إنَّ الله (جلَّ شأنه) لم ينزل الأديان والشرائع ويرسل الأنبياء لكي يتحقّق في الخارج هداية كلّ الناس بالفعل، وإلاَّ للزم من ذلك الجهل في ساحته (سبحانه وتعالى)؛ لأنَّ الله (جلَّ شأنه) يعلم أنَّ بعض الناس سوف لن يتّبعوا الهدى عناداً وطغياناً، وبعضهم قصوراً بسبب عوامل عالم الدّنيا المُتزاحمة، يقول تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَٰئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَسَاءَت مَصِيرًا إِلَّا المُستَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلدَانِ لَا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعفُوَ عَنهُم وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا))( سورة النساء، الآيات 97 ــ 99)،
وهذا ما تحقّق خارجاً، فلو كان غرضه غير المُتحقّق قبل تحقّقه، لكان (جلَّ شأنه) لا يعلم بما سوف يكون، وهو (جلَّ شأنه) محيطٌ بكلّ شيءٍ لا يجوز عليه الجهل.
ومن هنا كان الموافق للتحقيق هو أنَّ الغرض من البعثة وإنزال الكتاب جعلَ المُجتمع البشريّ قادراً على تحصيل الهداية، لو توفّرت الأسباب جميعها من جهة المُجتمع البشري، ولم يبق إلاَّ أن يُبيّن الله (جلّت أسماؤه) تعاليمه، فإذا قصّر البشر في تهيئة الأسباب، فجهل البعض وضلّ أو تكبّر وتغطرس من بلغه الحقّ فليس في هذا نقضٌ للغرض الإلهيّ، لأنَّ تمكين الله (سبحانه وتعالى) العبادَ مُتحقّقٌ، ولو لم يُقصّر العباد أنفسهم لظفروا بالخير والفضل، وهذا التمكين لاستثماره خارجاً مراتبُ ودرجاتٌ، فإذا قصّر العباد ومنعوا بدرجة 50 يتحقّق أثره بدرجة 50، وإذا قصّروا ومنعوا بدرجة 90 يتحقّق بدرجة 10، ولهذا لا يكون الغرض الإلهيّ مع ضياع بعض الدِّين أو غيبة الإمام المهديّ (عجل الله تعالى فرجه) غير مُتحقّقٍ بنحو تامٍّ من الله (سبحانه وتعالى)، وإنّما هو مُتحقّقٌ، ولكن بسبب تقصير النّاس الذين لم يوفّروا أسباب الهداية لم يتحقّق لهم من نفسهم الغرض التامّ خارجاً مع تحقّق التمكين من جهة الله تعالى ، فإذا قصّر العباد وحقّقوا أسباب الغيبة، بنحوٍ كانت المصلحة في حجب الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه)، وهذا هو المُستفاد ممّا روي في علل الشرائع: "عن مروان الأنباريّ قال: خرج من أبي جعفرٍ (عليه السلام): إنَّ الله إذا كره لنا جوار قومٍ نزعنا من بين أظهرهم"(1)؛ فإن هذا لا يكون موجباً لنقض الغرض الإلهيّ، بل تحقّق وعلى الأمّة الاستفادة منه بتحقيق أسباب الظهور.
فإنَّ الله (جلَّ وعزَّ) أوجد الإمام (عليه السلام)، ومكّن الناس به من بلوغ الغاية، ولكنهم تمرّدوا، وأوجبوا بحسب قوانين عالمنا وجود تمانعٍ بين بقاء الإمام (عجل الله تعالى فرجه) ظاهراً وتحقّق الغاية العليا، وهي تحقيق دولة العدل في زمانه، فكان لابدّ من حفظه لوقت توفّر الأسباب، وهو وقتٌ مجهولٌ عندنا، معلومٌ عند الله (جلَّ شأنه) ويؤثر في تحديده عملنا ومقدار استعدادنا، يقول العلّامة الحلّي (أعلى الله تعالى درجاته): "إنَّ وجود الإمام بنفسه لطفٌ لوجوهٍ: أحدها: أنَّه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزّيادة والنّقصان، وثانيها: أنَّ اعتقاد المُكلّفين بوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كلّ وقتٍ سببٌ لردعهم عن الفساد، ولقربهم إلى الصّلاح، وهذا معلومٌ بالضّرورة، وثالثها: أنَّ تصرّفه لا شكّ أنَّه لطفٌ وذلك لا يتمّ إلّا بوجوده، فيكون وجوده بنفسه لطفًا، وتصرّفه لطفًا آخر، والتّحقيق أن نقول: لطف الإمامة يتمّ بأمورٍ، منها: ما يجب على الله تعالى، وهو خلقُ الإمام، وتمكينه بالتّصرّف، والعلم والنّصّ عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى، ومنها: ما يجب على الإمام، وهو تحمّله للإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام، ومنها: ما يجب على الرّعيّة، وهو مساعدته والنّصرة له، وقبول أوامره وامتثال قوله، وهذا لم يفعله الرّعيّة، فكان منع اللّطف الكامل منهم، لا من الله تعالى، ولا من الإمام"(2).
الهوامش:
1- ج 1، الباب 179 علة الغيبة، ح 2.
2- كشف المُراد في شرح تجريد الاعتقاد، المقصد الخامس في الإمامة، المسألة الأولى في أنَّ نصب الإمام واجبٌ على الله تعالى، ص 338.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN