلك وقال لها : إذا أتاك اكبر ولدي فادفعي إليه ما دفعت إليك ، فلما قتل الحسين (عليه السلام) أتى علي بن الحسين أم سلمة فدفعت إليه كل شىء أعطاها الحسين (عليه السلام). (4). وفي الكافي وأعلام الورى ومناقب ابن شهر آشوب والبحار عن أبي بكر الحضرمي عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قال : ان الحسين (عليه السلام) لما سار إلى العراق استودع أم سلمة (رحمهم الله) الكتب والوصية ، فلما رجع علي بن الحسين (عليه السلام)دفعتها إليه؛ قال العلامة العسكري : وكان ذلك غير الوصية التي كتبها في كربلاء ودفعها مع بقية مواريث الإمامة إلى ابنته فاطمة فدفعتها إلى علي بن الحسين وكان يوم ذاك مريضاً لا يرون انه يبقى بعده. (5). وفي الكافي وأعلام الورى وبصائر الدرجات والبحار واللفظ للأول عن عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده قال : التفت علي بن الحسين إلى ولده وهو في الموت وهم مجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي بأنه،فقال : يا محمد هذا الصندوق ، فأذهب به إلى بيتك ، ثم قال ـ أي علي بن الحسين ـ أما انه ليس فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوء علماً. (6). وفي بصائر الدرجات والبحار : عن عيسى بن عبد الله بن عمر ، عن جعفر بن محمد ـ الإمام الصادق (عليه السلام) قال : لما حضر علي بن الحسين الموت قبل ذلك اخرج السفط أو الصندوق عنده فقال : يا محمد احمل هذا الصندوق ، قال : فحُمِل بين أربعة رجال فلما توفي جاء اخوته يدَّعون في الصندوق ، فقالوا : اعطنا نصيبنا من الصندوق ، فقال : والله مالكم فيه شىء ، ولو كان لكم فيه شىء ما دفعه إليَّ ، وكان في الصندوق سلاح رسول الله وكتبه..
هذا السرد المبارك يعلمنا أنّ الوصيّة ليست مجرد أوراق أو كتب، بل هي عهدٌ روحاني يحفظ الهداية ويثبت الأمة على خطّ الحق. علينا أن نتمسك بمبادئ أهل البيت (عليهم السلام) في حياتنا اليومية، ونجعلها نبراساً لأعمالنا أخلاقنا.
الخاتمة
وهكذا يتجلّى لنا أنّ الوصيّة ليست مجرّد عهدٍ مكتوب أو صندوقٍ مودَع، بل هي سرّ الإمامة، وعصارة النبوّة، وامتداد الرسالة الخاتمة، تنتقل من قلبٍ طاهر إلى قلبٍ طاهر، ومن معصومٍ إلى معصوم، محفوظةً بعين الله، مصونةً من الضياع والانقطاع. لقد بدأت بيد سيّد الكائنات محمّد (صلى الله عليه وآله)، ثم جرت في عروق أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وتتابعت في سلسلة الأئمّة الهداة واحداً بعد آخر، ليبقى خطّ الهداية موصولاً لا ينفصم.
لم تكن تلك العهود دراهمَ ولا دنانير، ولا مظاهر دنيوية زائلة، بل كانت علماً يشرق، ونوراً يتوارث، وسلاحاً يرمز إلى القيادة، وحجّةً إلهيةً قائمةً إلى يوم الدين. وفي كلّ انتقالٍ للوصيّة تتجلّى عظمة العهد الإلهي الذي لا يترك أرضه بلا إمام، ولا أمّةً بلا وليّ.
حتى انتهت هذه الأمانة إلى بقيّة الله في أرضه، الحجّة بن الحسن المهدي (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، الغائب عن العيون، الحاضر في القلوب، الذي ادّخره الله ليوم الظهور، يوم تنقشع الغشاوة، وتُرفع راية الحقّ، وتُملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً.
فسلامٌ على الأوصياء الميامين، من أوّلهم إلى آخرهم، وسلامٌ على العهد الممدود من السماء إلى قيام الساعة، وسلامٌ على المنتظر الذي به يكتمل الوعد، وتُختتم الرسالات، وتُزهر الأرض بنور ربّها.
(1)الكافي والوافى 2 / 79 .
(2) معالم المدرستين ج2 ص 329 .
(3) غيبة الشيخ الطوسي ط تبريز سنة 1323 هجـ ، ومناقب ابن شهر آشوب 4 / 172 ، والبحار 46 / 18 ، ح 3 وقد أخذنا اللفظ من الأخير
(4)انظر أصول الكافي 1 / 304 ، وأعلام الورى ص 152 ، والبحار 46 / 16 ، ومناقب ابن شهر آشوب 4 / 172 . أبو بكر الحضرمي عبد الله بن محمد روى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قاموس الرجال 16 / 15 .
(5)معالم المدرستين ج2 ص 330 .
(6)أصول الكافي 1 / 305 ح2 ، وأعلام الورى ص 260.







وائل الوائلي
منذ يومين
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN