قال الطبرسي رحمه
الله في قوله تعالى: " ونزعنا ما في صدورهم من غل " أي وأخرجنا ما في قلوبهم من
حقد وحسد وعداوة في الجنة حتى لا يحسد بعضهم بعضا، وإن رآه أرفع درجة منه " وقالوا
الحمد لله الذي هدانا لهذا " أي هدانا للعمل الذي استوجبنا به هذا الثواب بأن دلنا
عليه وعرضنا له بتكليفه إيانا، وقيل: هدانا لثبوت الايمان في قلوبنا، وقيل: لنزع
الغل من صدورنا، وقيل: هدانا لمجاوزة الصراط ودخول الجنة " وما كنا لنهتدي "
لما يصيرنا إلى هذا النعيم المقيم والثواب العظيم " لولا أن هدانا الله " هذا اعتراف
من أهل الجنة بنعمة الله سبحانه إليهم، ومنه عليهم في دخول الجنة على سبيل الشكر والتلذذ
بذلك: لأنه لا تكليف هناك " ونودوا " أي ويناديهم مناد من جهة الله تعالى، ويجوز
أن يكون ذلك خطابا منه سبحانه لهم " أن تلكم الجنة اورثتموها " أي اعطيتموها إرثا
وصارت إليكم كما يصير الميراث لأهله، أو جعلها الله سبحانه بدلا لكم عما كان أعده
للكفار لو آمنوا " بما كنتم تعملون " أي توحدون الله وتقومون بفرائضه " ونادى
" أي وسينادي " أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا " من الثواب في كتبه
وعلى ألسنة رسله " حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم من العقاب حقا " فهذا سؤال توبيخ وشماتة
يزيد به سرور أهل الجنة وحسرة أهل النار " قالوا نعم فأذن مؤذن " أي نادى منا
بينهم أسمع الفريقين " أن لعنة الله على الظالمين " أي غضب الله وأليم عقابه على الكافرين
" الذين يصدون عن سبيل الله " أي الطريق الذي دل الله سبحانه على أنه يؤدي إلى
الجنة ويبغونها عوجا " قال ابن عباس: معناه: يصلون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه
الله، وقيل: يطلبون لها العوج بالشبه التي يلبسون بها. وروى أبو القاسم
الحسكاني بإسناده عن محمد بن الحنفية، عن علي عليه السلام أنه قال: أنا ذلك المؤذن. وبإسناده
عن أبي صالح، عن ابن عباس إن لعلي في كتاب الله أسماء لا تعرفها الناس، قوله: فأذن
مؤذن بينهم فهو المؤذن بينهم يقول: ألا لعنة الله على الظالمين الذين كذبوا بولايتي
واستخفوا بحقي. " وبينهما حجاب " أي بين الفريقين: أهل الجنة وأهل النار ستر،
وهو الاعراف والاعراف: سور بين الجنة والنار، عن ابن عباس ومجاهد والسدي، وفي التنزيل:
" فضرب بينهم بسور " الآية، وقيل: الاعراف: شرف ذلك السور، وقيل الاعراف الصراط
" وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " اختلف في المراد بالرجال هنا على
أقوال: فقيل: إنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فحالت حسناتهم بينهم وبين النار،
وحالت سيئاتهم بينهم وبين الجنة فجعلوا هنالك حتى يقضي الله فيهم ما شاء، ثم يدخلهم
الجنة، عن ابن عباس وابن مسعود، وذكر أن بكر بن عبد الله المزني قال للحسن:
بلغني أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فضرب الحسن يده على فخذه ثم قال: هؤلاء قوم
جعلهم الله على تعريف أهل الجنة والنار يميزون بعضهم من بعض، والله لا أدري لعل
بعضهم معنا في هذا البيت، وقيل: إن الاعراف موضع عال على الصراط عليه حمزة والعباس
وعلي وجعفر يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسواد الوجوه عن الضحاك عن ابن
عباس، رواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره. وقيل: إنهم الملائكة في صورة الرجال
يعرفون أهل الجنة والنار، ويكونون خزنة الجنة والنار جميعا، أو يكونون حفظة
الاعمال الشاهدين بها في الآخرة، عن أبي محلز، وقيل: إنهم فضلاء المؤمنين، عن
الحسن ومجاهد، وقيل: إنهم الشهداء وهم عدول الآخرة، عن الجبائي. وقال أبو جعفر
الباقر عليه السلام: هم آل محمد عليهم السلام لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا
يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه. وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام:
الاعراف كثبان بين الجنة والنار، فيوقف عليها كل نبي وكل خليفة
نبي مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، وقد سبق
المحسنون إلى الجنة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم
المحسنين قد سبقوا إلى الجنة، فيسلم المذنبون عليهم، وذلك قوله: " ونادوا أصحاب
الجنة أن سلام عليكم ". ثم أخبر سبحانه أنهم لم يدخلوها وهم يطمعون، يعني هؤلاء المذنبين
لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أن يدخلهم الله إياها بشفاعة النبي والامام،
وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار ويقولون: " ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين
" ثم ينادي أصحاب الاعراف وهم الانبياء والخلفاء أهل النار مقرعين لهم:
" ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون " به " أهؤلاء الذين أقسمتم " يعني أهؤلاء
المستضعفين الذين كنتم تحقرونهم وتستطيلون بدنياكم عليهم، ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين
عن أمر من الله لهم بذلك: " ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ". ويؤيده
ما رواه أبو القاسم الحسكاني بإسناده إلى الاصبغ بن نباتة قال: كنت جالسا عند علي
عليه السلام فأتاه ابن الكواء فسأله عن هذه الآية، فقال: ويحك يابن الكواء نحن نوقف
يوم القيامة بين الجنة والنار، فمن نصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة، ومن أبغضنا
عرفناه بسيماه فأدخلناه النار، وقوله: " يعرفون كلا بسيماهم " يعني هؤلاء
الرجال الذين هم على الاعراف يعرفون جميع الخلق بسيماهم، يعرفون أهل الجنة بسيماء المطيعين،
وأهل النار بسيماء العصاة " ونادوا أصحاب الجنة " يعني هؤلاء الذين
على الاعراف ينادون أصحاب الجنة " أن سلام عليكم " وهذا تسليم تهنئة وسرور بما وهب الله
لهم " لم يدخلوها " أي لم يدخلوا الجنة بعد " وهم يطمعون " أن يدخلوها، قيل:
إن الطمع ههنا طمع يقين مثل قول إبراهيم: " والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين
". " وإذا صرفت أبصارهم " أي أبصار أهل الاعراف
" تلقاء أصحاب النار " أي إلى جهتهم فنظروا إليهم، وإنما
قال كذلك لان نظرهم نظر عداوة فلا ينظرون إليهم إلا إذا صرفت وجوههم إليهم
" قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين " أي لا تجمعنا وإياهم في النار. وروي أن في قراءة
ابن مسعود وسالم: " وإذا قلبت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا عائذا
بك أن تجعلنا مع القوم الظالمين " وري ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام. " ونادى
أصحاب الاعراف رجالا من أصحاب النار يعرفونهم بسيماهم " أي بصفاتهم يدعونهم بأساميهم
وكناهم، ويسمون رؤساء المشركين، عن ابن عباس، وقيل: بعلاماتهم التي جعلها الله
تعالى لهم من سواد الوجوه وتشويه الخلق وزرقة العين، وقيل: بصورهم التي كانوا
يعرفونهم بها في الدنيا " قالوا ما أغنى عنكم جمعكم " الاموال والعدد في الدنيا
" وما كنتم تستكبرون " أي واستكباركم من عبادة الله تعالى وعن قبول الحق وقد
كنا نصحناكم فاشتغلتم بجمع الاموال وتكبرتم فلم تقبلوا منا، فأين ذلك المال ؟
وأين ذلك التكبر ؟ وقيل: معناه: ما نفعكم جماعتكم التي استندتم إليها وتجبر كم
عن الانقياد لأنبياء الله في الدنيا " أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة
" أي حلفتم أنهم لا يصيبهم الله برحمة وخير ولا يدخلون الجنة كذبتم، ثم يقولون لهؤلاء
" ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون " أي لا خائفين ولا محزونين، على
أكمل سرور وأتم كرامة، والمراد بهذا تقريع الذين أزروا على ضعفاء المؤمنين حتى حلفوا
أنهم لا خير لهم عند الله. وقد اضطربت أقوال المفسرين في القائل لهذا القول،
فقال الاكثرون: إنه كلام أصحاب الاعراف، وقيل: هو كلام الله تعالى، وقيل: كلام الملائكة،
والصحيح ما ذكرناه لأنه المروي عن الصادق عليه السلام." ونادى أصحاب
النار " وهم المخلدون فيها " أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء
" أي صبوا علينا من الماء نسكن به العطش، أو ندفع به حر النار
" أو مما رزقكم الله " أي أعطاكم الله من الطعام " قالوا
" يعني أهل الجنة جوابا لهم: " إن الله حرمهما على الكافرين ". ويسأل فيقال: كيف
يتنادى أهل الجنة وأهل النار وأهل الجنة في السماء على ما جاءت به الرواية وأهل النار في
الارض وبينهما أبعد الغايات من البعد ؟ واجيب عن ذلك بأنه يجوز أن يزيل الله تعالى
عنهم ما يمنع من السماع، ويجوز أن يقوي الله أصواتهم فيسمع بعضهم كلام بعض.
" الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا " أي أعدوا دينهم الذي أمرهم الله تعالى به اللهو واللعب
دون التدين به، وقيل: اتخذوا دينهم الذي كان يلزمهم التدين به والتجنب من محظوراته
لعبا ولهوا، فحرموا ما شاءوا واستحلوا ما شاءوا بشهواتهم. " وغرتهم
الحياة الدنيا " أي اغتروا بها وبطول البقاء فيها، فكأن الدنيا غرتهم " فاليوم ننساهم كما نسوا
لقاء يومهم هذا " أي نتركهم في العذاب كما تركوا التأهب والعمل للقاء هذا اليوم،
وقيل: أي نعاملهم معاملة المنسي في النار، فلا نجيب لهم دعوة، ولا نرحم لهم عبرة
كما تركوا الاستدلال حتى نسوا العلم وتعرضوا للنسيان " وما كانوا بآياتنا يجحدون
" (ما) في الموضعين بمعنى المصدر وتقديره: كنسيانهم لقاء يومهم هذا وكونهم جاحدين
لآياتنا، واختلف في هذه الآية فقيل: إن الجميع كلام الله تعالى على غير وجه الحكاية
عن أهل الجنة وتم كلام أهل الجنة عند قوله: " حرمهما على الكافرين " وقيل:
إنه من كلام أهل الجنة إلى قوله: " الحياة الدنيا " ثم استأنف سبحانه الكلام بقوله:
" فاليوم ننساهم " انتهى كلامه رحمه الله. أقول: الذي يظهر لي من الآيات والاخبار هو
أن الله تعالى بعد خرق السماوات وطيها ينزل الجنة والعرش قريبا من الارض فيكون سقف
الجنة العرش، ولا يبعد أن يكون هذا هو المراد بقوله تعالى: " وازلفت الجنة
للمتقين " وتتحول البحار نيرانا فيوضع الصراط من الارض إلى الجنة. والاعراف: درجات
ومنازل بين الجنة والنار، وبهذا يندفع كثير من الاوهام، والاستبعادات التي تخطر
في أذهان أقوام في كثير مما ورد في أحوال الجنة والنار، والصراط ومرور الخلق عليه،
ودخولهم الجنة بعده، وإحضار العرش يوم القيامة وأمثالها، وبه يقل أيضا الاستبعاد
الذي مر في كلام السائل وإن كان يحتاج إلى أحد الوجهين اللذين ذكرهما أو مثلهما،
ليرفع الاستبعاد رأسا والله يعلم.
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 8 / صفحة [ 330 ]
تاريخ النشر : 2023-05-30