(التَّابِعُ المَقْصُودُ بِالحُكْمِ بِلاَ وَاسِطَةٍ هُوَ المُسَمَّى) في اصطلاح البصريين (بَدَلاَ) وأما الكوفيون فقال الأخفش يسمونه بالترجمة والتبيين. وقال ابن كيسان يسمونه بالتكرير، فالتابع جنس والمقصود بالحكم يخرج النعت والتوكيد وعطف البيان وعطف النسق سوى المعطوف ببلولكن بعد الإثبات. وبلا واسطة يخرج المعطوف بهما بعده (مُطَابِقَاً أَو بَعْضَاً أَو مَا يَشْتَمِل عَلَيهِ يُلفَى أَو كَمَعْطُوفٍ بِبَل) أي يجيء البدل على أربعة أنواع: الأول بدل كل من كل وهو بدل الشيء مما يطابق معناه نحو: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين} (الفاتحة: 6 و7)، وسماه الناظم البدل المطابق لوقوعه في اسم الله تعالى نحو: {إلى صراط العزيز الحميد الله} (إبراهيم: 1)،في قراءة الجر، وإنما يطلق كل على ذي أجزاء وذلك ممتنع هنا. والثاني بدل بعض من كل وهو بدل الجزء من كله قليلاً كان ذلك الجزء أو مساوياً أو أكثر نحو أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه. ولا بد من اتصاله بضمير يرجع للمبدل منه مذكور كالأمثلة المذكورة وكقوله تعالى: {ثم عموا وصموا كثير منهم} (المائدة: 71) أو مقدر نحو: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا} (آل عمران: 91) أي منهم. والثالث بدل الاشتمال وهو بدل شيء من شيء يشتمل عامله على معناه بطريق الإجمال كأعجبني زيد علمه أو حسنه أو كلامه، وسرق زيد ثوبه أو فرسه، وأمره في الضمير كأمر بدل البعض فمثال المذكور ما تقدم من الأمثلة، ومثله قوله تعالى: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} (البقرة: 217)، ومثل المقدر قوله تعالى: {قتل أصحاب الأخدود النار} (البروج: 4)، أي النار فيه، وقيل الأصل ناره ثم نابت أل عن الضمير والرابع البدل المباين وهو ثلاثة أقسام أشار إليها بقوله: (وَذَا لِلاِضْرَابِ اعْزُ إِنْ قَصْداً صَحِبْ وَدُونَ قَصْدٍ غَلَطٌ بِهِ سُلِبْ) أي تنشأ أقسام هذا النوع الأخير من كون المبدل منه قصد أولاً لأن
ص228
البدل لا بد أن يكون مقصوداً كما عرفت في حد البدل، فالمبدل منه إن لم يكن مقصوداً ألبتة وإنما سبق اللسان إليه فهو بدل الغلط أي بدل سببه الغلط لأنه بدل عن اللفظ الذي هو غلط لا أنه نفسه غلط، وإن كان مقصوداً فإن تبين بعد ذكره فساد قصده فبدل نسيان أي بدل شيء ذكر نسياناً وقد ظهر أن الغلط متعلق باللسان والنسيان متعلق بالجنان، والناظم وكثير من النحويين لم يفرقوا بينهما فسموا النوعين بدل غلط وإن كان قصد كل واحد من المبدل منه والبدل صحيحاً فبدل الإضراب ويسمى أيضاً بدل البداء. ثم أشار إلى أمثلة الأنواع الأربعة على الترتيب بقوله: (كَزُرْهُ خَالِدَاً وَقَبِّلْهُ اليَدَا وَاعْرِفْهُ حَقَّهُ وَخُذْ نَبْلاً مُدَى) فخالداً بدل كل من كل، واليدا بدل بعض، وحقه بدل اشتمال، ومدى يحتمل الأقسام الثلاثة المذكورة وذلك باختلاف التقادير، فإن النبل اسم جمع للسهم، والمدى جمع مدية وهي السكين فإن كان المتكلم إنما أراد الأمر بأخذ المدى فسبق لسانه إلى النبل فبدل غلط، وإن كان أراد الأمر بأخذ النبل ثم بان له فساد تلك الإرادة وأن الصواب الأمر بأخذ المدى فبدل نسيان، وإن كان أراد الأول ثم أضرب عنه إلى الأمر بأخذ المدى وجعل الأول في حكم المسكوت عنه فبدل إضراب وبداء والأحسن أن يؤتى فيهن ببل.
تنبيهات: الأول زاد بعضهم بدل كل من بعض كقوله:
كأنَّي غدَاةَ البَينِ يَومَ تَحَمَّلُوَا لَدَى سَمُرَات الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ
ص229
ونفاه الجمهور وتأولوا البيت. الثاني رد السهيلي رحمه الله تعالى بدل البعض وبدل الاشتمال إلى بدل الكل فقال العرب تتكلم بالعام وتريد الخاص، وتحذف المضاف وتنويه فإذا قلت أكلت الرغيف ثلثه إنما تريد أكلت بعض الرغيف ثم بينت ذلك البعض، وبدل المصدر من الاسم إنما هو في الحقيقة من صفة مضافة إلى ذلك الاسم. الثالث اختلف في المشتمل في بدل الاشتمال: فقيل هو الأول، وقيل الثاني، وقيل العامل وكلامه هنا يحتمل الأولين. وذهب في التسهيل إلى الأول. الرابع: رد المبرد وغيره بدل الغلط وقال لا يوجد في كلام العرب نظماً ولا نثراً. وزعم قوم منهم ابن السيد أنه وجد في كلام العرب كقول ذي الرمة:
لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ
فاللعس بدل غلط لأن الحوة السواد واللعس سواد يشوبه حمرة، وذكر بيتين آخرين. ولا حجة له فيما ذكره لإمكان تأويله. الخامس: قد فهم من كون البدل تابعاً أنه يوافق متبوعه في الإعراب، وأما موافقته إياه في الإفراد والتذكير والتنكير وفروعها فلم يتعرض لها هنا، وفيه تفصيل: أما التنكير وفرعه وهو التعريف فلا يلزم موافقته لمتبوعه فيهما، بل تبدل المعرفة من المعرفة نحو: {إلى صراط العزيز الحميد الله} (إبراهيم: 1)، في قراءة الجر، والنكرة من النكرة نحو:{إن للمتقين مفازاً حدائق وأعناباً} (النبأ: 32)، والمعرفة من النكرة نحو: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله} (الشورى: 52) والنكرة من المعرفة نحو: {لنفسعا بالناصية ناصية كاذبة} (العلق: 15 و16)، وأما الإفراد والتذكير وأضدادهما: فإن كان بدل كل وافق متبوعه فيها ما لم يمنع مانع من التثنية والجمع ككون أحدهما مصدراً نحو: {مفازاً حدائق} (النبأ: 32)، أو قصد التفصيل كقوله:
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَينِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ وَرِجْل رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ
ص230
وإن كان غيره من أنواع البدل لم يلزم موافقته فيها (وَمِنْ ضَمِيرِ الحَاضِرِ) متكلماً كان أو مخاطباً (الظَّاهِرَ لاَ تُبْدِلهُ) أي يجوز إبدال الظاهر من الظاهر ومن ضمير الغائب كما ذكره في أمثلته، ولا يجوز أن يبدل الظاهر من ضمير المتكلم أو المخاطب(إلاَّ مَا إحَاطَةً جَلاَ) أي إلا إذا كان البدل بدل كل فيه معنى الإحاطة نحو: {تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا} (المائدة: 114)، وقوله:
فَمَا بَرِحَتْ أَقْدَامُنَا فِي مَقَامِنَا ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أُزِيرُوَا المَنَائِيَا
فإن لم يكن فيه معنى الإحاطة فمذاهب: أحدها المنع وهو مذهب جمهور البصريين. والثاني الجواز وهو قول الأخفش والكوفيين. والثالث: أنه يجوز في الاستثناء نحو ما ضربتكم إلا زيداً وهو قول قطرب (أَو اقْتَضَى بَعْضَاً) أي كان بدل بعض نحو: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر} (الأحزاب: 21)، وقوله:
أَوعَدَنِي بِالسِّجْنِ وَالأَدَاهِمِ
رِجْلِي فَرِجْلِي شَثْنَةُ المَنَاسِمِ
(أَوِ اشْتِمَالاَ) أي كان بدل اشتمال (كَأَنَّكَ ابْتِهَاجَكَ اسْتَمَالاَ) وقوله:
بَلَغْنَا السَّمَاءَ مَجْدُنَا وَسَنَاؤُنَا وَإِنَّا لَنَرْجُو فَوقَ ذَلِكَ مَظْهَرَا
تنبيه: قال في التسهيل ولا يبدل مضمر من مضمر ولا من ظاهر وما أوهم ذلك جعل توكيداً إن لم يفد إضراباً اهـ؛ (وَبَدَلُ) المبدل منه (المُضَمَّنِ) معنى (الهَمْزَ) المستفهم به (يَلِي هَمْزَاً) مستفهماً به وجوباً (كَمَنْ ذَا أَسَعِيدٌ أَمْ عَلِي) وكم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ وما صنعت أخيراً أو شراً؟ وكيف جئت أراكباً أو ماشياً؟
ص231
تنبيه: نظير هذه المسألة بدل اسم الشرط نحو من يقم إن زيد وإن عمرو أقم معه وما تصنع إن خيراً أو شراً تجز به ومتى تسافر إن ليلاً أو نهاراً أسافر معك (وَيُبْدَلُ الفِعْلُ مِنَ الفِعْلِ) بدل كل من كل، قال في البسيط باتفاق كقوله:
مَتَى تَأْتِنَا تُلمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا تَجِدْ حَطَبَاً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا
وبدل اشتمال على الصحيح (كَمَنْ يَصِل إِلَينَا يَسْتَعِنْ بِنَا يُعَنْ) ومنه: {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب} (الفرقان: 68) وقوله:
إنَّ عَلَيَّ اللَّهَ أَنْ تُبَايِعَا تُؤْخَذَ كُرْهاً أَو تَجِيءَ طَائِعَا
ولا يبدل بدل بعض: وأما بدل الغلط فقال في البسيط: جوزه سيبويه وجماعة من النحويين، والقياس يقتضيه.
تنبيه: تبدل الجملة من الجملة نحو: {أمدكم بما تعلمون أمدكم بأنعام وبنين} (الشعراء: 132 و133)، وقوله:
أَقُولُ لَهُ ارْحَل لاَ تُقِيمَنَّ عِنْدَنَا
وأجاز ابن جني والزمخشري والناظم إبدالها من المفرد كقوله:
إلَى اللَّهِ أَشْكُو بِالمَدِينَةِ حَاجَةً وَبِالشَّامِ أُخْرَى كَيفَ يَلتَقِيَانِ
أبدل كيف يلتقيان من حاجة وأخرى أي: إلى الله أشكو هاتين الحاجتين تعذر التقائهما. وجعل منه الناظم نحو عرفت زيداً أبو من هو.
خاتمة في مسائل متفرقة من التسهيل وشرحه: الأولى قد يتحد البدل والمبدل منه لفظاً إذا كان مع الثاني زيادة بيان كقراءة يعقوب: {وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها} (الجاثية: 28) بنصب كل الثانية، فإنها قد اتصل بها ذكر سبب الجثو. الثانية الكثير كون البدل معتمداً عليه، وقد يكون في حكم الملغى كقوله:
إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ
ص232
الثالثة: قد يستغنى في الصلة بالبدل عن لفظ المبدل منه، نحو أحسن إلى الذي صحبت زيداً: أي صحبته زيداً. الرابعة: ما فصل به مذكور وكان وافياً به يجوز فيه البدل والقطع نحو مررت برجال قصير وطويل وربعة، وإن كان غير واف تعين قطعه إن لم ينو معطوف محذوف، نحو مررت برجال طويل وقصير، فإن نوى معطوف محذوف فمن الأول، نحو اجتنبوا الموبقات الشرك بالله والسحر بالنصب، التقدير وأخواتهما لثبوتها في حديث آخر. والله تعالى أعلم.
ص234