كيف تُنقذنا الروبوتات النانوية من الجلطات القاتلة
لطالما شكّلت الجلطات الدموية تحديًا طبيًا معقدًا، إذ أن تكوّنها في أحد الأوعية، سواء في القلب أو الدماغ أو الرئتين، قد يؤدي إلى نوبات قلبية أو سكتات دماغية أو حتى موت مفاجئ. ورغم تطور الطب الحديث، بقيت وسائل التعامل مع هذه الجلطات محفوفة بالمخاطر. الأدوية المذيبة لها قد تسبب نزيفًا داخليًا، والتدخل الجراحي عبر القسطرة ليس خيارًا مثاليًا لكل المرضى، خاصة أولئك الذين يعانون من حالات صحية حرجة أو هشاشة في الأوعية.
ظهرت الروبوتات النانوية كأمل جديد. هي أجهزة صغيرة الحجم للغاية، يمكن برمجتها للعمل داخل الجسم على المستوى الجزيئي. فكرة أن شيئًا بحجم لا يُرى بالعين المجردة يمكن أن يدخل مجرى الدم ويزيل الجلطات من الداخل، لم تعد خيالًا علميًا. لقد أصبحت هذه الروبوتات موضوعًا لعدد متزايد من الدراسات الرائدة في جامعات كبرى حول العالم، مع نتائج أولية تبشّر بثورة حقيقية في الطب العلاجي.
على سبيل المثال، في عام 2020، قدّم فريق من جامعة هونغ كونغ للعلوم والتكنولوجيا بقيادة البروفيسور لي تشو، نموذجًا أوليًا لروبوتات نانوية مغناطيسية قادرة على الدوران بشكل يشبه المثقاب داخل الأوعية الدموية لتفتيت الجلطات. وقد أمكن توجيه هذه الروبوتات خارجيًا عبر مجالات مغناطيسية، ما أعطاها مرونة مذهلة في التنقل داخل الجسم. وأظهرت تجارب أولية على نماذج حيوية أن هذه التقنية يمكنها تفكيك التجلطات خلال دقائق معدودة، من دون التأثير على خلايا الدم أو بطانة الأوعية.
أما في ألمانيا، فقد عمل باحثو معهد ماكس بلانك عام 2018 على تطوير روبوتات نانوية تعتمد على الإنزيمات، مثل الستريز، لتفكيك الجلطات بيولوجيًا. كانت الفكرة هي استغلال البيئة الكيميائية الخاصة لموقع الجلطة، بحيث لا تنشط الروبوتات إلا عند استشعار مركبات بعينها، مثل بروتين الفيبرين. وقد أثبتت الدراسة، المنشورة في مجلة Nature Communications، أن هذا النهج يقلل من خطر التأثير على الأنسجة السليمة، ويجعل العلاج أكثر تخصيصًا لكل حالة.
هذه الفكرة كانت أيضًا محورًا لدراسة أمريكية في جامعة هارفارد، حيث طوّر فريق يقوده البروفيسور جورج تشيرش روبوتات تعتمد على شيفرات الحمض النووي لتحديد مواقع الجلطات. عملت هذه الروبوتات مثل "مفتاح ذكي"، لا يتحرك إلا عندما يجد "القفل الجزيئي" المناسب. وعند تفعيلها، تطلق الروبوتات شحنة دقيقة من دواء مذيـب للتجلطات مباشرة في موقع الانسداد، دون أن تؤثر على بقية الجسم. هذا التطور جعل من الممكن التعامل مع الجلطات بصورة موجهة وشبه فورية.
الفرق بين هذه الأساليب الجديدة والطرق التقليدية لا يكمن فقط في التكنولوجيا، بل في الفلسفة العلاجية نفسها. بدلاً من إغراق الجسم بأدوية قوية أو اللجوء إلى تدخلات جراحية دقيقة، تعمل الروبوتات النانوية بصمت وذكاء داخل مجرى الدم. هي ليست أداة علاج فحسب، بل يمكن اعتبارها جزءًا من الجسم نفسه أثناء عملها، تمامًا مثل كريات الدم البيضاء التي تحارب العدوى.
ومع هذه الميزات، تتزايد الفوائد: فاحتمالية التسبب بنزيف داخلي تصبح شبه معدومة، ودقة الوصول إلى موقع الجلطة تجعل من العلاج أكثر فاعلية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن برمجة الروبوتات لتكرار المهمة أكثر من مرة، أو حتى لتكون جزءًا من نظام مراقبة ذاتي مستمر يمنع تشكّل الجلطات مستقبلاً.
رغم كل هذا التقدم، لا تزال هناك تحديات واقعية ينبغي التغلب عليها. أحد أبرزها هو كيفية التعامل مع الروبوتات بعد الانتهاء من مهمتها، إذ يجب أن تكون قابلة للتحلل الحيوي أو الإخراج الآمن من الجسم. كما أن التفاعل مع الجهاز المناعي لا يزال قيد الدراسة، إذ من الممكن أن يُنظر إلى هذه الروبوتات كأجسام غريبة. كذلك فإن مسألة التحكم بها بدقة في شبكة الأوعية المعقدة تطرح تحديًا هندسيًا كبيرًا، خاصة عندما يتعلق الأمر بأجزاء دقيقة مثل الشعيرات الدموية في الدماغ أو القلب.
ومع ذلك، فإن المستقبل يبدو مشرقًا. من المتوقع أن تبدأ أولى التجارب السريرية على البشر في هذا المجال بحلول عام 2026، بدعم من مشاريع أوروبية وأمريكية كبرى، وبمشاركة جامعات مثل كامبريدج ومعهد كارولينسكا السويدي. في الوقت نفسه، تعمل شركات ناشئة واعدة، مثل ENDONANO وNanosurge Therapeutics، على تحويل هذه التكنولوجيا إلى حلول علاجية فعلية قابلة للتداول في المستشفيات.
إنها لحظة استثنائية في تاريخ الفيزياء النانوية و الطب. لم نعد نكتفي بعلاج الأمراض، بل أصبحنا نفكر في أدوات يمكنها العيش داخل أجسامنا ومرافقتنا في مسيرة الوقاية والعلاج الدقيق. ذات يوم، لم يكن أحد يتصور أن علاج جلطة قد يتم بلا مشرط، ولا حتى عبر دواء فموي. والآن، صار بالإمكان أن نتخيل روبوتًا نانويًا، لا يُرى، يشق طريقه في أحد عروقنا، يتوقف بدقة، يذيب الانسداد، ثم يختفي تمامًا كأنه لم يكن هناك.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN