موت بطليموس وحالة البلاد بعد وفاته
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 86 ــ 89
2025-11-17
52
مات «بطليموس أبيفانس» وهو في ميعة الشباب؛ فقد حضره الموت وهو لم يبلغ بعد التاسعة والعشرين من عمره. والمظنون أن وفاته لم تكن طبيعية أمام العالم وقتئذ، ومن الغريب أنه لم تصل إلينا أية معلومات عن سبب وفاته فيما كتبه المؤرخ «بوليبيوس» الذي كان معاصرًا له، وكل ما عرفناه عن وفاته وصل إلينا من المؤرخين المتأخرين الذين جاءوا بعده؛ فقد قصوا علينا أنه مات بالسم الذي دسه له قواده في اللحظة التي كان يتأهب فيها لمهاجمة «سليوكوس الرابع» ملك سوريا، وإن صح أنه قد مات بالسم فإن ذلك كان جزاء وفاقًا؛ إذ قد قُضي عليه بنفس الطريقة التي قضى بها على وزيره «أريستومنيس» الذي جرعه السم، وكان الغدر من شيمته. والواقع أن قواده كانوا يخشون أن يطلب إليهم المساعدة بالمال بوصفهم سماره الذين كانوا يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وبذلك يحرمهم مما جمعوه من مال كانوا قد اغتصبوه من الشعب الفقير المعوز، والأغرب من هذا في نظرهم أنه كان سيستعمله في حرب على أقرب الناس إليه، وأعني بذلك «سليوكوس الرابع» أخ «كليوباترا» زوجه، ومن الغريب أن هذا هو نفس ما قيل عن «سيلوكوس الرابع» عندما لاقى نفس المصير الذي لاقاه «بطليموس الخامس».
وعلى أية حال فإن البلاد لم تفقد بموت «بطليموس» شيئًا يدعو إلى الحزن والأسى، وعلى الرغم من أن «بطليموس» كان يحمل لقبًا يعني أنه كان محسنًا فإنه كان صاحب مزاج حاد قاسٍ، وقد أظهر استمرار قيام الثورة في داخل البلاد كما ألمحنا لذلك من قبل أنه لم يكن محبوبًا بين أفراد الشعب. حقًّا إنه أقام معابد جديدة، وأصلح أخرى كانت مخربة كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد عند شرح ما قام به من أعمال على غرار ما فعله أسلافه، ولكن هذه الأعمال كانت تحتمها السياسة الداخلية في البلاد، ويدل مرسوم «منف» الذي صدر في عهده على أن رجال الدين كانوا راضين عنه، ولكن هذا الرضى — كما برهنت الأحداث — لم يكن إلا رضى مؤقتًا بسبب إعفائهم من الضرائب، وعلى ذلك فإن ما ذكره رجال الدين من عقود مدح وثناء لم يكن بالشيء الجديد فتلك شنشنة نعرفها فيهم من قبل، ولا أدل على ذلك مما صاغوه لمن قبله من ملوك البطالمة من آيات المديح والإطراء لنفس السبب. وعلى أية حال فإن ما ذكره الكهنة هنا كان في مناسبة سعيدة بالنسبة للملك، وهي عيد تتويجه وعيد ميلاده، وفي تلك المناسبة كان ينفق الملك فيها عن سعة وسخاء من أجل المظاهر الخارجية، ولكن لم يلبث «بطليموس الخامس» ورجال حكومته أن أصبحوا في حاجة إلى سد التكاليف الباهظة التي كانت تتطلبها الأحوال، والتي اضطر من أجلها أن يؤجر دخل أملاكه الخارجية، وكان من جراء العجز الذي حدث بسبب ذلك أن رجع الملك فيما كان قد نزل عنه من ضرائب من قبل. وقد رأينا أن الاضطرابات المالية — وهي التي تعزوها التقاليد إلى سلفيات بالقوة قد سببت موت «بطليموس الخامس» كما أسلفنا. ولا نزاع في أن كل ذلك كان يفرض إسرافًا في غير موضعه، وكذلك يسبب فوضى وتصرفات مالية خاطئة أدت إلى هذا الإجراء العنيف، وأعني بذلك: القضاء على حياة هذا الملك. هذا، ويتهم المؤرخ «ديدور» الملك «بطليموس الخامس» بأنه سار سيرة المستبد لا سيرة الملك؛ وذلك لأنه وإن كانت مصر بلدًا تعود على حكم الفرد، فإن الاستبداد كان معناه في أغلب الأحيان عادة ابتزاز المال ظلمًا وعدوانًا. هذا، وما لدينا من معلومات عن «بطليموس الخامس» يدل على أية حال أنه كان مشهورًا بالعنف، وهذه كانت صفة من صفاته البارزة، ويقال: إن «بطليموس» هذا الذي كان والده فريسة لخلاعته ومجونه يمتاز بشيء من النشاط البدني استعمله في الصيد والقنص والمبارزة، وكان انهماكه في مثل هذه الرياضة هو الذي جعل النعاس يغشوه في الاجتماعات الرسمية بسبب شدة التعب. هذا، وكان تواقًا للإصغاء لمن كان يمتدح أعمال البطولة التي كان يقوم بها في الصيد والقنص، ولم يكن للمالقين والمتزلفين من حديث أمامه إلا ما قام به من بطولات في هذا الميدان؛ فقد قص علينا «بوليبيوس» أن «فيلوبومين» قد استقبل على مائدته مبعوثًا من قبل «بطليموس الخامس»، وقد دبج المبعوث مقالًا طويلًا فاخرًا قاصرًا على مديح «بطليموس»، اقتبس فيه ما يدل على جسارته ومهارته في الصيد والقنص، وكذلك عن علمه وتجاربه في ركوب الخيل والمباراة، وأخيرًا أراد أن يثبت صدق مقاله بذكر مصدر جاء فيه أن الملك وهو على ظهر جواده أردى ثورًا قتيلًا بطعنة من حربته (1).
ولا نزاع في أن «بطليموس الخامس» بأعمال فروسيته هذه يذكرنا بعظماء فراعنة مصر في عهد الأسرة الثامنة عشر، نذكر منهم بوجه خاص «أمنحوتب الثاني» وما ترك لنا من نقوش تدل على ما آتاه من ضروب الشجاعة في ركوب الخيل وإصابة الهدف والتجديف والصيد والقنص، وكذلك «أمنحوتب الثالث» وما قام به من أعمال البطولة في صيد الأسود و«تحتمس الثالث» ومغامراته في صيد الفيلة. ولا ندري ماذا حدى «ببطليموس الخامس» فجعله يسلك مثل هذه الهوايات، ومن المحتمل أنه لما كان أول ملك تُوج على طريقة الفراعنة وأصبح يقيم الشعائر على حسب النظم الفرعونية القديمة؛ فلا يبعد أنه أراد أن يقلد عظماء الفراعنة في ميادين أخرى من التي كانوا يحبونها حتى يصبح بلاطه وحياته وعاداته مماثلة لما كان في بلاط الفراعنة العظام. وقد رأينا «بطليموس» يهتم بأعمال البطولة في الألعاب الأولمبية؛ فمن ذلك ما حدث مع «كليتوماكوس» Clitomachus الإغريقي، و«أريستونيكوس» الملاكم المصري؛ فقد كان الأول يُعتبر الملاكم الذي لا يُقهر، وقد ذاعت شهرته في كل العالم. ولما كان «بطليموس الخامس» يتوق إلى القضاء على شهرته فإنه درب بكل عناية الملاكم «أريستونيكوس» لمنازلته، وكان الأخير رجلًا وهبته الطبيعة قدرة عظيمة في هذا الضرب من الرياضة البدنية، وعندما وصل «أريستونيكوس» إلى بلاد الإغريق نازل «كليتوماكوس» الإغريقي في «أولمبيا» وأظهر الشعب الإغريقي انحيازه إلى البطل المصري وشجعوه؛ وذلك ابتهاجًا منهم عندما رأوا أن هناك فردًا واحدًا على الأقل قد تجاسر على أن يقف في وجه «كليتوماكوس»، وقد استمر النضال بينهما في حلبة الملاكمة، وظهر أن المصري يعادله، وأنه في خلال الملاكمة ضربه ضربة أو ضربتين في الصميم، وعندئذ صفق له الشعب تصفيقًا حادًّا، وأخذ الجمهور يصخب إلى درجة الهياج مشجعين «أريستونيكوس»، وقد قيل: إن «كليتوماكوس» في أثناء ذلك كان قد انسحب لبضع لحظات ليسترد أنفاسه، وعندئذ التفت إلى حشود الناس، وقال سائلًا إياهم: ما الذي يعنونه من تشجيع «أريستوماكوس» ومساعدته بكل ما لديهم من قوة؟ فهل يعتقدون أنه لم ينازله تمامًا أو أنهم يعلمون أن «كليتوماكوس» لم ينازل من أجل فخار الإغريق، وأن «أريستوماكوس» كان يلاكم من أجل «بطليموس»؟ فهل يفضلون أن يروا مصريًّا يقهر الإغريق، ويكسب التاج الأولمبي؟ أو يسمعون أن «طيبيًّا» أو «بويوشيًّا» وقد أعلن الحاجب بأنه هو المنتصر في مباراة الملاكمة؟
وبعد أن تحدث «كليتوماكوس» على هذا النحو قيل: إنه قد حدث انقلاب في شعور حشود الشعب مما أدى إلى انقلاب الآية؛ فُهزم «أريستونيكوس» بما أبداه الشعب من تحمس ﻟ «كليتوماكوس» (2).
وعلى أية حال فإن الشواهد تدل على أن ما كان يبديه «بطليموس الخامس» من ميل إلى أعمال الشجاعة والفروسية برهن على أنه كان رجل حروب؛ غير أن «بوليكراتيس» لم يشجعه على خوض غمار حروب ليسترد مجد مصر؛ بل يقال: إنه كان يعمل ذلك لمصلحته الشخصية من جهة، وخوفًا من الرومان من جهة أخرى؛ لأنهم كانوا أصحاب قوة وسلطان لا قدرة لمصر على مقاومتهما.
والواقع أنه لم يعد في مصر مكان لملك مستقل؛ لأن الأسرة المالكة قد أصبحت تحت وصاية روما صاحبة السلطات في العالم المتمدين. حقًّا كان في مقدور ملوك البطالمة الذين أتوا بعد «بطليموس الخامس» أن يكونوا مستبدين مع رعاياهم في داخل أرض الكنانة، ولكن على شرط أن يكونوا تحت سيطرة الرومان في سياستهم الخارجية.
وعلى أية حال فإن هناك بعض الحقيقة فيما روي عن موت «بطليموس الخامس»؛ وذلك بسبب ما نُسب إليه من أعمال الخيانة والغدر وعدم الوفاء منذ خمسة عشر عامًا من قبل في حق «أنتيوكوس الثالث» صهره، ولا نزاع في أن أرملته «كليوباترا» التي تُعد الأولى من اللائي حملن هذا الاسم في التاريخ المصري ولعبن دورًا هامًّا في حكم البلاد؛ لم يكن لها يد في موت زوجها. نعم لقد لحظنا أنها لم تنظر بعين الرضى التام إلى الحروب التي دارت بين زوجها وبين أخيها، غير أنه ليس لدينا ما يسوغ أنها كانت صاحبة ضلعٍ في جريمة قتل زوجها، ولا حتى الموافقة عليها.
.................................................
- راجع: Polyb., XXIII, 1, 8-9.
- راجع: Polyb., XXII. 9.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة