منذ انطلاق أولى الرحلات الفضائية، شكلت مسألة قضاء رواد الفضاء حاجتهم تحدياً فريداً يتطلب حلولاً مبتكرة تتجاوز الطرق الأرضية التقليدية، نظراً لغياب الجاذبية وانعدام البيئة الطبيعية التي اعتاد عليها الإنسان. ففي الفضاء الخارجي، لا يمكن للسوائل أو الفضلات أن تتحرك أو تسقط بنفس الطريقة، ما يفرض على المهندسين والعلماء تصميم أنظمة تسمح بالتعامل مع هذه العمليات بأمان وفعالية للحفاظ على صحة الرواد وراحتهم النفسية خلال مهمات تمتد لساعات أو أسابيع وربما أشهر.
في مراحل رحلات ميركوري وأبولو الأولى خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت أساليب جمع الفضلات بسيطة ومحدودة، حيث اعتمد الرواد على أكياس بلاستيكية وأدوات بدائية لم تكن مثالية، ما أدى إلى تحديات كبيرة في النظافة والتعامل مع الفضلات. لكن مع تطور برامج الفضاء، اتجهت وكالات الفضاء، وعلى رأسها وكالة ناسا، إلى تطوير نظم متقدمة أكثر تعقيدًا وعملية. تم تطوير مرحاض فضائي يعتمد على الشفط الهوائي، حيث تُجمع الفضلات بشكل منفصل (البول عن البراز)، وتحفظ داخل حاويات مغلقة لمنع انتشار الروائح أو التلوث في المقصورة الضيقة.
في محطة الفضاء الدولية، التي بدأت عملها في عام 2000، تم تركيب أنظمة مرحاض متطورة تستخدم مضخات هوائية قوية لضمان جمع الفضلات بطريقة فعالة تحت ظروف انعدام الوزن، وتزود المقعد بأحزمة لتثبيت رواد الفضاء أثناء الاستخدام، مما يعوض غياب الجاذبية. كما يتم معالجة البول وتحويله إلى ماء صالح للشرب عبر نظام إعادة تدوير متطور، يعزز الاستدامة ويقلل من الحاجة لإمدادات مياه خارجية.
وقد استند تطوير هذه الأنظمة إلى العديد من الدراسات العلمية التي تناولت تأثير انعدام الجاذبية على وظائف الجهاز الهضمي والجهاز البولي. أظهرت أبحاث نشرتها وكالة ناسا في مجلات علمية متخصصة مثل Journal of Applied Physiology وActa Astronautica أن فقدان الجاذبية يؤثر سلبًا على حركة الأمعاء والقدرة على التحكم في الفضلات، مما استلزم تصميم أنظمة خاصة قادرة على العمل في هذه الظروف. كما أجريت تجارب ميدانية على الأرض باستخدام محاكيات انعدام الوزن مثل الطيران المظلي، لتقييم فعالية هذه الأنظمة وتدريب الرواد على استخدامها.
أما أثناء النشاطات الخارجية، حيث يرتدي رواد الفضاء بدلات ضاغطة ومجهزة للنشاط خارج المركبة، لا تتوفر إمكانية استخدام أنظمة المرحاض التقليدية، ولذلك تم تطوير أنظمة احتياطية مثل حفاضات عالية الامتصاص تُعرف باسم "Maximum Absorbency Garment" (MAG). هذه الحفاضات مصممة بمواد متقدمة قادرة على امتصاص كميات كبيرة من السوائل والفضلات لفترات طويلة قد تصل إلى 8 ساعات أو أكثر، مع الحفاظ على راحة الجلد ومنع التهيج.
لكن رغم هذه التطورات، تواجه أنظمة إدارة الفضلات الفضائية العديد من التحديات العملية. حيث سجلت عدة تقارير حالات أعطال تقنية تتسبب في تراكم الفضلات أو تسرب الروائح، مما يزيد من المخاطر الصحية والبيئية داخل المركبة. يتطلب تشغيل هذه الأنظمة تدريبًا مكثفًا للرواد، إذ أن الاستخدام غير الصحيح قد يؤدي إلى أضرار جسيمة ومواقف حرجة. إضافة إلى ذلك، أثبتت الدراسات النفسية التي أجرتها وكالات الفضاء أن التعامل مع هذه الأنظمة قد يؤثر على الحالة النفسية للرواد، إذ يسبب شعورًا بالحرج والضغط النفسي، خاصة في المهمات طويلة الأمد التي تمتد لعدة أشهر.
جانب آخر مهم هو صيانة هذه الأنظمة والتعامل مع الأعطال، إذ يتوجب على رواد الفضاء أن يكونوا مدربين على استخدام المعدات وصيانتها لتجنب أي مشاكل قد تؤدي إلى تسرب الروائح أو تلوث الهواء داخل المركبة، الأمر الذي قد يؤثر سلباً على بيئة العمل والصحة النفسية. ولهذا، تم تطوير أنظمة مراقبة رقمية تتابع مستويات الفضلات وتحذر من أي خلل في النظام.
باختصار، يمثل قضاء رواد الفضاء حاجتهم في الفضاء إنجازاً هندسياً وطبيبياً فريداً، يجمع بين فهم الفيزياء الحيوية وعلوم المواد وتقنيات إدارة النفايات في ظروف قصوى. إنه جزء لا يتجزأ من منظومة دعم الحياة التي تسمح للإنسان بالتواجد والبقاء في بيئة فضائية معادية، حيث يمكن أداء أبسط الوظائف الطبيعية بأمان وراحة، وهو دليل على التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يرافق رحلات الفضاء.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN