عندما نفكر في الكون، أول سؤال قد يخطر على بالنا هو: كم عمره وكيف يمكن أن نقيس حجمه في الواقع هذان السؤالان هما من أعقد الأسئلة التي تحاول علم الكونيات الإجابة عليها، والسبب يعود إلى أن الكون ليس مجرد مكان ساكن، بل هو كيان يتغير باستمرار، يتوسع ويتطور مع مرور الزمن. العلماء اليوم يقدرون عمر الكون بنحو 13.8 مليار سنة بناءً على دراسات دقيقة ومستفيضة، ومن أهمها تحليل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي الذي التقطه تلسكوب بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبية في عام 2013 بقيادة علماء مثل جان لويه بلانشارد، حيث كانت هذه الموجات الدقيقة بمثابة بصمة للانفجار العظيم، اللحظة التي بدأ فيها الكون ويتوسع منذ ذلك الوقت.
عندما نعلم عمر الكون، قد نفترض بسهولة أن حجمه محدود بالمسافة التي يمكن للضوء أن يقطعها خلال تلك المدة، أي حوالي 13.8 مليار سنة ضوئية في كل اتجاه، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. الكون الذي نراه اليوم، والذي نسميه "الكون المرصود"، في الواقع أكبر بكثير من ذلك بكثير، فقطره يقدر بنحو 93 مليار سنة ضوئية. هذا الفرق الكبير يعود إلى توسع الفضاء نفسه، حيث لا تتحرك المجرات فقط في الفضاء، بل يتمدد الفضاء بين هذه المجرات، وهذا التمدد يجعل المسافات بينها تتزايد بشكل أسرع مما يمكن للضوء أن يقطعها خلال عمر الكون.
لفهم هذه الظاهرة بشكل أفضل، علينا أن نعرف أن سرعة الضوء هي الحد الأقصى الذي يمكن لأي شيء أن يتحرك به داخل الفضاء، لكن تمدد الفضاء نفسه ليس محكومًا بهذه السرعة، فيمكن أن تتوسع المسافات بين المجرات بسرعات تتجاوز سرعة الضوء بدون أن ينتهك ذلك قوانين الفيزياء. هذا التمدد هو ما جعل الكون المرصود واسعًا جدًا مقارنة بعمره. العلماء من خلال دراساتهم المعمقة، التي قادها إدوين هابل في عشرينيات القرن العشرين، حيث اكتشف أن المجرات تبتعد عنا بمعدلات تزيد مع المسافة، مما يشير إلى أن الكون يتوسع. هذا الاكتشاف شكل أساس علم الكونيات الحديث وطورته فرق بحثية في معاهد مثل جامعة هارفارد ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا بقيادة علماء مثل ويليام فرايدمان في ثلاثينيات القرن العشرين، الذين صاغوا المعادلات التي تربط توسع الكون بزمنه.
لكن لا ينمو الكون بنفس الطريقة طوال الوقت، فسرعة التوسع لم تكن ثابتة. في مراحله الأولى، كان التوسع أبطأ، ثم بدأ يزداد مع مرور الوقت نتيجة لما يسمى "الطاقة المظلمة"، وهي قوة غامضة تدفع الكون للتوسع بوتيرة متسارعة، وتم التعرف عليها بشكل رسمي في التسعينيات من خلال مراقبة انفجارات المستعرات العظمى من قبل فريقين بحثيين بقيادة ساندرا بيل ومارك تيرنر. هذا الاكتشاف قلب مفهومنا عن الكون رأسًا على عقب وجعل العلماء يعيدون حساباتهم ليروا كيف يؤثر هذا التوسع المتسارع على العلاقة بين عمر الكون وحجمه.
من ناحية أخرى، هناك مشكلة تعرف باسم "أزمة ثابت هابل"، وهي تعني أن العلماء يواجهون اختلافًا في قياسات سرعة توسع الكون حسب الطريقة التي يستخدمونها، حيث تقيس بعض الطرق معدل التوسع بقيمة أقل من الطرق الأخرى، وهذا التناقض يشير إلى أن فهمنا للكون ما زال غير مكتمل وقد يحتاج إلى تعديل في النظريات المعتمدة. التلسكوبات الحديثة، مثل تلسكوب جيمس ويب الفضائي الذي بدأ عمله في 2022، تهدف إلى توفير بيانات أكثر دقة حول الكون المبكر وتوسع الكون، مما قد يساعد في حل هذه الأزمة ويعطينا فهمًا أوضح للعلاقة بين عمر الكون وحجمه.
كل هذه الدراسات تبرز حقيقة أن الكون ليس فقط مكانًا ضخمًا بل هو كيان ديناميكي، حيث الزمن والفضاء مرتبطان بطريقة معقدة. فالعمر الذي نحدده للكون يشير إلى الوقت منذ بداية التمدد، بينما الحجم الذي نلاحظه اليوم يعكس نتيجة هذا التمدد عبر مليارات السنين، ولأن الفضاء يتوسع، فإن ما نراه اليوم من أجرام سماوية بعيدًا عنا في مواقع لم تكن موجودة في نفس المواقع عندما انطلق الضوء الذي نلتقطه الآن. وهذا يفتح باب التساؤلات عن الكون الكامل الذي قد يكون أكبر بكثير من الكون المرصود، وربما لا نهائي.
الأبحاث التي تقودها مراكز مثل معهد كامبريدج ومعهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، مدعومة بتقنيات رصد متقدمة من وكالات فضاء مثل ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية، تؤكد لنا أن فهمنا للكون يتطور باستمرار، وأن العلاقة بين عمر الكون وحجمه ليست بسيطة أو مباشرة، بل هي نتاج معقد لتفاعل الزمن مع التوسع المستمر للفضاء. هذه الحقيقة جعلت علم الكونيات مجالًا غنيًا بالبحث والاكتشافات، حيث كل إجابة تفتح الباب لأسئلة جديدة أكثر إثارة.
في النهاية، فإن فهم عمر الكون وحجمه يشبه محاولة فهم قصة طويلة معقدة لا نزال نقرأ فصولها، كل يوم تأتي بيانات جديدة تكشف جزءًا من هذه القصة، لكنها تذكرنا بمدى عظمة الكون وتعقيد بنيته، وكم أننا ما زلنا في بداية رحلتنا لاكتشاف أسراره العميقة.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN