في تاريخ العلم، وُجدت عقولٌ لم تكتفِ بفهم الطبيعة، بل أرادت أن تملي عليها قوانينها. من بين هؤلاء، يتألّق بيير-سيمون لابلاس، الرجل الذي صاغ حتمية الكون بيدٍ من رياضيات وحديد من منطق، حتى بدا وكأنه يرى الكون كما هو، بلا غموض ولا مصاد داخل كون مغلقفات.
حين جلس بيير-سيمون لابلاس أمام معادلاته، لم يكن يسعى فقط لفهم السماء، بل لترويضها. لم يكن يطمح إلى تفسير حركة الكواكب فقط، بل إلى محو الصدفة من معجم الكون. أراد أن يحوّل الطبيعة إلى معادلة. والكون إلى آلة صامتة تدور بلا مفاجآت. في عالمه، لا مجال للاحتمال إلا بوصفه قناعًا للجهل. ومن هنا جاء حلمه: كائنٌ، أو "شيطان" كما وصفه، يعرف كل المواقع والسرعات في لحظة واحدة، وبذلك يمكنه أن يعرف كل ما كان، وكل ما سيكون. هذا الكائن الخيالي لم يكن سوى صورة عن عقل لابلاس نفسه.
في نهاية القرن الثامن عشر، كان العلم قد قطع شوطًا طويلًا منذ نيوتن، لكنّ الغموض لا يزال يلف بعض الظواهر الفلكية. لابلاس قرر أن يزيل ذلك الغموض بالكامل باستخدام أداة واحدة: الرياضيات. في عمله الضخم "الميكانيكا السماوية"، والذي استمر في كتابته لعقود، أعاد صياغة قوانين نيوتن بشكل تحليلي صارم، وطبّقها على النظام الشمسي بدقة مذهلة. لم يكتف بتأكيد أن الكواكب تدور حول الشمس، بل برهن أن اضطرابات مداراتها، التي كانت تُرى سابقًا كعلامات فوضى، ما هي إلا تذبذبات دورية، تنبع من الجاذبية ذاتها. لقد انتزع لابلاس السماء من أيدي الكهنة وأودعها بين دفاتر الرياضيين.
لكن عقله لم يكتف بفيزياء الأجرام، بل التفت إلى أعماق أكثر تجريدًا: الاحتمال. كتب لابلاس "النظرية التحليلية للاحتمالات"، وهو كتاب لا يتعامل مع الحظ، بل مع نقص المعرفة. رأى أن كل ما نعتبره عشوائيًا هو نتيجة لجهلنا بالأسباب. لو عرفنا كل الشروط الأولية، فإن نتائج الرمي، والموت، والسوق، والمجرات، كلها ستكون قابلة للتنبؤ. ومن هذه الرؤية، ولد شيطانه الشهير: كائن لا يجهل شيئًا، وبالتالي لا يُخطئ أبدًا. هذا الشيطان ليس أسطورة، بل تشبيه فلسفي لعلم يُفترض فيه أن يعرف كل شيء لو توفرت له البيانات. وهكذا، أصبحت الحتمية جوهر تصور لابلاس عن العالم: عقل مطلق داخل كون مغلق.
جدير بالذكر أن رؤية لابلاس الحتمية لم تكن شذوذًا فكريًا، بل كانت ثمرة طبيعية لعصرٍ سابق لثورة ميكانيكا الكم والنسبية. ففي نهاية القرن الثامن عشر، كان النموذج السائد للكون هو نموذج نيوتن: آلة دقيقة يمكن التنبؤ بحركتها بالكامل لو عُرفت الشروط الابتدائية. لم تكن مفاهيم مثل "عدم اليقين" أو "تشوه الزمكان" قد وُلدت بعد، لذا بدا حلم الحتمية آنذاك منطقًا علميًا لا خيالًا ميتافيزيقيًا.
ولأن هذا العقل لم يكن حالمًا فقط، فقد ساهم في تطوير أدوات رياضية لا تزال تُستخدم إلى اليوم. أبرزها "تحويل لابلاس"، الذي يمكّن الفيزيائيين والمهندسين من حل معادلات معقدة بفعالية ودقة، لا سيما في الأنظمة الكهربائية والميكانيكية. كما صاغ "معادلة لابلاس"، والتي أصبحت حجر أساس في فهم الكهرباء الساكنة وانتقال الحرارة وتوزيع الضغط داخل السوائل.
لم يكن لابلاس يكتب عن المعادلات فقط، بل كان يخضع جسد الإنسان نفسه لقوانين الفيزياء. بالتعاون مع لافوازييه، أجرى تجارب حرارية على الكائنات الحية، محاولًا قياس الحرارة الناتجة عن التنفس وتحويل الطاقة، مما مهّد الطريق لاحقًا لنشأة الديناميكا الحرارية الحيوية. وفي وقت لاحق، اقترح أن الشمس والكواكب نشأت من سديم غازي دوّار فكرة تطورت لاحقًا لتصبح إحدى الفرضيات الرائدة في علم نشأة الكواكب.
رغم كل هذه الإنجازات، لم يكن لابلاس معصومًا سياسيًا. حين عيّنه نابليون وزيرًا للداخلية، أبعده بعد فترة وجيزة قائلًا: "أحضر معنا هذا الرجل نظامًا كونيًا كاملًا في رأسه، لكنه لا يعرف كيف يدير وزارة." ومع ذلك، ظل احترامه في الأوساط العلمية راسخًا، بل إن نابليون نفسه كان يقدّره كرياضي أكثر منه كوزير.
توفي لابلاس عام 1827، لكن حلمه بكون تحكمه المعادلات لا يزال حيًّا في عقول العلماء والمبرمجين ومهندسي الذكاء الاصطناعي. في كل مرة نحاول فيها محاكاة الطبيعة، أو التنبؤ بالسوق، أو إعادة بناء الكون في محاكاة رقمية، فنحن نسير في ظل شيطان لابلاس، ذلك العقل الذي لا ينسى ولا يخطئ، والذي ما زال يحوم فوق المعادلات، كما لو أنه يبتسم ساخرًا من كل صدفة.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN