مرسوم منف أو حجر رشيد (تعليق)
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 65 ــ 68
2025-11-14
59
حاولت عند ترجمة مرسوم «منف» وهو المعروف في عالمنا الحديث بحجر رشيد أن أضع أمام القارئ تراجم للنصوص الثلاثة التي دُوِّنَ بها هذا المرسوم؛ وهي اللغة المقدسة القديمة التي تضرب بأعراقها إلى عهد «مينا»، واللغة الديموطيقية وهي لغة الشعب التي بدأت تظهر منذ العهد الكوشي — حوالي 750ق.م — واستمرت تنمو وتتطور على حسب الأحوال حتى نهاية العهد الروماني ثم احتلت مكانتها اللغة القبطية، وأخيرًا اللغة الإغريقية وهي اللغة التي كانت تُعتبر في وقت إصدار المنشور اللغة الرسمية للبلاد. ولا بد أن المطلع على تراجم هذه المتون سيلحظ فروقًا محَسة بين كل ترجمة وأخرى، وإن كان المعنى العام الذي من أجله صدر هذا المنشور يمكن الوصول إليه من أي متن من هذه المتون الثلاثة على حدة. غير أنه يلحظ في كل متن تعابيره الخاصة ومصطلحاته الخاصة؛ ومن أجل ذلك نجد أن هذا المنشور عند نقشه قد رُوعي فيه أن يصل إلى أذهان كل سكان مصر عامة؛ فالمتن الهيروغليفي قد دُوِّنَ لجماعة الكهنة الذين كانوا يُعدون طائفة خاصة تكاد تكون بمعزل عن الشعب من حيث الثقافة والتفكير، هذا على الرغم من أن هذه الطائفة كانت هي المسيطرة على عقول الشعب المصري الأصيل من الوجهة الدينية. والواقع أنه كانت لهم لغتهم المقدسة التي كانت تُستعمل في صلواتهم وفي نقش معابدهم وتعاليمهم الخاصة التي كانت معرفتها قاصرة عليهم في معظم الحالات.
أما المتن الديموطيقي فقد كُتب لعامة الشعب المصري الأصيل، وقد نقشه الكهنة باللغة العامية التي يفهمها هؤلاء ويتخاطبون بها في رسائلهم ومعاملاتهم العامة، ولا نزاع في أن عامة الشعب كان لا يفهم اللغة المصرية المقدسة إلا القليل منهم، يضاف إلى ذلك أن مثل هذا المرسوم كان يُنشر في المعابد التي من الدرجات الأولى والثانية والثالثة، وبعبارة أخرى كان يقرأه كل الشعب المصري المثقف وغير المثقف منهم، ولذلك كان لزامًا إصداره باللغة التي يعرفها المصريون أهل البلاد.
وأخيرًا دُوِّنَ المنشور باللغة الإغريقية وهي — كما قلنا — كانت لغة الحكومة المصرية.
ولما كان من مصلحة الكهنة أن يفهم الإغريق ما احتواه هذا المنشور من مقررات تمس صميم مالية البلاد وأحوالها الاجتماعية؛ فإن المرسوم قد تُرجم إلى اليونانية، أو على الأقل نُقلت كل معانيه إلى الإغريقية، وبتعابير إغريقية نُقلت عن المصرية، وهذا ما يُلحظ في بعض التعابير التي عبر عنها الإغريقي في المتن الإغريقي، وقد كانت ترجمة بعض هذه التعابير تستعصي على الكاتب الإغريقي، ولقد كان من أوجب الواجبات أن يُكتب مثل هذا المنشور بالإغريقية، وبخاصة عندما نعلم أن الملك كان على دين المصريين ويُعد فرعونًا في نظرهم، وذلك على الرغم من أن مواطنيه الإغريق في مصر كانوا على ملة آبائهم.
ولا نزاع في أن من يقرن المرسوم الذي نُقش على «حجر رشيد» بالمرسوم الذي نُقش على لوحة «كانوب» منذ ثلاث وأربعين سنة خلت؛ يجد أن الفرق ظاهر وواضح لا يحتاج إلى تفسير عميق، فيشاهد أن كل الدلائل تشير في مرسوم حجر رشيد إلى أن علاقة الملك مع رجال الدين وكذلك مع الشعب المصري كانت أحسن حالًا مما كانت عليه من قبل.
وتفسير ذلك أننا نلحظ أولًا أن مجمع الكهنة كان قد بدأ يُعقد في «منف» عاصمة ملك الفراعنة القديمة، وذلك بدلًا من «كانوب» مقر سلطان البطالمة، وكانت «كانوب» هذه في الواقع ضاحية من ضواحي الإسكندرية التي كانت هيلانستيكية النزعة لحمًا ودمًا، ومن ثم فإن هذه كانت أول خطوة خطاها الكهنة المصريون إلى الأمام في تثبيت أقدامهم وإعلاء شأن ديانة آبائهم وأجدادهم الذين كانوا يترسمون خطاها منذ أقدم العهود الفرعونية. على أنه لم يكن بالأمر الغريب أن أصبح الملك يتزيا بالزي الفرعوني في بلدة فرعونية الأصل. حقًّا، كان أجداد «بطليموس» الخامس يتزينون بزي الفراعنة عند تتويجهم، ولكن كان يحدث ذلك في بلد لا تعرف لهذا الزي معنى، وأنهم قد أُجبروا على لبسه مجاراة لسياسة الملك ومقتضيات الأحوال، غير أن ملوك البطالمة بدأوا الآن يضعون الأمور في مواضعها الطبيعية، وبخاصة عندما نعلم أن جميع الشعائر التي كانت تُقام قد أصبحت تؤدى على حسب التقاليد المصرية عند تنصيب الملك البطلمي فرعونًا على البلاد، وهذا هو نفس ما حدث في الاحتفال الذي أُقيم لتنصيب «بطليموس» الخامس فرعونًا على مصر.
ويُلحظ أن هذه الشعائر التي أُديت لهذا الملك لم تكن قد أُديت في مرسوم «كانوب» بنفس الصورة الفرعونية الفنية. يُضاف إلى ذلك أن طائفة الكهنة قد أُعفوا هنا من كثير من الضرائب التي كانت تثقل عاتقهم في الماضي، وفضلًا عن ذلك لم يكن لزامًا على الكهنة المصريين أن يتحملوا مشاق السفر من «منف» حتى الإسكندرية لتجديد ولائهم وإخلاصهم للفرعون بمناسبة عيد ميلاده، فقد جمع الكهنة منذ حكم هذا العاهل الجديد في «منف» مجلسهم الذي كان في العادة يُعقد في «كانوب» كما كانت تقام فيها الأعياد، ومن المحتمل أنها كانت قد أصبحت عاصمة الملك، ولا نزاع في أن تسامح البطالمة إلى هذا الحد كان فاتحة سياسة جديدة في داخل البلاد تنطوي على اللين وعدم المغالاة في معاملة الشعب بالشدة والقسوة، ويرجع السبب في ذلك إلى ما لاقاه رجال الحكم في الإسكندرية من مقاومة عنيفة أثناء الثورات التي اندلع لهيبها في طول البلاد وعرضها، وكلفت حكومة البطالمة ثمنًا باهظًا، وقدمت لهم درسًا لم يتلقوه من قبل، عرفوا منه أن الشعوب لا تُقهر ولا تُستغل بالقوة، وأنه لا بد من أن تنال حقها في الحياة مع الكرامة والإباء، وبخاصة الشعب المصري الذي لم يتغلب عليه فاتح إلا إذا اندمج فيه وأصبح يكون وحدة معه.
وأن من يقرأ مرسوم «منف» يتضح له أن مصر الحقيقية في عهده لم يؤثر فيها الغزو البطلمي؛ بل الواقع أنها لم تُغز في أخلاقها وعاداتها ومعتقداتها، وقد ظلت ثابتة على حالتها الأصلية التي كانت عليها في عهد البطالمة حتى جاء الفتح الإسلامي؛ فغير بعض الظواهر، ولكن الجوهر لا يزال كما هو إلى درجة عظيمة.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة