قراءة : عقيل الحمداني
يعتبر الهجاء من أعرق أغراض الشعر العربي وأكثرها مساحةً في الحافظة الشعرية العربية ؛ لأنه تعلق باحتدامات سياسية واجتماعية جُعلَ فيها الشاعر لسان حال شعبه وقبيلته ، والناطق باسم مظلوميتهم ، كما تجلى أيضاً بصورة مناكفات شخصية بين شاعرين حيث يشهر أحدهما بالآخر مستعرضاً مثالبه ومواطن الضعة والعيب في شخصيته وسيرته أو قبيلته وكل ما يمتُّ له بصلة :
الفرزدق يهجو جريراً :
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
بيتاً بناهُ لنا المليكُ وما بنى ... حكمُ السماء فإنه لا ينقلُ
بيتاً زرارةُ محتبٌ بفنائهِ ... ومجاشعٌ وأبو الفوارسِ نهشلُ
يا ابن المراغةَ أين خالك إنني... خالي حُبيشٌ ذو الفعال الأفضلُ
خالي الذي غصبَ الملوكَ نفوسهم ... وإليه كان حباء جفنة يُنقلُ
إنا لنضربُ رأس كلَّ قبيلةٍ ... وأبوك خلف أتانه يتقمّلُ
وشغلتُ عن حرب الكرام وما بنوا ... إن اللئيم عن الأكارمِ يُشغلُ
فيرده جرير :
أخزى الذي سمكَ السماء مجاشعاً ... وبنى بناءك في الحضيض الأسفلِ
ولقد بنيتَ أخسَ بيتٍ يُبتنى ... فهدمتُ بيتِكُمُ بمثلي يذبُلِ
إني إنصببتُ من السماءِ عليكُمُ ... حتى إختطفتكَ يا فرزدق من علِ
إني الى جبلٍ تميمٍ معقلي ... ومحلُ بيتيَ في اليفاعِ الأطولِ
احلامنا تزن الجبال رزانةً ... ويفوق جاهلنا فِعال الأطولِ
كان الفرزدق إذ يعوزُ بخالهِ ... مثل الذليل يعوزُ تحتَ القُرملِ
فافخر بضبّة أن أمكَ منهُمُ ... ليسَ ابنُ ضبةَ بالمُعِمِ المُخوِلِ
وتعدى الهجاء الى أبعد من هذا ، إذ نجد هنالك من يهجو لأجل الهجو نفسه ، فإن لم يجد من يهجوه من غرمائه قدِم لأمه أو لأبيه أو لإخوته فهجاهم ، وحين تعذّر عليه ذلك طفِق لنفسه فكال لها من الهجاء ما يسكّن به ثائرته ويشبع نهَمَه :
فهاهو الحطيئة يهجو أباه :
فنعم الشيخ أنتَ لدى المخازي ... وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
جمعتَ اللؤم لا حياكَ ربي ... وأبواب السفاهةِ والضلالِ
وأمه :
جزاكِ الله شراً من عجوزٍ ... ولقّاكِ العقوق من البنينا
تنحِّي فاجلسي مني بعيداً ... أراحً اللهُ منكِ العالمينا
أغربالاً إذا استودعتِ سراً ... وكانوناً على المُتحدثينا
ونفسه :
أبتْ شفتايَ اليوم إلا تكلماً ... بشرٍّ فما أدري لمن أنا قائلهْ
أرى ليَّ وجهاً شوَّه اللهُ خلقهُ ... فقُبِّحَ من وجهٍ وقُبِّحَ حاملُهْ
ويعدُّ الهجاء السياسي من أسمى أنواع الهجاء غايةً ، وأكثرها وقعاً في النفس ، وأبعدها أثراً في المجتمع ؛ لأنه كُتب غالباً من قِبل طبقات من الشعوب متمثلة بشعرائها وقع عليهم ظلم وقمع واضطهاد سياسي من قبل سلطةٍ حاكمة ، فكانوا بقصائدهم يمثلون نبض الشارع ولسان الناس الناطق بمظلوميتهم على نحوٍ من الفدائية والاستبسال .
وقد بدأت أولى ملامح الهجاء السياسي تظهر مع بزوغ الدعوة الإسلامية التي مهدت لانقلابٍ مجتمعي متكامل على كافة الأصعدة ، إلا إنه غلب عليه آنذاك الطابع الديني الذي اقتضته ظرفية الشعر وأهدافه الآنية .
حسان بن ثابت مخاطباً أبا سفيان :
ألا أبلغ أبا سفيان عني ...فأنتَ مجوّفٌ نخبٌ هواءُ
بأن سيوفنا تركتك عبداً... وعبد الدار سادتها الإماءُ
هجوتَ محمداً فأجبتُ عنهُ ... وعند اللهِ في ذاكَ الجزاءُ
أتهجوهُ ولستَ لهُ بكفءٍ ... فشركُما لخيركما الفداءُ
ليبرز بصورة أكبر بعد وفاة النبي الاكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عندما انتفض جماعة من شعراء الشيعة لحق إمامهم علي بن ابي طالب (عليه السلام) الذي غُمط في حادثة السقيفة الشهيرة ، ليبلغ ذروته إبان حكم الأمويين والعباسيين تباعاً .
دعبل الخزاعي معرّضاً بالمعتصم العباسي :
ملوكُ بني العباس في الكتبِ سبعةٌ ... ولم تأتنا عن ثامنٍ لهمُ كُتبُ
كذلك اهل الكهف في الكهف سبعةٌ ... كراماً اذا عُدُّوا و ثامنهم كلبُ
واني لأعلي كلبهم عنكَ رفعةً... لأنك ذو ذنبٍ و ليس له ذنبُ
وتعددت الرؤى واختلفت الأذواق في تلقي الهجاء السياسي وأهدافه ودوافعه ، والذي أصبح في يومنا هذا يسكب زيته على رؤوس الحكام والسلطات ، مروراً بالأحزاب السياسية التي تخلت عن مبادئها وجمهورها من أجل مصالحها الفئوية الضيقة ، وليس انتهاءً بأتباع هذه السلطات الجائرة من مخبرين ورجال أمن وأزلام مأمورة وأبواق مأجورة .
وكان اختلاف الآراء النقدية حول الهجاء السياسي يرتكز على التباين في استيعاب دوافع كتابة هذا الشعر وأهدافه ، ومدى خلودية هذه النصوص من اضمحلالها ، كفورةٍ تخمد وجمرةٍ تبرد مع تقادم الزمن وانطفاء الظرف والمناسبة ، وثمة من يفصل بين الجنبة الشعرية والجنبة الأخلاقية في تناول هذه النصوص ؛ فذهبوا الى ان وصف الشاعر الهجّاء بالبذاءة هو نقدٌ أخلاقيٌ محض ، ولا ينزاح الى تجربته ولا يقدح بشاعريته البتة ، وعدّ آخرون هذا اللون الشعري حالة من الصدق الفني ومكاشفة مع الجمهور بمضمرات الشاعر وإختلاجاته ، مقدمين لذلك ذرائع عدة منها ان المفردات البذيئة في النص الهجائي هي مفردات أصيلة من اللغة العربية وجدت لتستخدم في مواضعها ، ولكل مقامٍ مقال أو كما عبر عنها الجاحظ بمطابقة الكلام لمقتضى الحال ، وقد ضجّت دواوين الشعر العربي بهذه المفردات واستخدمها كبار الشعراء والادباء على اختلاف توجهاتهم وامتداد حقبهم ، عادّين إياها متنفساً رحباً وسلاحا مصلتاً يرعب ممالك القمع ويؤرق حكومات الاضطهاد ، ويقض مضاجع مافيات الفساد وسرّاق القوت ، ورشفة ماء باردة على براكين الغيض المستعرة في قلوب المستضعفين علّها تشفي شيئاً من غليلهم المتّقد ، في ظل ارتفاع مناسيب الخيانة والسفالة السياسية الى الحد الذي نراه اليوم .
مظفر النواب يمرّغ بالوحل حكام العرب قاطبةً :
أولا د الـ.....
لستُ خجولاً حين أصارحكم بحقيقتكم
إن حضيرة خنزيرٍ أطهرُ من أطهركم
تتحركُ دكةُ غسل الموتى أما انتم
لا تهتزُ لكم قصبة
..........
......
...
وهذا ( أحمد مطر) يعتذر لنعاله بلوحة فنتازية رائعة :
صحتُ من قسوةِ حالي :
فوق نعلي
كلُّ أصحابِ المعالي
قيلَ لي : عيبٌ
فكررتُ مقالي
قيلَ لي : عيبٌ
وكررتُ مقالي
ثمّ لمّا قيلَ لي : عيبٌ
تنبّهتُ إلى سوءِ عباراتي
وخفّفت انفعالي
ثمَّ قدّمتُ إعتذاراً لنعالي
لكن لا نغفل جملة من الإشتراطات النقدية إزاء إدراج هكذا مفردات في النص الشعري ؛ كالموضوعية العلمية للإستخدام وموائمة الظرف والحدث ، وسمو الهدف ، والإستخدام الصحيح في الحفاظ على سلامة الصورة ، وسلاسة بناء الجملة الشعرية ، والتماهي مع سياق القصيدة بلا تكلف ولا إفتعال يُلبسان النص ثوب الإصطناع .
يبدو مما تقدم ان الهجاء السياسي الذي حفل غالباً بالشتائم المقذعة والبذاءة اللاذعة نجح في أن يكون معادلاً موضوعياً نفسياً للجماهير المقهورة والمسحوقة ، التي جردتها سلطات الجور من الخبز وكرامة العيش وحرية الرأي .. بل من الشتيمة حتى
حيث نهض بأعبائه طائفة من شعراء المجابهة والمشاكسة ممن حملوا خشبة الصلب على ظهورهم يجوبون بها منابر الثورة والرفض والتحرر ، قِبال طائفةٍ أخرى من شعراء البلاط ولاعقي قِرى السلطة والنافخين بأبواق الذلة والتبعية .







وائل الوائلي
منذ 1 يوم
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN