ارشاد القلوب :
بحذف الاسناد قال : لما استخلف عثمان بن عفان ، آوى إليه عمه الحكم بن العاص ،
وولده مروان ، والحارث بن الحكم ، ووجه عماله في الامصار ، وكان فيمن وجه عمر بن
سفيان بن المغيرة بن أبي العاص ابن امية إلى مشكان ، والحارث بن الحكم إلى المداين
، فأقام فيها مدة يتعسف أهلها ويسيء معاملتهم ، فوفد منهم إلى عثمان وفد شكوا إليه
، وأعلموه بسوء ما يعاملهم به ، وأغلظوا عليه في القول ، فولى حذيفة بن اليمان
عليهم وذلك في آخر أيامه ، فلم ينصرف حذيفة بن اليمان من المدائن إلى أن قتل عثمان
، واستخلف علي بن أبي طالب عليه السلام فأقام حذيفة عليها وكتب إليه بسم الله
الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام إلى حذيفة بن اليمان ،
سلام عليك فاني وليتك ما كنت تليه لمن كان قبل من حرف المداين ، وقد جعلت إليك
أعمال الخراج والرستاق وجباية أهل الذمة ، فاجمع إليك ثقاتك ومن أحببت ممن ترضى
دينه وأمانته ، واستعن بهم على أعمالك ، فان ذلك أعز لك ولوليك ، وأكبت لعدوك.
واني آمرك بتقوى
الله وطاعته في السر والعلانية ، فاحذر عقابه في المغيب والمشهد ، وأتقدم إليك بالإحسان
إلى المحسن ، والشدة على المعاند ، وآمرك بالرفق في امورك ، واللين والعدل في
رعيتك ، فانك مسؤول عن ذلك ، وإنصاف المظلوم ، والعفو عن الناس ، وحسن السيرة ما
استطعت ، فالله يجزي المحسنين وآمرك أن تجبى خراج الارضين على الحق والنصفة ، ولا
تتجاوز ما تقدمت به إليك ، ولا تدع منه شيئا ، ولا تبتدع فيه أمرا ، ثم اقسمه بين
أهله بالسوية والعدل ، واخفض لرعيتك جناحك ، وواس بينهم في مجلسك ، وليكن القريب
والبعيد عندك في الحق سواء ، واحكم بين الناس بالحق وأقم فيهم بالقسط ، ولا تتبع
الهوى ولا تخف في الله لومة لائم ، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وقد وجهت إليك
كتابا لتقرأه على أهل مملكتك ليعلموا رأينا فيهم وفي جميع المسلمين ، فأحضرهم
واقرأ عليهم ، وخذ البيعة لنا على الصغير والكبير منهم إن شاء الله تعالى. فلما وصل عهد أمير المؤمنين عليه السلام إلى
حذيفة جمع الناس فصلى بهم ثم أمر بالكتاب فقريء عليهم وهو :
بسم الله الرحمن
الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين ، سلام
عليكم فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأسأله أن يصلي على محمد وآله ،
فأما بعد ، فان الله تعالى اختار الاسلام دينا لنفسه وملائكته ورسله وإحكاما لصنعه
وحسن تدبيره ، ونظرا منه لعباده ، وخص منه من أحب من خلقه ، فبعث إليهم محمدا صلى الله
عليه وآله فعلمهم الكتاب والحكمة إكراما وتفضلا لهذه الامة ، وأدبهم لكى يهتدوا
، وجمعهم لئلا يتفرقوا ، وفقههم لئلا يجوروا فلما قضى ما كان عليه من ذلك مضى إلى
رحمة ربه حميدا محمودا.
ثم إن بعض
المسلمين أقاموا بعده رجلين رضوا بهديهما وسيرتهما ، قاما ما شاء الله ، ثم
توفاهما الله عزوجل ، ثم ولوا بعدهما الثالث فأحدث أحداثا ووجدت الامة عليه فعالا،
فاتفقوا عليهم ثم نقموا منه فغيروا ، ثم جاؤوني كتتابع الخيل ، فبايعوني فأنا
أستهدي الله بهداه وأستعينه على التقوى ، ألا وإن لكم علينا العمل بكتاب الله وسنة
نبيه ، والقيام بحقه ، وإحياء سنته ، والنصح لكم بالمغيب والمشهد ، وبالله نستعين
على ذلك ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
وقد وليت أموركم
حذيفة بن اليمان ، وهو ممن أرتضى بهداه ، وأرجو صلاحه ، وقد أمرته بالإحسان إلى
محسنكم ، والشدة على مريبكم ، والرفق بجميعكم ، أسأل الله لنا ولكم حسن الخيرة
والاحسان ، ورحمته الواسعة في الدنيا والاخرة ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قال : ثم إن
حذيفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، وصلى على النبي وآله ، ثم قال : الحمد
لله الذي أحيا الحق وأمات الباطل ، وجاء بالعدل ، وأدحض الجور ، وكبت الظالمين ،
أيها الناس إنما وليكم الله ورسوله وأمير المؤمنين حقا حقا ، وخير من نعلمه بعد
نبينا محمد رسول الله ، وأولى الناس بالناس ، وأحقهم بالأمر ، وأقربهم إلى الصدق،
وأرشدهم إلى العدل وأهداهم سبيلا وأدناهم إلى الله وسيلة وأمسهم برسول الله صلى الله
عليه وآله رحما أنيبوا إلى طاعة أول الناس سلما ، وأكثرهم علما وأقصدهم طريقا
وأسبقهم إيمانا ، وأحسنهم يقينا ، وأكثرهم معروفا ، وأقدمهم جهادا ، وأعزهم مقاما
، أخي رسول الله وابن عمه وأبي الحسن والحسين وزوج الزهراء البتول سيدة نساء
العالمين ، فقوموا أيها الناس فبايعوا على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله
فان لله في ذلك رضى ، ولكم مقنع وصلاح ، والسلام.
فقام الناس
بأجمعهم فبايعوا أمير المؤمنين عليه السلام أحسن بيعة ، وأجمعها.
فلما استتمت
البيعة ، قام إليه فتى من أبناء العجم وولاة الانصار لمحمد بن عمارة بن التيهان
أخو أبو الهيثم بن التيهان يقال له مسلم ، متقلدا سيفا ، فناداه من أقصى الناس
أيها الامير إنا سمعناك تقول : « إنما وليكم الله ورسوله وأمير ـ المؤمنين حقا حقا
» تعريضا بمن كان قبله من الخلفاء أنهم لم يكونوا أمراء المؤمنين حقا ، فعرفنا ذلك
أيها الامير رحمك الله ولا تكتمنا ، فانك ممن شهد وعاين ونحن مقلدون ذلك أعناقكم ،
والله شاهد عليكم فيما تأتون به من النصيحة لامتكم وصدق الخبر عن نبيكم صلى الله عليه
وآله.
فقال حذيفة :
أيها الرجل أما إذا سألت وفحصت هكذا فاسمع وافهم ما أخبرك به أما من تقدم من
الخلفاء قبل علي بن أبى طالب عليه السلام ممن تسمى أمير المؤمنين فانهم تسموا
بذلك فسماهم الناس بذلك ، وأما علي بن أبى طالب عليه السلام فان جبرئيل عليه السلام
سماه بهذا الاسم عن الله تعالى ، وشهد له رسول الله (ص) عن سلام جبرئيل عليه السلام
له بإمرة المؤمنين ، وكان أصحاب رسول الله (ص) يدعونه في حياة رسول الله صلى الله
عليه وآله بإمرة المؤمنين.
قال الفتى :
خبرنا كيف كان ذلك يرحمك الله؟ قال حذيفة : إن الناس كانوا يدخلون على رسول الله
صلى الله عليه وآله قبل الحجاب إذا شاؤا فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله
أن يدخل أحد إليه وعنده دحية بن خليفة الكلبي وكان رسول الله صلى الله عليه وآله
يراسل قيصرا ملك الروم وبني حنيفة وملوك بني غسان على يده ، وكان جبرئيل عليه السلام
يهبط على صورته ، ولذلك نهى رسول الله (ص) أن يدخل المسلمون عليه إذا كان عنده
دحية.
قال حذيفة : وإني
أقبلت يوما لبعض أموري إلى رسول الله صلى الله عليه وآله مهجرا رجاء أن ألقاه
خاليا ، فلما صرت بالباب ، فاذا أنا بالشملة قد سدلت على الباب ، فرفعتها وهممت
بالدخول ، وكذلك كنا نصنع ، فاذا أنا بدحية قاعد عند رسول الله والنبي نائم ورأسه
في حجر دحية فلما رأيته انصرفت فلقيني علي بن أبي طالب عليه السلام في بعض الطريق
فقال : يا ابن اليمان من أين أقبلت؟ قلت من عند رسول الله صلى الله عليه وآله ،
قال : وماذا صنعت عنده؟ قلت أردت الدخول عليه في كذا وكذا فذكرت الامر الذي جئت له
فلم يتهيأ لي ذلك ، قال : ولم؟ قلت : كان عنده دحية الكلبي، وسألت عليا عليه السلام
معونتي على رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ، قال : فارجع معي فرجعت معه.
فلما صرنا إلى
باب بالدار جلست بالباب ورفع على الشملة ودخله وسلم فسمعت دحية يقول : وعليك
السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته ، ثم قال : اجلس فخذ رأس أخيك وابن
عمك من حجري فانت أولى الناس به ، فجلس علي عليه السلام وأخذ رأس رسول الله صلى الله
عليه وآله فجعله في حجره وخرج دحية من البيت ، فقال علي : ادخل يا حذيفة فدخلت وجلست فلما كان بأسرع أن
انتبه رسول الله (ص) فضحك في وجه علي عليه السلام ثم قال : يا أبا الحسن من حجر
من أخذت رأسي؟ فقال : من حجر دحية الكلبي ، فقال : ذلك جبرئيل عليه السلام، فما
قلت له حين دخلت؟ وما قال لك؟ قال : دخلت فسلمت فقال لي : وعليك السلام يا أمير
المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال رسول الله (ص) يا علي سلمت عليك ملائكة الله
وسكان سمواته بإمرة المؤمنين من قبل أن يسلم عليك أهل الارض ، يا علي إن جبرئيل
عليه السلام فعل ذلك من أمر الله تعالى ، وقد أوحى إلي عن ربي عزوجل من قبل دخولك
أن أفرض ذلك على الناس، وأنا فاعل ذلك إن شاء الله تعالى.
فلما كان من
الغد بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ناحية فدك في حاجة فلبثت أياما فقدمت
فوجدت الناس يتحدثون أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الناس أن يسلموا على علي
عليه السلام بإمرة المؤمنين ، وأن جبرئيل عليه السلام أتاه بذلك عن الله عزوجل ،
فقلت : صدق رسول الله (ص) وأنا قد سمعت جبرئيل عليه السلام يسلم على علي عليه السلام
بإمرة المؤمنين ، وحدثتهم الحديث ، فسمعني عمر بن الخطاب وأنا أحدث الناس في
المسجد ، فقال لي أنت رأيت جبرئيل وسمعته؟ اتق القول ، فقد قلت قولا عظيما أو قد
خولط بك ، فقلت نعم أنا سمعت ذلك ورأيته ، فأرغم الله أنف من رغم فقال يا أبا عبد
الله لقد رأيت وسمعت عجبا.
قال حذيفة : وسمعني
بريدة بن الحصيب الاسلمي وأنا احدث ببعض ما رأيت وسمعت فقال لي : والله يا ابن
اليمان لقد أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلام على علي بإمرة المؤمنين، قلت : يا بريدة أكنت شاهدا ذلك اليوم؟ فقال : نعم من أوله إلى آخره ، فقلت له :
حدثني به يرحمك الله تعالى فاني كنت عن ذلك اليوم غايبا فقال بريدة : كنت أنا
وعمار أخي مع رسول الله صلى الله عليه وآله في نخيل بني النجار فدخل علينا علي
بن أبي طالب عليه السلام فسلم فرد عليه السلام رسول الله (ص) ورددنا ، ثم قال له
: يا على اجلس هناك ، فجلس ، ودخل رجال فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله بالسلام
على على بإمرة المؤمنين فسلموا وما كادوا.
ثم دخل أبو بكر
وعمر ، فسلما فقال لهما رسول الله (ص) : سلما على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين
، فقالا إن الامر من الله ورسوله؟ فقال : نعم ، ثم دخل طلحة وسعد بن مالك فسلما
فقال لهما رسول الله (ص) سلما على علي بإمرة المؤمنين فقالا أمر من الله ورسوله؟
فقال : نعم ، قالا سمعنا ، وأطعنا ، ثم دخل سلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري رضي الله
عنهما فسلما فرد عليهما السلام ثم قال : سلما على علي بإمرة المؤمنين فسلما ولم
يقولا شيئا ، ثم دخل خزيمة بن ثابت وأبو الهيثم التيهان فسلما فرد عليهما السلام
ثم قال : سلما على علي بإمرة المؤمنين فسلما ولم يقولا شيئا ، ثم دخل عمار
والمقداد فسلما فرد عليهما السلام ، وقال : سلما على علي بإمرة المؤمنين ، ففعلا
ولم يقولا شيئا ، ثم دخل عثمان وأبو عبيدة فسلما فرد عليهما السلام ثم قال : سلما
على علي بإمرة المؤمنين ، قالا عن الله ورسوله؟ قال نعم.
ثم دخل فلان
وفلان وعد جماعة من المهاجرين والانصار ، كل ذلك يقول رسول الله (ص) سلموا على علي
بإمرة المؤمنين ، فبعض يسلم ولا يقول شيئا ، وبعض يقول للنبي أعن الله ورسوله؟
فيقول نعم : حتى غص المجلس بأهله ، وامتلأت الحجرة وجلس بعض على الباب ، وفي
الطريق ، وكانوا يدخلون فيسلمون ويخرجون ، ثم قال لي ولأخي : قم يا بريدة أنت
وأخوك فسلما على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين ، فقمنا وسلمنا ، ثم عدنا إلى مواضعنا ، قال : ثم
أقبل رسول الله (ص) عليهم جميعا فقال اسمعوا وعوا إني أمرتكم أن تسلموا على علي بإمرة
المؤمنين ، وإن رجالا سألوني « أذلك عن أمر الله وأمر رسوله » ما كان لمحمد أن
يأتي أمرا من تلقاء نفسه ، بل بوحي ربه ، وأمره ، أفرأيتم والذي نفسي بيده لان
أبيتم ونقضتموه لتكفرن ، ولتفارقن ما بعثني به ربي ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء
فليكفر.
قال بريدة :
فلما خرجنا سمعت بعض أولئك الذين امروا بالسلام على علي بإمرة المؤمنين يقول
لصاحبه وقد التفت بهما طائفة من الجفاة البطاء عن الإسلام من قريش ، أما رأيت ما
صنع محمد (ص) بابن عمه من علو المنزلة والمكان ، ولو يستطيع والله لجعله نبيا من
بعده ، فقال له صاحبه : أمسك لا يكبرن عليك ، هذا [ الامر ] فلو أنا فقدنا محمدا
لكان فعله هذا تحت أقدامنا.
فقال حذيفة :
ومضى بريدة إلى بعض طرق الشام ورجع ، وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله
وبايع الناس أبا بكر ، فأقبل بريدة وقد دخل المسجد وأبو بكر على المنبر وعمر دونه بمرقاة فناداهما من ناحية المسجد : يا أبا بكر ويا عمر ، قالا : ومالك يا بريده
أجننت؟ فقال لهما : والله ما جننت ، ولكن أين سلامكما بالأمس على علي عليه السلام
بإمرة المؤمنين؟ فقال له أبو بكر : يا بريدة ، الامر يحدث بعده الامر ، وإنك غبت
وشهدنا ، والشاهد يرى ما لا يرى الغايب ، فقال لهما : رأيتما مالم يره الله ورسوله
، ووفى لك صاحبك بقوله : « لو فقدنا محمدا لكان قوله هذا تحت أقدامنا » ألا إن
المدينة حرام علي أن أسكنها أبدا حتى أموت ، فخرج بريدة بأهله وولده ، فنزل بين
قومه بني أسلم فكان يطلع في الوقت دون الوقت ، فلما أفضى الامر إلى أمير المؤمنين
عليه السلام سار إليه ، وكان معه حتى قدم العراق ،فلما أصيب أمير المؤمنين عليه السلام
صار إلى خراسان فنزلها ، ولبث هناك إلى أن مات برحمة الله تعالى.
قال حذيفة :
فهذا نبأ ما سألتني عنه ، فقال الفتى : لا جزى الله الذين شهدوا رسول الله صلى الله
عليه وآله وسمعوه يقول : هذا القول في علي خيرا ، فقد خانوا الله ورسوله وأزالوا
الامر عن وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وأقروه فيمن لم يره الله ولا رسوله لذلك
أهلا ، لا جرم والله لن يفلحوا بعدها أبدا.
فنزل حذيفة من
منبره فقال : يا أخا الانصار إن الامر كان أعظم مما تظن أنه عزب والله البصر ،
وذهب اليقين ، وكثر المخالف ، وقل الناصر لأهل الحق فقال له الفتى : فهلا انتضيتم
أسيافكم ، ووضعتموها على رقابكم ، وضربتم بها الزائلين عن الحق قدما قدما حتى
تموتوا أو تدركوا الامر الذي تحبونه من طاعة الله عزوجل وطاعة رسوله ، فقال له :
أيها الفتى إنه اخذ والله بأسماعنا وأبصارنا ، وكرهنا الموت ، وزينت عندنا الدنيا
، وسبق علم الله بإمرة الظالمين ، ونحن نسأل الله التغمد لذنوبنا ، والعصمة فيما
بقي من آجالنا ، فانه مالك رحيم ، ثم انصرف حذيفة إلى منزله وتفرق الناس.
قال عبد الله بن
سلمة : فبينا أنا ذات يوم عند حذيفة أعوده في مرضه الذي مات فيه ، وقد كان يوم
قدمت فيه من الكوفة من قبل قدوم علي عليه السلام إلى العراق ، فبينما أنا عنده إذ
جاء الفتى الانصاري فدخل على حذيفة فرحب به وأدناه وقربه من مجلسه ، وخرج من كان
عند حذيفة من عواده ، وأقبل عليه الفتى فقال : يا أبا عبد الله سمعتك يوما تحدث عن
بريدة بن الحصيب الاسلمي أنه سمع بعض القوم الذين أمرهم رسول الله صلى الله عليه
وآله أن يسلموا على علي بإمرة المؤمنين يقول لصاحبه : أما رأيت القوم ما صنع محمد
بابن عمه من التشريف وعلو المنزلة ، حتى لو قدر أن يجعله نبيا لفعل ، فأجابه صاحبه
فقال : لا يكبرن عليك ، فلو فقدنا محمدا لكان قوله تحت أقدامنا ، وقد ظننت نداء
بريدة لهما ، وهما على المنبر أنهما صاحبا القول قال حذيفة : أجل ، القائل عمر ،
والمجيب أبو بكر ، فقال الفتى : إنا لله وإنا إليه راجعون ، هلك والله القوم،
وبطلت أعمالهم ، قال حذيفة : ولم يزل القوم على ذلك الارتداد وما يعلم الله منهم
أكثر.
قال الفتى : قد
كنت أحب أن أتعرف هذا الامر من فعلهم ، ولكني أجدك مريضا وأنا أكره أن أملك بحديثي
ومسألتي ، وقام لينصرف فقال حذيفة : لا بل اجلس يا ابن أخي ، وتلق مني حديثهم،
وإن كربني ذلك ، فلا أحسبني إلا مفارقكم إني لا أحب أن تغتر بمنزلتهما في الناس ،
فهذا ما أقدر عليه من النصيحة لك ، ولأمير المؤمنين عليه السلام من الطاعة له ،
ولرسول الله (ص) وذكر منزلته ، فقال : يا أبا عبد الله حدثني بما عندك من امورهم ،
لأكون على بصيرة من ذلك فقال حذيفة : إذا والله لأخبرنك بخبر سمعته ورأيته ، ولقد
والله دلنا على ذلك من فعلهم على أنهم والله ما آمنوا بالله ولا برسوله طرفة عين.
واخبرك أن الله
تعالى أمر رسوله في سنة عشر من مهاجرته من مكة إلى المدينة أن يحج هو ويحج الناس
معه ، فأوحى إليه بذلك « وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من
كل فج عميق » فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله المؤذنين فأذنوا في أهل
السافلة والعالية : ألا إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد عزم على الحج في
عامه هذا ليفهم الناس حجهم ، ويعلمهم مناسكهم ، فيكون سنة لهم إلى آخر الدهر ، قال
فلم يبق أحد ممن دخل في الاسلام إلا حج مع رسول الله صلى الله عليه وآله لسنة
عشر ، ليشهدوا منافع لهم ، ويعلمهم حجهم، ويعرفهم مناسكهم ، وخرج رسول الله صلى الله
عليه وآله بالناس وخرج بنسائه معه ، وهي حجة الوداع فلما استتم حجهم وقضوا
مناسكهم ، وعرف الناس جميع ما يحتاجون إليه ، وأعلمهم أنه قد أقام لهم ملة إبراهيم
عليه السلام ، وقد أزال عنهم جميع ما أحدثه المشركون بعده ، ورد الحجر [ الحج ]
إلى حالته الاولى.
ودخل مكة فأقام
بها يوما واحدا ، فهبط جبرئيل عليه السلام بأول سورة العنكبوت فقال: يا محمد اقرأ
« بسم الله الرحمن الرحيم الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا
يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين *
أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون » فقال رسول الله صلى الله
عليه وآله : يا جبرئيل وما هذه الفتنة؟ فقال : يا محمد إن الله يقرئك السلام ويقول
: إني ما أرسلت نبيا قبلك إلا أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على امته من بعده
من يقوم مقامه ، ويحيي لهم سنته وأحكامه ، فالمطيعون لله فيما يأمرهم به رسول الله
هم الصادقون ، والمخالفون على أمره هم الكاذبون ، وقد دنا يا محمد مصيرك إلى ربك
وجنته ، وهو يأمرك أن تنصب لامتك من بعدك علي بن أبي طالب عليه السلام وتعهد إليه
فهو الخليفة القائم برعيتك وأمتك إن أطاعوه وإن عصوه ، وسيفعلون ذلك وهي الفتنة
التي تلوت الآي فيها ، وإن الله عزوجل يأمرك أن تعلمه جميع ما علمك ، وتستحفظه
جميع ما حفظك واستودعك ، فانه الامين المؤتمن يا محمد إني اخترتك من عبادي نبيا ،
واخترته لك وصيا.
قال : فدعا رسول
الله (ص) عليا عليه السلام يوما فخلا به يوم ذلك وليلته ، واستودعه العلم والحكمة
التي آتاه إياها ، وعرفه ما قال جبرئيل عليه السلام ، وكان ذلك في يوم عائشة بنت
أبي بكر ، فقالت : يا رسول الله لقد طالت استخلاؤك بعلي عليه السلام منذ اليوم؟ قال
: فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت : لم تعرض عني يا رسول الله
بأمر لعله يكون لي صلاحا ، فقال : صدقت وأيم الله إنه لأمر صلاح لمن أسعده الله
بقبوله والايمان به ، وقد أمرت بدعاء الناس جميعا إليه ، وستعلمين ذلك إذا أنا قمت
به في الناس.
قالت : يا رسول
الله ولم لا تخبرني به الان لأتقدم بالعمل به والاخذ بما فيه الصلاح ، قال :
سأخبرك به فاحفظيه إلى أن اومر بالقيام به في الناس جميعا ، فانك إن حفظتيه حفظك
الله في العاجلة والآجلة جميعا ، وكانت لك الفضيلة بالسبقة والمسارعة إلى الايمان
بالله ورسوله وإن أضعته وتركت رعاية ما القى إليك منه كفرت بربك ، وحبط أجرك ،
وبرئت منك ذمة الله وذمة رسوله ، وكنت من الخاسرين ، ولن يضر الله ذلك ولا رسوله.
فضمنت له حفظه ،
والايمان به ورعايته ، فقال : إن الله تعالى أخبرني أن عمري قد انقضى ، وأمرني أن
أنصب عليا للناس علما ، وأجعله فيهم إماما ، وأستخلفه كما استخلف الانبياء من قبلي
أوصياءهم ، واني صاير إلى أمر ربي ، وآخذ فيه بأمره، فليكن الامر منك تحت سويداء
قلبك إلى أن يأذن الله بالقيام به ، فضمنت له ذلك ، وقد اطلع الله نبيه على ما
يكون منها فيه ومن صاحبتها حفصة وأبويهما فلم تلبث أن أخبرت حفصة وأخبرت كل واحدة
منهما أباها فاجتمعا وأرسلا إلى جماعة الطلقاء والمنافقين فخبراهم بالأمر ، فأقبل
بعضهم على بعض وقالوا إن محمدا يريد أن يجعل هذا الامر في أهل بيته كسنة كسرى
وقيصر إلى آخر الدهر ، ولا والله مالكم في الحياة من حظ إن أفضى هذا الامر إلى علي
بن أبي طالب عليه السلام وإن محمدا عاملكم على ظاهركم ، وإن عليا يعاملكم على ما
يجد في نفسه منكم ، فأحسنوا النظر لأنفسكم في ذلك ، وقدموا رأيكم فيه.
ودار الكلام
فيما بينهم وأعادوا الخطاب وأجالوا الرأي فاتفقوا على أن ينفروا بالنبي صلى الله عليه
وآله ناقته على عقبة هرشى وقد كانوا عملوا مثل ذلك في غزوة تبوك فصرف الله الشر
عن نبيه (ص) فاجتمعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله من القتل والاغتيال
وإسقاء السم على غير وجه ، وقد كان اجتمع أعداء الله رسول الله (ص) من الطلقاء من
قريش والمنافقين من الانصار ومن كان في قلبه الارتداد من العرب في المدينة وما
حولها ، فتعاقدوا وتحالفوا على أن ينفروا به ناقته ، وكانوا أربعة عشر رجلا.
وكان من عزم
رسول الله صلى الله عليه وآله أن يقيم عليا عليه السلام وينصبه للناس بالمدينة
إذا قدم فسار رسول الله صلى الله عليه وآله يومين وليلتين فلما كان في اليوم
الثالث أتاه جبرئيل عليه السلام بآخر سورة الحجر فقال اقرء : « فوربك لنسألنهم
أجمعين * عما كانوا يعملون * فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين * إنا كفيناك
المستهزئين » قال : ورحل رسول الله صلى الله عليه وآله وأغذ السير مسرعا على
دخوله المدينة ، لينصب عليا عليه السلام علما للناس ، فلما كانت الليلة الرابعة
هبط جبرئيل في آخر الليل فقرأ عليه « يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ،
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ، والله يعصمك من الناس ، إن الله لا يهدي القوم
الكافرين » وهم الذين هموا برسول الله (ص) فقال رسول الله صلى الله عليه وآله :
أما تراني يا جبرئيل أغذ السير مجدا فيه لأدخل المدينة فأفرض ولايته على الشاهد
والغايب؟ فقال له جبرئيل : إن الله يأمرك أن تفرض ولايته غدا إذا نزلت منزلك ،
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : نعم يا جبرئيل غدا أفعل إن شاء الله.
وأمر رسول الله
صلى الله عليه وآله بالرحيل من وقته ، وسار الناس معه حتى نزل بغدير خم وصلى
بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه ودعا عليا عليه السلام ورفع رسول الله (ص) يد علي
اليسرى بيده اليمنى ، ورفع صوته بالولاء لعلي عليه السلام على الناس أجمعين وفرض
طاعته عليهم ، وأمرهم أن لا يتخلفوا عليه بعده ، وخبرهم أن ذلك عن أمر الله عزوجل
، وقال لهم : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا بلى يا رسول الله ، قال : فمن
كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ،
واخذل من خذله ، ثم أمر الناس أن يبايعوه فبايعه الناس جميعا ولم يتكلم منهم أحد.
وقد كان أبو بكر
وعمر تقدما إلى الجحفة ، فبعث وردهما ثم قال لهما النبي صلى الله عليه وآله
متهجما : يا ابن أبي قحافة ويا عمر بايعا عليا بالولاية من بعدي فقالا أمر من الله
ومن رسوله؟ فقال : وهل يكون مثل هذا عن غير أمر الله ، نعم أمر من الله ومن رسوله
، فقال : وبايعا ثم انصرفا ، وسار رسول الله صلى الله عليه وآله باقي يومه وليلته
حتى إذا دنوا من عقبة هرشى تقدمه القوم ، فتواروا في ثنية العقبة ، وقد حملوا معهم
دبابا ، وطرحوا فيها الحصا.
فقال حذيفة :
فدعاني رسول الله صلى الله عليه وآله ودعا عمار بن ياسر وأمره أن يسوقها وأنا
أقودها ، حتى إذا صرنا رأس العقبة ، ثار القوم من ورائنا ، ودحرجوا الدباب بين
قوائم الناقة، فذعرت وكادت أن تنفر برسول الله صلى الله عليه وآله ، فصاح بها
النبي (ص) أن اسكني ، وليس عليك بأس. فأنطقها الله تعالى بقول عربي مبين فصيح ،
فقالت : والله يا رسول الله صلى الله عليه وآله لا أزلت يدا عن مستقر يد، ولا
رجلا عن موضع رجل ، وأنت على ظهري ، فتقدم القوم إلى الناقة ليدفعوها فأقبلت أنا
وعمار نضرب وجوههم بأسيافنا ، وكانت ليلة مظلمة فزالوا عنا وأيسوا مما ظنوا ، وقد
روا [ودبروا].
فقلت : يا رسول
الله من هؤلاء القوم الذين يريدون ما ترى؟ فقال صلى الله عليه وآله : يا حذيفة
هؤلاء المنافقون في الدنيا والاخرة ، فقلت : ألا تبعث إليهم يا رسول الله رهطا
فيأتوا برؤوسهم؟ فقال إن الله أمرني أن أعرض عنهم ، فأكره أن تقول الناس إنه دعا
اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا ، فقاتل بهم حتى إذا ظهر على عدوه ،
أقبل عليهم فقتلهم ، ولكن دعهم يا حذيفة ، فان الله لهم بالمرصاد ، وسيمهلهم قليلا
ثم يضطرهم إلى عذاب غليظ.
فقلت : ومن
هؤلاء القوم المنافقون يا رسول الله صلى الله عليه وآله أمن المهاجرين أم من الانصار؟
فسماهم لي رجلا رجلا حتى فرغ منهم ، وقد كان فيهم أناس أنا كاره أن يكونوا فيهم ،
فأمسكت عند ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله يا حذيفة كأنك شاك في بعض
من سميت لك ، ارفع رأسك إليهم فرفعت طرفي إلى القوم ، وهم وقوف على الثنية ، فبرقت
برقة فأضاءت جميع ما حولنا ، وثبتت البرقة حتى خلتها شمسا طالعة فنظرت والله إلى
القوم فعرفتهم رجلا رجلا ، فاذا هم كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله ،
وعدد القوم أربعة عشر رجلا، تسعة من قريش ، وخمسة من ساير الناس ، فقال له الفتى
: سمهم لنا يرحمك الله تعالى! قال حذيفة : هم والله أبو بكر ، وعمر ، وعثمان وطلحة
، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبى وقاص ، وأبو عبيدة بن الجراح ومعاوية بن أبي
سفيان ، وعمرو بن العاص ، هؤلاء من قريش ، وأما الخمسة الاخر فأبو موسى الأشعري
والمغيرة بن شعبة الثقفي ، وأوس بن الحدثان البصري ، وأبو هريرة ، وأبو طلحة
الانصاري.
قال حذيفة : ثم
انحدرنا من العقبة ، وقد طلع الفجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله فتوضأ
وانتظر أصحابه حتى انحدروا من العقبة واجتمعوا ، فرأيت القوم بأجمعهم وقد دخلوا مع
الناس وصلوا خلف رسول الله (ص) ، فلما انصرف من صلاته التفت فنظر إلى أبي بكر وعمر
وأبي عبيدة يتناجون فأمر مناديا فنادى في الناس لا تجتمع ثلاثة نفر من الناس
يتناجون فيما بينهم بسر ، وارتحل رسول الله صلى الله عليه وآله بالناس من منزل
العقبة.
فلما نزل المنزل
الاخر رأى سالم مولى حذيفة أباب كر وعمر وأبا عبيدة يسار بعضهم بعضا ، فوقف عليهم
، وقال أليس قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا تجتمع ثلاثة نفر من
الناس على سر واحد ، والله لتخبروني فيما أنتم ، وإلا أتيت رسول الله صلى الله عليه
وآله حتى اخبره بذلك منكم ، فقال أبو بكر : يا سالم عليك عهد الله وميثاقه لئن
خبرناك بالذي نحن فيه وبما اجتمعنا له ، إن أحببت أن تدخل معنا فيه دخلت وكنت رجلا
منا ، وإن كرهت ذلك كتمته علينا ، فقال سالم : لكم ذلك وأعطاهم بذلك عهده وميثاقه
، وكان سالم شديد البغض والعداوة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقد عرفوا ذلك
منه.
فقالوا له إنا
قد اجتمعنا على أن نتحالف ونتعاقد على أن لا نطيع محمدا فيما فرض علينا من ولاية
علي بن أبي طالب بعده فقال لهم سالم : عليكم عهد الله وميثاقه إن في هذا الامر
كنتم تخوضون وتتناجون؟ قالوا أجل علينا عهد الله وميثاقه أنا إنما كنا في هذا
الامر بعينه لا في شيء سواه ، قال سالم : وأنا والله أول من يعاقدكم على هذا
الامر، ولا يخالفكم عليه ، إنه والله ما طلعت الشمس على أهل بيت أبغض إلى من بني
هاشم ولا في بني هاشم أبغض إلى ولا أمقت من علي بن أبي طالب فاصنعوا في هذا الامر
ما بدا لكم فاني واحد منكم ، فتعاقدوا من وقتهم على هذا الامر ثم تفرقوا.
فلما أراد رسول
الله صلى الله عليه وآله المسير أتوه فقال لهم : فيما كنتم تتناجون في يومكم هذا
وقد نهيتكم من النجوى؟ فقالوا : يا رسول الله ما التقينا غير وقتنا هذا ، فنظر إليهم
النبي صلى الله عليه وآله مليا ثم قال لهم : « أنتم أعلم أم الله ، ومن أظلم
ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون ».
ثم سار حتى دخل
المدينة واجتمع القوم جميعا وكتبوا صحيفة بينهم على ذكر ما تعاهدوا عليه في هذا
الامر ، وكان أول ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب عليه السلام وأن
الامر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ، ليس بخارج منهم ، وشهد بذلك أربعة
وثلاثون رجلا : هؤلاء أصحاب العقبة وعشرون رجلا آخر ، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة
بن الجراح وجعلوه أمينهم عليها.
قال : فقال
الفتى يا أبا عبد الله يرحمك الله هبنا نقول إن هؤلاء القوم رضوا بأبي بكر وعمر
وأبي عبيدة لانهم من مشيخة قريش ، فما بالهم رضوا بسالم وهو ليس من قريش ولا من
المهاجرين ولا من الانصار وإنما هو عبد لامرأة من الانصار؟ قال حذيفة : يا فتى إن
القوم أجمع تعاقدوا على إزالة هذا الامر عن علي بن أبي طالب عليه السلام حسدا
منهم له وكراهة لأمره ، واجتمع لهم مع ذلك ما كان في قلوب قريش من سفك الدماء ،
وكان خاصة رسول الله صلى الله عليه وآله وكانوا يطلبون الثأر الذي أوقعه رسول
الله بهم من علي من بني هاشم ، فإنما كان العقد على إزالة الامر عن علي عليه السلام
من هؤلاء الاربعة عشر ، وكانوا يرون أن سالما رجل منهم.
فقال الفتى :
فخبرني يرحمك الله عما كتب جميعهم في الصحيفة لأعرفه ، فقال حذيفة حدثتني بذلك
أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة أبي بكر أن القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا
في ذلك ، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبرونه في ذلك ، حتى اجتمع رأيهم على ذلك
فأمروا سعيد بن العاص الاموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم ، وكانت نسخة الصحيفة :
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اتفق عليه الملاء من أصحاب محمد رسول الله صلى الله
عليه وآله من المهاجرين والانصار الذين مدحهم الله في كتابه على لسان نبيه صلى الله
عليه وآله ، اتفقوا جميعا بعد أن أجهدوا في رأيهم ، وتشاوروا في أمرهم ، وكتبوا هذه
الصحيفة نظرا منهم إلى الاسلام وأهله على غابر الايام ، وباقي الدهور ، ليقتدي بهم
من يأتي من المسلمين من بعدهم.
أما بعد فان
الله بمنه وكرمه بعث محمدا صلى الله عليه وآله رسولا إلى الناس كافة بدينه الذي
ارتضاه لعباده ، فأدى من ذلك ، وبلغ ما أمره الله به ، وأوجب علينا القيام بجميعه
حتى إذا أكمل الدين ، وفرض الفرائض ، وأحكم السنن ، اختار الله له ما عنده فقبضه
إليه مكرما محبورا من غير أن يستخلف أحدا من بعده ، وجعل الاختيار إلى المسلمين
يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم ، وإن للمسلمين في رسول الله أسوة حسنة
، قال الله تعالى « لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم
الاخر » وإن رسول الله صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا لئلا يجري ذلك في أهل
بيت واحد ، فيكون إرثا دون سائر المسلمين ، ولئلا يكون دولة بين الاغنياء منهم ،
ولئلا يقول المستخلف إن هذا الامر باق في عقبه من والد إلى ولد إلى يوم القيامة.
والذي يجب على
المسلمين عند مضي خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في
امورهم ، فمن رأوه مستحقا لها ولوه أمورهم ، وجعلوه القيم عليهم ، فانه لا يخفى
على أهل كل زمان من يصلح منهم للخلافة.
فان ادعى مدع من
الناس جميعا أن رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف رجلا بعينه نصبه للناس ونص
عليه باسمه ونسبه ، فقد أبطل في قوله ، وأتى بخلاف ما يعرفه أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله ، وخالف على جماعة المسلمين.
وإن ادعى مدع أن
خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله إرث ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله
يورث ، فقد أحال في قوله ، لان رسول الله قال : نحن معاشر الانبياء لا نورث ما
تركناه صدقة.
وإن ادعى مدع أن
الخلافة لا تصلح إلا لرجل واحد من بين الناس وأنها مقصورة فيه ، ولا تنبغي لغيره ،
لأنها تتلو النبوة ، فقد كذب لان النبي صلى الله عليه وآله قال: «أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم».
وإن ادعى مدع
أنه مستحق للخلافة والامامة بقربه من رسول الله صلى الله عليه وآله ثم هي
مقصورة عليه وعلى عقبه ، يرثها الولد منهم عن والده ، ثم هي كذلك في كل عصر وزمان
لا تصلح لغيرهم ، ولا ينبغي أن يكون لاحد سواهم إلى أن يرث الله الارض ومن عليها ،
فليس له ولا لولده ، وإن دنا من النبي نسبه ، لان الله يقول ـ وقوله القاضي على كل
أحد : « إن أكرمكم عند الله أتقاكم » وقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « إن
ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وكلهم يد على من سواهم ».
فمن آمن بكتاب
الله وأقر بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله فقد استقام وأناب ، وأخذ بالصواب
، ومن كره ذلك من فعالهم فقد خالف الحق والكتاب ، وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه ،
فان في قتله صلاحا للامة ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله من جاء إلى
امتي وهم جميع ففرقهم فاقتلوه ، واقتلوا الفرد كائنا من كان من الناس ، فان الاجتماع
رحمة ، والفرقة عذاب ، ولا تجتمع أمتي على الضلال أبدا ، وإن المسلمين يد واحدة
على من سواهم ، وأنه لا يخرج من جماعة المسلمين إلا مفارق ومعاند لهم ، ومظاهر
عليهم أعداءهم فقد أباح الله ورسوله دمه وأحل قتله.
وكتب سعيد بن
العاص باتفاق ممن أثبت اسمه وشهادته آخر هذه الصحيفة في المحرم سنة عشرة من الهجرة
، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
ثم دفعت الصحيفة
إلى أبي عبيدة بن الجراح فوجه بها إلى مكة فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى
أوان عمر بن الخطاب ، فاستخرجها من موضعها ، وهي الصحيفة التي تمنى أمير المؤمنين
عليه السلام لما توفي عمر فوقف به وهو مسجى بثوبه ، قال: ما أحب إلى أن ألقى الله
بصحيفة هذا المسجى.
ثم انصرفوا وصلى
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالناس صلاة الفجر ،ثم جلس في مجلسه يذكر
الله تعالى حتى طلعت الشمس ، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجراح فقال له : بخ بخ من
مثلك وقد أصبحت أمين هذه الامة؟ ثم تلا « فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم
يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم
مما يكسبون » لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الامة « يستخفون من الناس ولا يستخفون من
الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا ».
ثم قال لقد أصبح
في هذه الامة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية
وعلقوها في الكعبة وإن الله تعالى يمتعهم ليبتليهم ، ويبتلي من يأتي بعدهم ، تفرقة
بين الخبيث والطيب ، ولولا أنه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه
لقدمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة :
فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر عند قول رسول الله صلى الله عليه وآله هذه
المقالة وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم من نفسه شيئا ولم يخف على أحد ممن حضر
مجلس رسول الله (ص) ذلك اليوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله إياهم عنى بقوله
، ولهم ضرب تلك الامثال بما تلا من القرآن.
قال : ولما قدم
رسول الله صلى الله عليه وآله من سفره ذلك ، نزل منزل أم سلمة زوجته فأقام بها
شهرا لا ينزل منزلا سواه من منازل أزواجه كما كان يفعل قبل ذلك ، قال فشكت عايشة
وحفصة ذلك إلى أبويهما ، فقالا لهما إنا لنعم لم صنع ذلك ولاي شيء هو ، امضيا إليه
فلاطفاه في الكلام ، وخادعاه عن نفسه ، فإنكما تجدانه حييا كريما ، فلعلكما تسلان
ما في قلبه ، وتستخرجان سخيمته.
قال : فمضت
عايشة وحدها إليه فأصابته في منزل ام سلمة وعنده علي بن أبي طالب عليه السلام
فقال لها النبي : ما جاء بك يا حميراء؟ قالت : يا رسول الله أنكرت تخلفك عن منزلك
هذه المرة وأنا أعوذ بالله من سخطك يا رسول الله ، فقال : لو كان الامر كما تقولين
لما أظهرت سرا أوصيتك بكتمانه ، لقد هلكت وأهلكت أمة من الناس.
قال : ثم أمر
خادمة سلمة فقال : اجمعي هؤلاء يعني نساءه فجمعتهن في منزل أم سلمة، فقال لهن :
اسمعن ما أقول لكن ، وأشار بيده إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال لهن : هذا
أخي ووصيي ووارثي والقائم فيكن وفي الامة من بعدي فأطعنه فيما يأمركن به ، ولا
تعصينه فتهلكن بمعصيته ، ثم قال : يا علي أوصيك بهن فأمسكهن ما أطعن الله وأطعنك ،
وأنفق عليهن من مالك ، ومرهن بأمرك وانههن عما يريبك ، وخل سبيلهن إن عصينك ، فقال
علي عليه السلام : يا رسول الله إنهن نساء وفيهن الوهن وضعف الرأي ، فقال : ارفق
بهن ما كان الرفق أمثل بهن فمن عصاك منهن فطلقها طلاقا يبرأ الله ورسوله منها ،
قال : وكل نساء النبي قد صمتن فلم يقلن شيئا فتكلمت عايشة فقالت : يا رسول الله
ماكنا لتأمرنا بشيء فنخالفه بما سواه ، فقال لها : بلى : يا حميراء قد خالفت أمري
أشد خلاف ، وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصنه بعدي ، ولتخرجن من البيت الذي
اخلفك فيه متبرجة قد حف بك فئام من الناس ، فتخالفينة ظالمة له عاصية لربك
ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب ، ألا إن ذلك كائن ، ثم قال: قمن فانصرفن إلى
منازلكن قال فقمن فانصرفن.
قال : ثم إن
رسول الله صلى الله عليه وآله جمع أولئك النفر ومن مالأهم على علي عليه السلام
وطابقهم على عداوته ، ومن كان من الطلقاء والمنافقين ، وكانوا زهاء أربعة آلاف رجل
، فجعلهم تحت يدي اسامة بن زيد مولاه ، وأمره عليهم ، وأمره بالخروج إلى ناحية من
الشام ، فقالوا : يا رسول لله إنا قدمنا من سفرنا الذي كنا فيه معك ، ونحن نسألك
أن تأذن لنا في المقام لنصلح من شأننا ما يصلحنا في سفرنا ، قال : فأمرهم أن
يكونوا في المدينة ريث ما يحتاجون إليه ، وأمر اسامة بن زيد فعسكر بهم على اميال
من المدينة فأقام بمكانه الذي حد له رسول الله صلى الله عليه وآله منتظرا للقوم
أن يوافوه إذا فرغوا من أمورهم وقضاء حوائجهم ، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه
وآله بما صنع من ذلك أن تخلو المدينة منهم ، ولا يبقى بها أحد من المنافقين.
قال : فهم على
ذلك من شأنهم ورسول الله صلى الله عليه وآله رائب يحثهم ويأمرهم بالخروج
والتعجيل إلى الوجه الذي ندبهم إليه ، إذ مرض رسول الله صلى الله عليه وآله
مرضه الذي توفي فيه ، فلما رأوا ذلك تباطؤا عما أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله
من الخروج ، فأمر قيس بن عبادة وكان سباق رسول الله صلى الله عليه وآله والحباب
بن المنذر في جماعة من الانصار يرحلوا بهم إلى عسكرهم ، فأخرجهم قيس بن سعد
والحباب بن المنذر حتى ألحقاهم بعسكرهم ، وقالا لأسامة إن رسول الله لم يرخص لك في
التخلف ، فسر من وقتك هذا ليعلم رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك ، فارتحل بهم
اسامة وانصرف قيس والحباب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأعلماه برحلة
القوم، فقال لهما : إن القوم غير سائرين.
قال : فخلا أبو
بكر وعمر وأبو عبيدة بأسامة وجماعة من أصحابه فقالوا إلى أين ننطلق ونخلي المدينة
ونحن أحوج ما كنا إليها وإلى المقام بها؟ فقال لهم : وما ذلك؟ قالوا إن رسول الله
قد نزل به الموت ، ووالله لئن خلينا المدينة لتحدثن بها امور لا يمكن إصلاحها ،
ننظر ما يكون من أمر رسول الله صلى الله عليه وآله ثم المسير بين أيدينا ، قال
: فرجع القوم إلى المعسكر الاول وأقاموا به وبعثوا رسولا يتعرف لهم أمر رسول الله
(ص) فأتى الرسول إلى عائشة فسألها عن ذلك سرا ، فقالت امض إلى أبي وعمر ومن معهما
وقل لهما : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل فلا يبرحن أحد منكم وأنا
أعلمكم بالخبر وقتا بعد وقت.
واشتدت علة رسول
الله صلى الله عليه وآله فدعت عائشة صهيبا فقالت : امض إلى أبي بكر وأعلمه أن
محمدا في حال لا يرجى ، فهلم إلينا أنت وعمر وأبو عبيدة ومن رأيتم أن يدخل معكم،
وليكن دخولكم في الليل سرا ، قال : فأتاهم الخبر فأخذوا بيد صهيب فأدخلوه إلى
اسامة فأخبروه الخبر ، وقالوا له كيف ينبغي لنا أن نتخلف عن مشاهدة رسول الله (ص)
واستأذنوه في الدخول ، فأذن لهم وأمرهم أن لا يعلم بدخولهم أحد ، وإن عوفي رسول الله رجعتم إلى عسكركم ، وإن حدث
حادث الموت عرفونا ذلك لنكون في جماعة الناس.
فدخل أبو بكر
وعمر وأبو عبيدة ليلا المدينة ، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل فأفاق
بعض الافاقة فقال : لقد طرق ليلتنا هذه المدينة شر عظيم ، فقيل له : وما هو يا
رسول الله؟ فقال : إن الذين كانوا في جيش اسامة قد رجع منهم نفر يخالفون عن أمري،
ألا إني إلى الله منهم بريء ، ويحكم نفذوا جيش اسامة ، فلم يزل يقول ذلك حتى قالها
مرات كثيرة ، قال : وكان بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله يؤذن بالصلاة في
كل وقت [ صلاة ] فان قدر على الخروج تحامل وخرج وصلى بالناس ، وإن هو لم يقدر على
الخروج أمر علي بن أبي طالب عليه السلام فصلى بالناس ، وكان علي بن أبي طالب عليه
السلام والفضل بن العباس لا يزايلانه في مرضه ذلك.
فلما أصبح رسول
الله صلى الله عليه وآله من ليلته تلك التي قدم فيها القوم الذين كانوا تحت يدي
اسامة ، أذن بلال ثم أتاه يخبره كعادته ، فوجده قد ثقل ، فمنع من الدخول إليه ،
فأمرت عائشة صهيبا أن يمضي إلى أبيها فيعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وآله
قد ثقل في مرضه ، وليس يطيق النهوض إلى المسجد ، وعلي بن أبي طالب عليه السلام قد
شغل به وبمشاهدته عن الصلاة بالناس ، فاخرج أنت إلى المسجد فصل بالناس فإنها حالة
تهنئك وحجة لك بعد اليوم ، قال : فلم يشعر الناس وهم في المسجد ينتظرون رسول الله
(ص) أو عليا عليه السلام يصلي بهم كعادته التي عرفوها في مرضه ، إذ دخل أبو بكر المسجد
وقال : إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد ثقل ، وقد أمرني أن أصلي بالناس ،
فقال له رجل من أصحاب رسول الله (ص) وأنى لك ذلك وأنت في جيش اسامة ، ولا والله لا
أعلم أحدا بعث إليك ولا أمرك بالصلاة.
ثم نادى الناس بلال فقال : على رسلكم رحمكم الله
لاستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في ذلك ، ثم أسرع حتى أتى الباب فدقه دقا
شديدا فسمعه رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ما هذا الدق العنيف؟ فانظروا
ما هو؟ قال : فخرج الفضل بن العباس ففتح الباب فاذا بلال ، فقال : ما وراءك يا
بلال؟ فقال : إن أبا بكر قد دخل المسجد وقد تقدم حتى وقف في مقام رسول الله صلى الله
عليه وآله، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله أمره بذلك ، فقال : أوليس أبو
بكر مع جيش أسامة ، هذا هو والله الشر العظيم الذى طرق البارحة المدينة ، لقد
أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله بذلك ، ودخل الفضل وأدخل بلالا معه ، فقال
: ما وراءك يا بلال؟ فأخبر رسول الله الخبر فقال : أقيموني أقيموني أخرجوا بي إلى
المسجد ، والذي نفسي بيده ، قد نزلت بالإسلام نازلة وفتنة عظيمة من الفتن.
ثم خرج معصوب
الرأس يتهادى بين علي والفضل بن العباس ، ورجلاه تجران في الارض حتى دخل المسجد وأبو
بكر قائم في مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وقد أطاف به عمر وأبو عبيدة
وسالم وصهيب ، والنفر الذين دخلوا ، وأكثر الناس قد وقفوا عن الصلاة ينتظرون ما
يأتي بلال ، فلما رأى الناس رسول الله صلى الله عليه وآله قد دخل المسجد وهو
بتلك الحالة العظيمة من المرض ، أعظموا ذلك.
وتقدم رسول الله
صلى الله عليه وآله فجذب أبا بكر من ورائه فنحاه عن المحراب وأقبل أبو بكر
والنفر الذين كانوا معه فتواروا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وأقبل الناس
فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالس ، وبلال يسمع الناس التكبير
حتى قضى صلاته ثم التفت فلم ير أبا بكر فقال أيها الناس ألا تعجبون من ابن أبي
قحافة وأصحابه الذين أنفذتهم وجعلتهم تحت [ يدي ] اسامة ، وأمرتهم بالمسير إلى
الوجه الذي وجهوا إليه فخالفوا ذلك ورجعوا إلى المدينة ابتغاء الفتنة ، ألا وإن
الله قد أركسهم فيها ، اعرجوا بي إلى المنبر.
فقام وهو مربوط
حتى قعد على ادنى مرقاة فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إني قد جاءني
من أمر ربي ما الناس اليه صائرون ، وإني قد تركتكم على الحجة الواضحة ليلها
كنهارها ، فلا تختلفوا من بعدي كما اختلف من كان قبلكم من بني اسرائيل أيها الناس
إنه لا أحل لكم إلا ما أحله القرآن ، ولا احرم عليكم إلا ما حرمه القرآن ، وإني
مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا ولن تزلوا : كتاب الله وعترتي أهل
بيتي هما الخليفتان فيكم ، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ، فأسائلكم بماذا
خلفتموني فيهما؟ وليذادن يومئذ رجال عن حوضي كما تذاد الغريبة من الابل ، فتقول
رجال أنا فلان وأنا فلان ، فأقول أما الاسماء فقد عرفت ولكنكم ارتددتم من بعدي ،
فسحقا لكم سحقا.
ثم نزل عن
المنبر وعاد إلى حجرته ، ولم يظهر أبو بكر ولا أصحابه حتى قبض رسول الله صلى الله
عليه وآله ، وكان من الانصار وسعد من السقيفة ما كان ، فمنعوا أهل بيت نبيهم
حقوقهم التي جعلها الله عزوجل لهم ، وأما كتاب الله فمزقوه كل ممزق ، وفيما أخبرتك
يا أخا الانصار من خطب معتبر ، لمن أحب الله هدايته فقال الفتى : سم لي القوم
الاخرين الذين حضروا الصحيفة ، وشهدوا فيها ، فقال حذيفة : أبو سفيان ، وعكرمة بن
أبي جهل ، وصفوان بن امية بن خلف ، وسعيد بن العاص ، وخالد بن الوليد ، وعياش بن
أبي ربيعة ، وبشير بن سعد ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام، وصهيب بن سنان ، وأبو الاعور
السلمي ، ومطيع بن الاسود المدري ، وجماعة من هؤلاء ممن سقط عني إحصاء عددهم.
فقال الفتى : يا
أبا عبد الله ما هؤلاء في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قد انقلب الناس
أجمعون بسببهم؟ فقال حذيفة : إن هؤلاء رؤوس القبايل وأشرافها ، وما من رجل من
هؤلاء إلا ومعه من الناس خلق عظيم ، يسمعون له ويطيعون ، واشربوا في قلوبهم من حب
أبي بكر ، كما اشرب قلوب بنى اسرائيل من حب العجل والسامري حتى تركوا هارون
واستضعفوه.
قال الفتى : فاني اقسم بالله حقا حقا أني لا
أزال لهم مبغضا ، وإلى الله منهم ومن أفعالهم متبرئا ، ولا زلت لأمير المؤمنين
عليه السلام متواليا ولأعاديه معاديا ، ولالحقن به وإني لأؤمل أن ارزق الشهادة
معه وشيكا إن شاء الله تعالى.
ثم ودع حذيفة
وقال : هذا وجهي إلى أمير المؤمنين عليه السلام فخرج إلى المدينة واستقبله وقد
شخص من المدينة يريد العراق ، فسار معه إلى البصرة ، فلما التقى أمير المؤمنين
عليه السلام مع أصحاب الجمل كان ذلك الفتى أول من قتل من أصحاب أمير المؤمنين
وذلك أنه لما صاف القوم واجتمعوا على الحرب أحب أمير المؤمنين عليه السلام أن
يستظهر عليهم بدعائهم إلى القرآن ، وحكمه ، فدعا بمصحف وقال : من يأخذ هذا المصحف
يعرضه عليهم ويدعوهم إلى ما فيه فيحيي ما أحياه ، ويميت ما أماته؟ قال : وقد شرعت
الرماح بين العسكرين حتى لو أراد امرؤ أن يمشي عليها لمشى ، قال فقام الفتى فقال :
يا أمير المؤمنين أنا آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه ، قال : فأعرض عنه
أمير المؤمنين عليه السلام ثم نادى الثانية من يأخذ هذا المصحف فيعرضه عليهم
ويدعوهم إلى ما فيه؟ فلم يقم إليه أحد ، فقام الفتى وقال : يا أمير المؤمنين أنا
آخذه وأعرضه عليهم وأدعوهم إلى ما فيه ، قال : فأعرض عنه أمير المؤمنين عليه اسلام
ثم نادى الثالثة فلم يقم إليه أحد من الناس إلا الفتى وقال : أنا آخذه وأعرضه
عليهم ، وأدعوهم إلى ما فيه ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنك إن فعلت ذلك
فانك لمقتول؟ فقال : والله يا أمير المؤمنين عليه السلام ما شيء أحب إلى من أن
ارزق الشهادة بين يديك ، وأن اقتل في طاعتك ، فأعطاه أمير المؤمنين عليه السلام
المصحف ، فتوجه به نحو عسكرهم فنظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام وقال : إن
الفتى ممن حشى الله قلبه نورا وإيمانا ، وهو مقتول ، ولقد أشفقت عليه من ذلك ، ولن
يفلح القوم بعد قتلهم إياه.
فمضى الفتى
بالمصحف حتى وقف بإزاء عسكر عائشة وطلحة والزبير حينئذ عن يمين الهودج وشماله ،
وكان له صوت فنادى بأعلى صوته : معاشر الناس هذا كتاب الله فان أمير المؤمنين
يدعوكم إلى كتاب الله والحكم بما أنزل الله فيه ، فأنيبوا إلى طاعة الله والعمل
بكتابه ، قال : وكانت عائشة وطلحة والزبير يسمعون قوله ، فأمسكوا ، فلما رأى ذلك
أهل عسكرهم بادروا إلى الفتى والمصحف في يمينه فقطعوا يده اليمنى ، فتناول المصحف
بيده اليسرى وناداهم بأعلى صوته مثل ندائه أول مرة ، فبادروا اليه وقطعوا يده
اليسرى ، فتناول المصحف واحتضنه ودماؤه تجرى عليه وناداهم مثل ذلك، فشدوا عليه
فقتلوه ، ووقع ميتا فقطعوه إربا اربا ، ، ولقد رأينا شحم بطنه أصفر.
قال : وأمير
المؤمنين عليه السلام واقف يراهم ، فأقبل على أصحابه وقال اني والله ما كنت في شك
ولا لبس من ضلالة القوم وباطلهم ، ولكن أحببت أن يتبين لكم جميعا ذلك من بعد قتلهم
الرجل الصالح حكيم بن جبلة العبدي في رجال صالحين معه ، وتضاعف ذنوبهم بهذا الفتى
وهو يدعوهم إلى كتاب الله ، والحكم به ، والعمل بموجبه ، فثاروا إليه فقتلوه ، ولا
يرتاب بقتلهم مسلم ، ووقدت الحرب واشتدت.
فقال أمير
المؤمنين عليه السلام : احملوا بأجمعكم عليهم بسم الله حم لا ينصرون ، وحمل هو
بنفسه والحسنان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله معه ، فغاص في القوم بنفسه
فوالله ما كان الا ساعة من نهار حتى رأينا القوم كله شلايا يمينا وشمالا صرعى تحت
سنابك الخيل ، ورجع أمير المؤمنين عليه السلام مؤيدا منصورا وفتح الله عليه ومنحه
أكتافهم ، وأمر بذلك الفتى ، وجميع من قتل معه ، فلفوا في ثيابهم بدمائهم لم تنزع عنهم
ثيابهم وصلى عليهم ودفنهم ، وأمرهم أن لا يجهزوا على جريح، ولا يتبعوا لهم مدبرا ،
وأمر بما حوى العسكر فجمع له ، فقسمه بين أصحابه وأمر محمد بن أبي بكر أن يدخل
اخته البصرة ، فيقيم بها أياما ثم يرحلها إلى منزلها بالمدينة.
قال عبد الله بن
سلمة : كنت ممن شهد حرب أهل الجمل ، فلما وضعت الحرب أوزارها ، رأيت أم ذلك الفتى
واقفة عليه ، فجعلت تبكي عليه وتقبله وأنشأت يقول:
يا رب إن مسلما
أتاهم
يتلو
كتاب الله لا يخشاهم
يأمرهم بالأمر
من مولاهم
فخضبوا
من دمه قناهم
وامهم قائمة
تراهم
تأمرهم
بالغي لا تنهاهم
المصدر : بحار الأنوار
المؤلف : العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي
الجزء والصفحة : جزء 28 / صفحة [ 86 ]
تاريخ النشر : 2025-07-21