منذ أن حلم الإنسان بالسفر خارج الأرض، كانت فكرة حماية الجسد من ظروف الفضاء القاسية تحديًا علميًا وهندسيًا كبيرًا. بدلة الفضاء ليست مجرد لباس، بل هي مركبة صغيرة توفر بيئة حياة متكاملة، تحمي من الفراغ، وتمنع فقدان الضغط، وتحمي من درجات الحرارة الشديدة والإشعاعات الضارة، إضافة إلى توفير الأكسجين والتنفس، والتنقل ضمن بيئة عدائية لا هواء فيها ولا جاذبية تقليدية.
بدأت التجارب الأولى مع بدلات الطيران العالي التي استخدمت في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حيث كانت مصممة لحماية الطيارين من انخفاض الضغط ودرجات الحرارة عند الارتفاعات الشاهقة. مع بداية عصر الفضاء، خاصة في برنامج ميركوري في أواخر الخمسينيات، ظهرت أولى البدلات الفضائية التي وفرت ضغطًا داخليًا جزئيًا ونظام تنفس بسيط، لكنها كانت محدودة في المرونة والاستخدام خارج المركبة.
شهدت الستينيات والسبعينيات طفرة في تصميم البدلات، مع برامج جيميني وأبولو التي تطلبت نظامًا لدعم الحياة داخل البدلة أثناء النشاطات خارج المركبة. تطورت المواد المستخدمة من النايلون والبلاستيك إلى ألياف قوية متقدمة مثل Kevlar وVectran، التي توفر حماية من الأشعة الكونية وحطام الفضاء الدقيق بسرعة عالية، حيث يمكن لجسيم صغير أن يصطدم بسرعة تفوق 10 كيلومترات في الثانية، مسببا أضرارًا جسيمة.
عملت بدلات الفضاء على توفير نظام تبريد داخلي، يعرف بـ LCVG (Liquid Cooling and Ventilation Garment)، وهو عبارة عن ملابس داخلية مملوءة بأنابيب رفيعة تحمل ماءً بارداً لتخفيض حرارة الجسم ومنع ارتفاع درجة حرارته في ظل الحرارة الشديدة والبرودة المفرطة في الفضاء. كما تحتوي البدلة على نظام دعم حياة محمول (PLSS) يشمل خزانات للأكسجين، مرشحات لثاني أكسيد الكربون، وأجهزة اتصال ورصد صحي دقيقة.
بدلات الفضاء معقدة للغاية ومصممة لتعمل كوحدة متكاملة تضمن بقاء رواد الفضاء في بيئة فضائية معادية. تتكون البدلة من عدة أجزاء رئيسية:
الطبقة الخارجية (الغطاء الواقي) تصنع من ألياف متينة مثل Kevlar وVectran، وتعمل كدرع يحمي البدلة من الحطام الميكروي، الأشعة الكونية، ودرجات الحرارة القصوى. كما تمنع تسرب الهواء وتقاوم التمزق الناتج عن الاحتكاك بالغبار القمري أو الكوكبي.
الطبقة الداخلية تشمل الملابس التبريدية (LCVG)، وهي عبارة عن شبكة أنابيب دقيقة تحمل ماءً باردًا يمتص حرارة الجسم الزائدة، ما يحافظ على درجة حرارة مناسبة للرواد أثناء نشاطاتهم، إذ أن تقلبات الحرارة في الفضاء قد تتراوح بين -150 إلى +120 درجة مئوية.
نظام دعم الحياة المحمول (PLSS) هو قلب البدلة، ويشمل خزانات الأكسجين، نظام إزالة ثاني أكسيد الكربون، مضخات التهوية، أجهزة الاتصالات، وشاشات المراقبة الصحية. كل هذه الأنظمة مدمجة في وحدة تحمل على الظهر، لتوفر استقلالية حركية كاملة خلال النشاطات خارج المركبة، عادةً لمدة 6 إلى 8 ساعات.
القفازات مصممة بمرونة تسمح بحركة الأصابع بدقة مع حماية من الفراغ ودرجات الحرارة، حيث تتضمن عدة طبقات عازلة وطبقة خارجية مقاومة للاحتكاك.
خوذة البدلة مزودة بزجاج واقٍ شفاف مقاوم للصدمات، مع نظام تزويد بالأوكسجين ونظام تهوية يمنع الضباب ويضمن رؤية واضحة. كما تحتوي على مصابيح وأجهزة اتصال، وتُعد الطبقة الأخيرة من الحماية ضد الإشعاعات الضارة.
الملحقات الإضافية تشمل وصلات للهواء، وصلات للطاقة، وأجهزة استشعار مدمجة لمراقبة الوظائف الحيوية مثل معدل ضربات القلب، ضغط الدم، ومستويات الأكسجين، وترسل البيانات إلى فريق الدعم الأرضي بشكل مستمر.
كل جزء من هذه البدلة صُمم بعناية فائقة لتحقيق التوازن بين الحماية القصوى والمرونة الكافية للحركة، مما يمكّن رواد الفضاء من أداء مهامهم بفعالية وأمان في بيئة فضائية لا ترحم.
في المحطات الفضائية الحديثة، مثل محطة الفضاء الدولية، ما زالت بدلات EMU تُستخدم بعد تحديثات مستمرة، إذ تم تحسين قدرتها على توفير حرية الحركة، وزيادة مدة النشاطات الخارجية، وتحسين الحماية ضد الغبار القمري والكواكب الأخرى، حيث يُجرى تطوير بدلات جديدة مثل XEMU التي تعد بتقنيات حديثة تعزز من قدرة رائد الفضاء على التنقل والعمل لفترات أطول.
تعد بدلات الفضاء مثالًا حيًا على التعاون العالمي بين وكالات الفضاء المختلفة، مثل ناسا، وكالة الفضاء الأوروبية ESA، روسكوزموس، ووكالة الفضاء الصينية، حيث تستفيد هذه الوكالات من أبحاث ودراسات مستمرة لتحسين المواد والتقنيات، مع إجراء تجارب ميدانية في بيئات مشابهة للفضاء على الأرض مثل الصحارى ومناطق الحمم البركانية.
إن بدلات الفضاء ليست مجرد أقمشة ومواد، بل هي نتاج فهم معمق لقوانين الفيزياء والبيئة الفضائية، ومزيج معقد من الهندسة، الكيمياء، والبيولوجيا، يحقق توازنًا دقيقًا بين حماية الإنسان وتمكينه من أداء مهماته في بيئة قاسية. وهي تمثل إنجازًا بشريًا يتجاوز حدود الفرد، معتمدًا على العمل الجماعي للعلماء والمهندسين عبر أجيال.
في الختام، يمكن القول إن بدلة الفضاء هي تجسيد حي لمعركة الإنسان مع أقسى ظروف الكون، ليست فقط درعًا يحمي الجسد، بل مركبة حياة متكاملة تتيح للبشر الاستكشاف والتقدم خارج حدود الأرض، وتحمل بين طبقاتها قصة التحدي العلمي والتقني المستمر.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN