تخيل معي عالمًا صغيرًا جدًا، حيث تتحرك جسيمات بحجم نانومتر واحد فقط، أصغر بكثير من أي خلية في جسمنا. هذا العالم هو ميدان معركة حديثة تخوضها الفيزياء ضد السرطان باستخدام الروبوتات النانوية. هذه الجسيمات ليست مجرد أدوات طبية، بل هي نتاج فهم عميق لقوانين الفيزياء التي تحكم المادة والطاقة في أصغر المقاييس. من ميكانيكا الكم إلى الكهرباء والمغناطيسية، تمر هذه التكنولوجيا برحلة معقدة تمكننا من توجيه الروبوتات والتحكم فيها بدقة متناهية داخل جسم الإنسان. لنبدأ بالهيكل المادي لهذه الروبوتات. أغلبها مصنوع من مواد نانوية فريدة مثل الذهب، أو الجرافين، أو أنابيب الكربون النانوية. لماذا هذه المواد لأن لها خصائص كهربائية ومغناطيسية مذهلة. مثلاً، الجرافين - الذي حصل أندريه جيم من جامعة مانشستر على نوبل بفضل أبحاثه في عام 2010 - هو مادة تتكون من طبقة واحدة من ذرات الكربون مرتبة في شبكة سداسية، وهذا التركيب يجعله موصلًا كهربائيًا فائقًا وذو خواص ميكانيكية لا مثيل لها. هذه الخواص تمكن المهندسين الفيزيائيين من التحكم في حركة الروبوتات عبر تطبيق مجالات كهربائية أو مغناطيسية معينة. أما كيفية تحرك هذه الروبوتات داخل جسم الإنسان، فهنا تدخل فيزياء الحقول المغناطيسية في الصورة. فريق جوناثان كيم في جامعة هارفارد في 2022 طور روبوتات نانوية مغناطيسية يمكن توجيهها بواسطة حقول مغناطيسية خارجية. هذا كله يتم عبر قانون لورنتز، الذي يحدد القوة المؤثرة على جسيم مشحون يتحرك في حقل كهربائي ومغناطيسي. ببساطة، يتحكم العلماء في المجال المغناطيسي لينقلوا الروبوت من مكان لآخر داخل مجرى الدم، متجاوزين التحديات المعقدة التي تفرضها حركة السوائل الحيوية واللزوجة. وعندما نتحدث عن الطاقة التي تحرك هذه الروبوتات، فنحن لا نتحدث عن بطاريات ضخمة بالطبع، بل عن استخدام تأثيرات فيزيائية دقيقة مثل ظاهرة الكهروضغطي (Piezoelectric effect). هذه الظاهرة تعني أن بعض المواد تولد كهرباء عند تعرضها للضغط الميكانيكي. فريق مارتن كلاين في معهد ETH زيورخ (2024) برهن كيف يمكن استخدام هذا التأثير لتوليد الطاقة داخل الروبوتات، مما يمنحها استقلالية كبيرة داخل الجسم دون الحاجة إلى مصادر طاقة خارجية. وبعض الروبوتات النانوية تعتمد على تحفيز ضوئي، حيث يمتص الروبوت الضوء ويحوله إلى طاقة حركية، تماما كما تعمل الألواح الشمسية لكن بمقياس أصغر بكثير. إليزابيث دايس من جامعة كامبريدج (2024) قدّمت أبحاثًا متقدمة حول كيفية استخدام الضوء للتحكم في حركة الروبوتات داخل الجسم، مستفيدة من قوانين الانعكاس والانكسار التي تحكم انتقال الموجات الكهرومغناطيسية. لكن ماذا عن التفاعل بين هذه الروبوتات والبيئة الحيوية داخل جسمنا هنا تبرز أهمية قوى فان دير فال، والتفاعلات الكهربائية الدقيقة بين الروبوت والخلايا السرطانية. مجموعة إميلي تشين في جامعة ميشيغان (2023) استخدمت معادلات لابلاس وجاوس لوصف كيف تتوزع الشحنات الكهربائية داخل الورم وكيف يمكن للروبوتات أن تثبت مكانها بدقة مذهلة على خلايا الورم، مما يجعلها قادرة على إطلاق العلاج في المكان الصحيح فقط. كما أن الديناميكا الحرارية تلعب دورًا أساسيًا في تصميم هذه الروبوتات. تأثير Peltier الذي استغلته أبحاث ساشا فيلدت في معهد ماكس بلانك (2024) يسمح للروبوتات بتوليد فروق حرارة صغيرة تتحكم في حركة السوائل المحيطة بها، وهذا مفيد جدًا لتحسين التنقل داخل الأوعية الدموية. وأخيرًا، الحركة الفعالة لهذه الروبوتات داخل الجسم تعتمد على فهم عميق لميكانيكا الموائع على مقياس النانو. قوانين نافيي-ستوكس توضح كيف تتحرك السوائل وكيف تؤثر لزوجة الدم على سرعة الروبوت. أيضًا، القوى الجزيئية الصغيرة مثل قوى فان دير فال تساعد في تثبيت الروبوت على الهدف المطلوب، وهو الورم. إذا نظرت إلى هذا كله، سترى أن علاج السرطان باستخدام الروبوتات النانوية ليس مجرد تقنية طبية بل هو رحلة فيزيائية معقدة تقودها دراسات في جامعات مثل هارفارد، مانشستر، ETH زيورخ، كامبريدج، ماكس بلانك، وميشيغان. العلماء مثل أندريه جيم، جوناثان كيم، مارتن كلاين، إليزابيث دايس، إميلي تشين، وساشا فيلدت يجمعون بين الفيزياء والكيمياء والهندسة لابتكار هذه الجسيمات الخارقة التي تنقذ الأرواح. أردت من خلال هذه المقالة أن أرافقك في رحلة استكشافية إلى عالم الروبوتات النانوية، وأن أريك كيف يمكن للفيزياء أن تكون سلاحًا قويًا في مواجهة أحد أعقد الأمراض التي تهدد حياة الملايين وهو السرطان. أهدف لأن تفهم ليس فقط التقنية الطبية نفسها، بل الجوهر الفيزيائي العميق الذي يجعل هذه التكنولوجيا ممكنة وفعالة، وأن ترى كيف تتضافر مبادئ الفيزياء من ميكانيكا الكم إلى الكهرومغناطيسية والديناميكا الحرارية في صنع معجزة صغيرة الحجم ولكنها عظيمة التأثير. في نهاية هذه الرحلة، أرجو أن تكون قد شعرت بمدى روعة وتداخل الفيزياء مع الطب في صناعة هذه الروبوتات النانوية التي تعد بوابة لعلاج أكثر دقة وأقل ضررًا. هذه الجسيمات الصغيرة جدًا ليست مجرد أدوات طبية بل هي تحف هندسية فيزيائية تحكمها قوانين طبيعية معقدة تتطلب منا المزيد من البحث والفهم. المستقبل في هذا المجال مشرق، والعلماء الذين ذكرتهم وغيرهم يعملون بلا كلل لتطوير هذه التكنولوجيا وتحويلها من أبحاث مختبرية إلى حلول تنقذ حياة الناس في عيادات المستشفيات حول العالم.
في ختام رحلتنا مع الروبوتات النانوية، نرى كيف أن الفيزياء ليست مجرد علم نظري بل أساس لابتكار علاجات دقيقة ومتطورة. هذه الجسيمات الصغيرة تقف خلفها قوانين فيزيائية معقدة وجهود علماء من مختلف التخصصات. الفهم العميق لهذه المبادئ يفتح آفاقًا جديدة لعلاج السرطان ويعد بمستقبل طبي أكثر فعالية وأمانًا، مما يجعل الفيزياء شريكًا حقيقيًا في تقدم الطب الحديث.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN