آخر السجون وأقصرها : سجن الخليفة المعتمد
ذكرنا في الفصل الأول أن أربعة من الخلفاء العباسية حاولوا قتل الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) ، حتى قتله المعتمد سنة 260 هجرية .
وقد تولى المعتمد الخلافة سنة 256 ، وفي السنة الخامسة من خلافته أقدم على قتل الإمام ( عليه السلام ) . وكان كبقية الخلفاء العباسية يعمل للخلاص من أئمة العترة النبوية ( عليهم السلام ) ولو بالحبس والقتل . ومن المؤكد أنه حَبَسَهُ مدة قصيرة قبيل شهادته وأطلقه من السجن ، وأرسل معه حرساً وأطباء لمراقبته حتى توفي !
فقد ورد أنهم سجنوه في صفر سنة 260 ( إثبات الوصية : 1 / 253 ) ولا بد أنهم سَمُّوه في السجن لأنهم أرسلوا معه إلى بيته حرساً ومراقبين حتى استشهد بعد أسبوع ، فكتبوا محضراً بأن موته طبيعي وأشهدوا عليه شهودهم !
لكن لا يبعد أن يكون المعتمد حبسه قبل ذلك مرة أو أكثر ، فقد روى الكشي / 817 ، عن محمد بن إبراهيم الوراق السمرقندي أنه مر على سامراء في سنة ستين في طريقه إلى الحج ، قال : ( رأيتهم مغتمين محزونين فقلت لهم ما لكم ؟ قالوا : إن أبا محمد ( عليه السلام ) قد حبس . قال بورق : فحججت ورجعت ثم أتيت محمد بن عيسى ووجدته قد انجلى عنه ما كنت رأيت به ، فقلت : ما الخبر ؟ قال : قد خُلِّيَ عنه ) . وتقدم في الفصل الأول ما يدل على حبس المعتمد له .
سَمُّوهُ وأخرجوه من السجن ليموت في بيته !
جاء في رواية حبسه الأخير : ( حبسه المعتمد في يدي علي بن جَرِين ، وحبس جعفراً أخاه معه ، وكان المعتمد يسأل علياً عن أخباره في كل وقت فيخبره أنه يصوم النهار ويصلي الليل ، فسأله يوماً عن الأيام عن خبره فأخبره بمثل ذلك ، فقال له : إمض الساعة إليه وأقرئه مني السلام وقل له : انصرف إلى منزلك مصاحباً عليَّ جَرِين ، فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً ، فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه ، فلما رآني نهض فأديت إليه الرسالة ، فركب فلما استوى على الحمار وقف فقلت له : ما وقوفك يا سيدي ؟ فقال لي : حتى يجئ جعفر ، فقلت : إنما أمرني بإطلاقك دونه ، فقال لي ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دارة واحدة جميعاً فإذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك . فمضى وعاد فقال : يقول لك قد أطلقت جعفراً لك ، لأني حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلم به ، وخلى سبيله فصار معه إلى داره ) . ( مهج الدعوات / 275 ) .
فكان سجن المعتمد له هذه المرة قصيراً أقل من شهر ، ولما صل إلى البيت اعتلَّ قال أحمد بن عبيد الله بن خاقان ( الكافي : 1 / 504 ) : ( لما اعتل بعث ( الخليفة ) إلى أبي ( وزيره ) أن ابن الرضا قد اعتل ، فركب من ساعته فبادر إلى دار الخلافة ثم رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته ، فيهم نحرير ، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرف خبره وحاله ، وبعث إلى نفر من المتطببين ، فأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحاً ومساءً ، فلما كان بعد ذلك بيومين أو ثلاثة ، أُخبر أنه قد ضَعُفَ ، فأمر المتطببين بلزوم داره ، وبعث إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه ، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممن يوثق به في دينه وأمانته وورعه ، فأحضرهم فبعث بهم إلى دار الحسن وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً ، فلم يزالوا هناك حتى توفي ، فصارت سر من رأى ضجة واحدة ، وبعث السلطان إلى داره من فتشها وفتش حجرها ، وختم على جميع ما فيها ، وطلبوا أثر وُلده وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل فدخلن إلى جواريه ينظرن إليهن ، فذكر بعضهن أن هناك جارية بها حمل فجعلت في حجرة ، ووكل بها نحرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم ، ثم أخذوا بعد ذلك في تهيئته ، وعطلت الأسواق وركبت بنو هاشم والقواد وأبي وسائر الناس إلى جنازته ، فكانت سرمن رأى يومئذ شبيهاً بالقيامة ) !
وقال المفيد في الإرشاد ( 2 / 337 ) : ( ومرض أبو محمد ( عليه السلام ) في أول شهر ربيع الأول سنة ستين ومائتين ، ومات في يوم الجمعة لثمان ليال خلون من هذا الشهر في السنة المذكورة ، وله يوم وفاته ثمان وعشرون سنة ، ودفن في البيت الذي دفن فيه أبوه من دارهما بسر من رأى . وخلف ابنه المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره ، لصعوبة الوقت ، وشدة طلب سلطان الزمان له ، واجتهاده في البحث عن أمره ، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه وعرف من انتظارهم له ، فلم يظهر ولده ( عليه السلام ) في حياته ، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته .
وتولى جعفر بن علي أخو أبي محمد ( عليه السلام ) أخذ تركته ، وسعى في حبس جواري أبي محمد واعتقال حلائله ، وشنع على أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته ، وأغرى بالقوم حتى أخافهم وشردهم وجرى على مخلفي أبي محمد ( عليه السلام ) بسبب ذلك كل عظيمة ، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذل ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل . وحاز جعفر ظاهر تركة أبي محمد ( عليه السلام ) واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه ، فلم يقبل أحد منهم ذلك ولا اعتقده فيه ، فصار إلى سلطان الوقت يلتمس مرتبة أخيه ، وبذل مالاً جليلاً ، وتقرب بكل ما ظن أنه يتقرب به ، فلم ينتفع بشئ من ذلك ) .
أقول : نص عدد من علمائنا على أن الخليفة المعتمد قتل الإمام العسكري ( عليه السلام ) بالسم ، قال الصدوق ( قدس سره ) في الإعتقادات / 99 : ( والحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) قتله المعتمد بالسم ) .
واصل الإمام ( عليه السلام ) عمله ونشاطه إلى آخر يوم !
في الغيبة للطوسي / 272 : ( قال إسماعيل بن علي : دخلت على أبي محمد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) في المرضة التي مات فيها وأنا عنده ، إذ قال لخادمه عقيد وكان الخادم أسود نوبياً قد خدم من قبله علي بن محمد ، وهو رَبِيُّ الحسن ( عليه السلام ) فقال له : يا عقيد إغْلِ لي ماءً بمصطكي ، فأغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية أم الخلف ( عليه السلام ) ، فلما صار القدح في يديه وهمِّ بشربه فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن ( عليه السلام ) فتركه من يده ، وقال لعقيد : أدخل البيت فإنك ترى صبياً ساجداً فأتني به .
قال أبو سهل : قال عقيد : فدخلت أتحرى فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء ، فسلمت عليه فأوجز في صلاته فقلت : إن سيدي يأمرك بالخروج إليه ، إذا جاءت أمه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن ( عليه السلام ) . قال أبو سهل : فلما مثل الصبي بين يديه سلم ، وإذا هو دري اللون ، وفي شعر رأسه قطط ، مفلج الأسنان ، فلما رآه الحسن ( عليه السلام ) بكى وقال : يا سيد أهل بيته ، إسقني الماء فإني ذاهب إلى ربي ، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ، ثم حرك شفتيه ثم سقاه ، فلما شربه قال : هيئوني للصلاة ، فطرح في حجره منديل ، فوضأه الصبي واحدة واحدة ومسح على رأسه وقدميه .
فقال له أبو محمد ( عليه السلام ) إبشر يا بني فأنت صاحب الزمان ، وأنت المهدي وأنت حجة الله على أرضه ، وأنت ولدي ووصيي ، وأنا ولدتك وأنت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) .
ولدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأنت خاتم الأوصياء الأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) ، وبشر بك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وسماك وكناك ، بذلك عهد إلي أبي عن آبائك الطاهرين صلى الله على أهل البيت ، ربنا إنه حميد مجيد ، ومات الحسن بن علي من وقته ، صلوات الله عليهم أجمعين ) .
أقول : هذه هي الرواية المعتمدة في شهادة الإمام الحسن العسكري ( عليه السلام ) . ولا بد أن يكون المصطكي وهو نوع من صمغ الشجر نافعاً في معالجة نوع السم الذي سقوه للإمام ( عليه السلام ) . وروى الصدوق ( رحمه الله ) رواية عن بعض الكتب ، حذف منها حضور الإمام المهدي ( عليه السلام ) في وفاة أبيه ( عليهما السلام ) ، ولو صحت فهي رواية قالها الراوي مداراة للسلطة ، وحذف منها ذكر ابنه خوفاً من الخليفة !
قال الصدوق ( رحمه الله ) في كمال الدين / 473 : ( وجدت مثبتاً في بعض الكتب المصنفة في التواريخ ، ولم أسمعه إلا عن محمد بن الحسين بن عباد أنه قال : مات أبو محمد الحسن بن علي ( عليهما السلام ) يوم جمعة مع صلاة الغداة ، وكان في تلك الليلة قد كتب بيده كتباً كثيرة إلى المدينة ، وذلك في شهر ربيع الأول لثمان خلون منه سنة ستين ومائتين من الهجرة ، ولم يحضره في ذلك الوقت إلا صقيل الجارية ، وعقيد الخادم ، ومن علم الله عز وجل غيرهما ( ولده المهدي ( عليه السلام ) ) قال عقيد : فدعا بماء قد أغلي بالمصطكي فجئنا به إليه ، فقال : أبدأ بالصلاة ، هيئوني ، فجئنا به وبسطنا في حجره المنديل فأخذ من صقيل الماء فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة ، ومسح على رأسه وقدميه مسحاً ، وصلى صلاة الصبح على فراشه ، وأخذ القدح ليشرب فأقبل القدح يضرب ثناياه ويده ترتعد ، فأخذت صقيل القدح من يده ومضى من ساعته .
ودفن في داره بسر من رأى إلى جانب أبيه صلوات الله عليهما ، فصار إلى كرامة الله جل جلاله ، وقد كمل عمره تسعاً وعشرين سنة ) .
التشييع الرسمي للإمام العسكري ( عليه السلام )
قال الصدوق ( رحمه الله ) في حديث أبي الأديان ( كمال الدين / 475 ) : ( وحدث أبو الأديان قال : كنت أخدم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهم السلام ) وأحمل كتبه إلى الأمصار ، فدخلت عليه في علته التي توفي فيها صلوات الله عليه ، فكتب معي كتباً وقال : إمض بها إلى المدائن فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً وتدخل إلى سر من رأى يوم الخامس عشر ، وتسمع الواعية في داري وتجدني على المغتسل . قال أبو الأديان فقلت : يا سيدي فإذا كان ذلك فمن ؟ قال : من طالبك بجوابات كتبي فهو القائم من بعدي ، فقلت : زدني ، فقال : من يصلي عليَّ فهو القائم بعدي ، فقلت : زدني ، فقال : من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي .
ثم منعتني هيبته أن أسأله عما في الهميان ، وخرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سر من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل ، وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه بباب الدار ، والشيعة من حوله يعزونه ويهنونه ، فقلت في نفسي : إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة ! لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ، ويقامر في الجوسق ( قصر ومحل للقمار ) ويلعب بالطنبور ، فتقدمت فعزيت وهنيت ، فلم يسألني عن شئ ، ثم خرج عقيد فقال : يا سيدي قد كُفن أخوك فقم وصل عليه ، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السمان والحسن بن علي قتيل المعتصم المعروف بسلمة ( أي أبوه قتله المعتصم ولعله الأطروش ) فلما صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفناً ، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه ، فلما همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة ، بشعره قطط ، بأسنانه تفليج ، فجبذ برداء جعفر بن علي وقال : تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على أبي !
فتأخر جعفر وقد ارْبَدَّ وجهه واصفرّ ، فتقدم الصبي وصلى عليه !
ودفن إلى جانب قبر أبيه ( عليهما السلام ) . ثم قال : يا بصري هات جوابات الكتب التي معك ، فدفعتها إليه فقلت في نفسي : هذه بينتان ، بقي الهميان .
ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزفر ، فقال له حاجز الوشاء : يا سيدي من الصبي لنقيم الحجة عليه ؟ فقال : والله ما رأيته قط ولا أعرفه !
فنحن جلوسٌ إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فعرفوا موته فقالوا : فمن نعزي ؟ فأشارالناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه وعزوه وهنوه وقالوا : إن معنا كتباً ومالاً ، فتقول ممن الكتب وكم المال ؟ فقام ينفض أثوابه ويقول : تريدون منا أن نعلم الغيب !
قال : فخرج الخادم فقال : معكم كتب فلان وفلان وفلان ، وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية ، فدفعوا إليه الكتب والمال ، وقالوا : الذي وجه بك لأخذ ذلك هو الإمام !
فدخل جعفر بن علي على المعتمد وكشف له ذلك ، فوجه المعتمد بخدمه فقبضوا على صقيل الجارية فطالبوها بالصبي فأنكرته ، وادعت حبلاً بها لتغطي حال الصبي ، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ، وبَغَتَهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة ، وخروج صاحب الزنج بالبصرة ، فشغلوا بذلك عن الجارية ، فخرجت عن أيديهم ، والحمد لله رب العالمين ) .
وروى الخصيبي في الهداية / 383 : ( حدثني أحمد بن مطهر صاحب عبد الصمد بن موسى ، أنه كان بائتاً عند عبد الصمد في الليلة التي توفي بها أبو محمد ( عليه السلام ) ، فإنه دخل أحمد بن مطهر على عبد الصمد بن موسى ، فأخبره بوفاة أبي محمد ، فركب عبد الصمد إلى الوزير وأخبره بذلك ، فركب الوزير وعبد الصمد بن موسى بن بقاء إلى المعتمد وأخبراه بوفاة أبي محمد ( عليه السلام ) فأمر المعتمد أخاه بالركوب والوزير وعبد الصمد إلى دار أبي محمد حتى ينظروا إليه ، ويكشفوا عن وجه ويغسلوه ويكفنوه ويصلوا عليه ويدفنوه مع أبيه ( عليه السلام ) ، وينظروا من خلَّف ويرجعوا إليه بالخبر ، وتقدم إلى سائر الخاصة والعامة والدون أن يحضروا الصلاة عليه .
ففعل أبو عيسى والوزير وعبد الصمد جميع ما أمروا به ، ونظروا إلى من في الدار ، وانصرفوا إلى المعتمد ، فقال المعتمد لأخيه أبي عيسى : أبشر إنك ستلي الخلافة لأن أخانا المعتز لما توفي أبو الحسن علي بن محمد ، فخرجت وصليت وصلى بصلاتنا في الدار ، لأنه كان التكبير يصل ، فلما دفنا أبا الحسن ( عليه السلام ) ورجعت قال : أبشر يا أحمد فإنك صليت على أبي الحسن ، وأنت تجازى بالخلافة بصلاتك عليه . وأنت يا أبا عيسى قد صليت على أبي الحسن ، وأرجو أن تجازى بالخلافة مثلي ) .
أقول : تقدم التعليق على حديث أبي الأديان ، وتلاحظ أن رواية الخصيبي تقول إن الوزير أخبر الخليفة بمرض الإمام وموته ، ورواية ابن الوزير تقول إن الخليفة أخبر أباه ، وهو الصحيح لأن سمه كان من تدبير الخليفة !
وقال ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ( 2 / 1087 ) : ( وكانت وفاة أبي محمّد الحسن بن علي بسر من رأى في يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأوّل سنة ستين ومائتين للهجرة ، ودُفن في البيت الّذي دُفن فيه أبوه بدارهما من سر من رأى ، وله يومئذ من العمر ثمان وعشرون سنة . وكانت مدّة إمامته ست سنين كانت في بقية ملك المعتز ابن المتوكل ، ثم ملك المهتدي ابن الواثق أحد عشراً شهراً ، ثم ملك المعتمد على الله أحمد بن المتوكل ثلاث وعشرين سنة ، مات في أوائل دولته .
خلف أبو محمد الحسن من الولد ابنه الحجة القائم المنتظر لدولة الحق ، وكان قد أخفى مولده وستر أمره لصعوبة الوقت وشدة طلب السلطان وتطلبه للشيعة وحبسهم والقبض عليهم . وتولى جعفر بن علي أخوه ، وأخذ تركته واستولى عليها ، وسعى في حبس جواري أبي محمد ، وشنع على أصحابه عند السلطان ، وذلك لكونه أراد القيام عليهم مقام أخيه فلم يقبلوه لعدم أهليته لذلك ، ولا ارتضوه ، وبذل جعفر على ذلك مالاً جليلاً لولي الأمر فلم يتفق له ، ولم يجتمع عليه اثنان .
ذهب كثير من الشيعة إلى أن أبا محمد الحسن مات مسموماً ، وكذلك أبوه وجده ، وجميع الأئمة الذين من قبلهم ( عليهم السلام ) خرجوا كلهم تغمدهم الله برحمته من الدنيا على الشهادة ، واستدلوا على ذلك بما روي عن الصادق ( عليه السلام ) أنه قال : ما منا إلا مقتولٌ أو شهيد ) .
غارات الخليفة على بيت الإمام العسكري ( عليه السلام )
1 . قال الصدوق ( رحمه الله ) في كمال الدين / 473 : ( سمعت أبا الحسين الحسن بن وجناء يقول : حدثنا أبي عن جده ، أنه كان في دار الحسن بن علي ( عليهما السلام ) فكبستنا الخيل وفيهم جعفر بن علي الكذاب واشتغلوا بالنهب والغارة ، وكانت همتي في مولاي القائم ( عليه السلام ) قال : فإذا به قد أقبل وخرج عليهم من الباب وأنا أنظر إليه ، وهو ابن ست سنين ، فلم يره أحد حتى غاب ) .
أقول : الظاهر أن هذه الغارة كانت قبل وصول والدة الإمام العسكري ( عليه السلام ) من المدينة ، وإبرازها وصية الإمام لها . وعندما وصلت تسلمت الدار وطلبت من قاضي القضاة أن لا يحكم بعدم وجود ولد للإمام ، ولا بوراثة أخيه له .
2 . وفي الكافي ( 1 / 524 ) : ( عن علي بن محمد قال : باع جعفر فيمن باع صبية جعفرية كانت في الدار يربونها ، فبعث بعض العلويين وأعلم المشتري خبرها ، فقال المشتري : قد طابت نفسي بردها ، وأن لا أرزأ من ثمنها شيئاً فخذها ، فذهب العلوي فأعلم أهل الناحية الخبر فبعثوا إلى المشتري بأحد وأربعين ديناراً ، وأمروه بدفعها إلى صاحبها ) .
أقول : هذا يدل على أنهم أغاروا على بيت الإمام ( عليه السلام ) وأخذ جعفر من وجد من النساء وباعهن على أنهن جوارٍ ، وكانت منهن طفلة من ذرية جعفر بن أبي طالب يربونها في بيت الإمام ( عليه السلام ) ، فباعها ، فحررها أحد العلويين !
3 . وفي كمال الدين / 489 : ( حدثنا أبي رضي الله عنه ، عن سعد بن عبد الله قال : حدثني أبو علي المتيلي قال : جاءني أبو جعفر فمضى بي إلي العباسية وأدخلني خربة وأخرج كتاباً فقرأه عليَّ فإذا فيه شرح جميع ما حدث على الدار وفيه : أن فلانة ، يعني أم عبد الله ، تؤخذ بشعرها وتُخرج من الدار ويُحدر بها إلى بغداد ، فتقعد بين يدي السلطان ! وأشياء مما يحدث ، ثم قال لي : إحفظ ثم مزق الكتاب ، وذلك من قبل أن يحدث ما حدث بمدة ) .
يقصد بأبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري ( رحمه الله ) ، أي أخبره بهجوم السلطة لتفتيش بيت الإمام العسكري بحثاً عن المهدي ( عليهما السلام ) ، وأنهم يشكُّون في امرأة أنها أم المهدي ( عليه السلام ) ، فيطلب الخليفة إحضارها اليه إلى بغداد ، وذلك بعد هروب الخليفة والدولة من سامراء إلى بغداد !
وتقدم في فصل والدة الإمام المهدي ( عليه السلام ) أن الإمام العسكري ( عليه السلام ) أخبرها بما سيجري ، فطلبت منه أن يدعو لها أن تموت قبله ، فدعا لها وماتت قبله ، وكتب على قبرها : هذا قبر أم محمد ، رضي الله عنها .
4 . وروى الطوسي في الغيبة / 248 : ( عن رشيق صاحب المادرائي قال : بعث إلينا المعتضد ونحن ثلاثة نفر ، فأمرنا أن يركب كل واحد منا فرساً ونجنب آخر ، ونخرج مخفين لا يكون معنا قليل ولا كثير ، إلا على السرج مصلى ، وقال لنا : إلحقوا بسامرة ووصف لنا محلة وداراً وقال : إذا أتيتموها تجدون على الباب خادماً أسود فاكبسوا الدار ، ومن رأيتم فيها فأتوني برأسه ! فوافينا سامرة فوجدنا الأمر كما وصفه ، وفي الدهليز خادم أسود وفي يده تكة ينسجها ، فسألناه عن الدار ومن فيها فقال : صاحبها ، فوالله ما التفت إلينا وقلَّ اكتراثه بنا ، فكبسنا الدار كما أمرنا ، فوجدنا داراً سرية ومقابل الدار ستر ما نظرت قط إلى أنبل منه ، كأن الأيدي رفعت عنه في ذلك الوقت ، ولم يكن في الدار أحد ، فرفعنا الستر فإذا بيت كبير كأنه بحر ماء ، وفي أقصى البيت حصير قد علمنا أنه على الماء ، وفوقه رجل من أحسن الناس هيئة قائم يصلي ، فلم يلتفت إلينا ولا إلى شئ من أسبابنا ، فسبق أحمد بن عبد الله ليتخطى البيت فغرق في الماء ، وما زال يضطرب حتى مددت يدي إليه فخلصته وأخرجته وغشي عليه وبقي ساعة ، وعاد صاحبي الثاني إلى فعل ذلك الفعل فناله مثل ذلك ، وبقيت مبهوتاً . فقلت لصاحب البيت : المعذرة إلى الله وإليك ، فوالله ما علمت كيف الخبر ولا إلى من أجئ وأنا تائب إلى الله . فما التفت إلى شئ مما قلنا ، وما انفتل عما كان فيه فهالنا ذلك وانصرفنا عنه .
وقد كان المعتضد ينتظرنا ، وقد تقدم إلى الحُجَّاب إذا وافيناه أن ندخل عليه في أي وقت كان ، فوافيناه في بعض الليل فأُدخلنا عليه ، فسألنا عن الخبر فحكينا له ما رأينا ، فقال : ويحكم لقيكم أحد قبلي وجرى منكم إلى أحد سبب أو قول ؟ قلنا : لا ، فقال : أنا نفيٌ من جدي ، وحلف بأشد أيمان له ، أنه إن بلغ هذا الخبر رجلاً ليضربن أعناقنا ، فما جَسُرْنَا أن نحدث به إلا بعد موته ) .
أقول : النص المذكور مادة دراسة مهمة ، ورشيق الذي بعثه بالمهمة ، قائد مهم مقرب عند المعتضد ( الطبري : 8 / 97 ) وكذلك أحمد بن عبد الله .
المعتضد هو ابن الموفق الذي سيطر بعد موت أبيه على الجيش سنة 278 ، وفي تلك السنة أجبر عمه الخليفة المعتمد أن يعزل ابنه ويبايعه ولي عهده وفي السنة التالية مات عمه وقيل سمه المعتضد وصار هو الخليفة .
ويظهر أن هذه العملية التي أمر بها المعتضد على بيت الإمام ( عليه السلام ) في سامراء كانت في خلافته أي بعد نحو عشرين سنة من وفاة الإمام العسكري ( عليه السلام ) ، ومعناها أن بيت الإمام ( عليه السلام ) استنقذ من جعفر وكان الإمام المهدي ( عليه السلام ) يتواجد فيه ، ولا نعرف كيف تم استخلاصه .
وهناك مؤشرات على أن الشيعة كانوا يزورون قبر الإمامين الهادي والعسكري ( عليهما السلام ) وأن الدار كانت بيد سفراء الإمام المهدي ( عليه السلام ) .
5 . وفي كمال الدين ( 2 / 442 ) : ( عن محمد بن صالح بن علي بن محمد بن قنبر الكبير ، مولى الرضا ( عليه السلام ) ، قال : خرج صاحب الزمان على جعفر الكذاب من موضع لم يعلم به ، عندما نازع في الميراث بعد مضي أبي محمد ( عليه السلام ) فقال له : يا جعفر مالك تعرض في حقوقي ؟ ! فتحير جعفر وبُهت ! ثم غاب عنه فطلبه جعفر بعد ذلك في الناس فلم يره ! فلما ماتت الجدة أم الحسن أمرت أن تدفن في الدار فنازعهم وقال : هي داري لا تدفن فيها فخرج ( عليه السلام ) فقال : يا جعفر أدارك هي ؟ ثم غاب عنه فلم يره بعد ذلك ) .
وفد قم الذين قبض الخليفة عليهم
في كمال الدين ( 2 / 476 ) : ( عن أبي الحسن علي بن سنان الموصلي قال : حدثني أبي قال : لما قبض سيدنا أبو محمد الحسن بن علي العسكري صلوات الله عليهما ، وَفَدَ من قم والجبال وُفُودٌ بالأموال التي كانت تحمل على الرسم والعادة ، ولم يكن عندهم خبر وفاة الحسن ( عليه السلام ) فلما أن وصلوا إلى سر من رأى سألوا عن سيدنا الحسن بن علي ( صلى الله عليه وآله ) فقيل لهم : إنه قد فُقد فقالوا : ومن وارثه ؟ قالوا : أخوه جعفر بن علي فسألوا عنه فقيل لهم إنه قد خرج متنزهاً وركب زورقاً في الدجلة يشرب ومعه المغنون ! قال : فتشاور القوم فقالوا : هذه ليست من صفة الإمام ، وقال بعضهم لبعض : إمضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على أصحابها ! فقال أبو العباس محمد بن جعفر الحميري القمي : قفوا بنا حتى ينصرف هذا الرجل ونختبر أمره بالصحة . قال : فلما انصرف دخلوا عليه فسلموا عليه وقالوا : يا سيدنا نحن من أهل قم ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها ، وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) الأموال فقال : وأين هي ؟ قالوا : معنا ، قال : إحملوها إليَّ ، قالوا : لا ، إن لهذه الأموال خبراً طريفاً ، فقال : وما هو ؟ قالوا : إن هذه الأموال تجمع ويكون فيها من عامة الشيعة الدينار والديناران ، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه ، وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد ( عليه السلام ) يقول : جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا ، ومن عند فلان كذا ، حتى يأتي على أسماء الناس كلهم ، ويقول ما على الخواتيم من نقش .
فقال جعفر : كذبتم تقولون على أخي ما لا يفعله ، هذا علم الغيب ولا يعلمه إلا الله . قال : فلما سمع القوم كلام جعفر جعل بعضهم ينظر إلى بعض فقال لهم : احملوا هذا المال إليَّ ، قالوا : إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب المال ولا نسلم المال إلا بالعلامات التي كنا نعرفها من سيدنا الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فإن كنت الإمام فبرهن لنا وإلا رددناها إلى أصحابها يرون فيها رأيهم . قال : فدخل جعفر على الخليفة وكان بسر من رأى فاستعدى عليهم ، فلما أُحْضِروا قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر ، قالوا : أصلح الله أمير المؤمنين ، إنا قوم مستأجرون وكلاء لأرباب هذه الأموال ، وهي وداعة لجماعة ، وأمرونا بأن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة وقد جرت بهذه العادة مع أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) !
فقال الخليفة : فما كانت العلامة التي كانت مع أبي محمد قال القوم : كان يصف لنا الدنانير وأصحابها والأموال وكم هي ؟ فإذا فعل ذلك سلمناها إليه ، وقد وفدنا إليه مراراً فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا ، وقد مات فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر فليقم لنا ما كان يقيمه لنا أخوه ، وإلا رددناها إلى أصحابها !
فقال جعفر : يا أمير المؤمنين إن هؤلاء قوم كذابون يكذبون على أخي وهذا علم الغيب . فقال الخليفة : القوم رسل وما على الرسول إلا البلاغ المبين . قال : فبهت جعفر ولم يرد جواباً !
فقال القوم : يتطول أمير المؤمنين بإخراج أمره إلى من يبدرقنا حتى نخرج من هذه البلدة ، قال : فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها ، فلما أن خرجوا من البلد خرج إليهم غلام أحسن الناس وجهاً كأنه خادم ، فنادي يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان أجيبوا مولاكم ، قال فقالوا : أنت مولانا ، قال : معاذ الله أنا عبد مولاكم فسيروا إليه ، قالوا : فسرنا معه حتى دخلنا دار مولانا الحسن بن علي ( عليه السلام ) ، فإذا ولده القائم سيدنا ( عليه السلام ) قاعد على سرير كأنه فلقة قمر ، عليه ثياب خضر فسلمنا عليه فرد علينا السلام ثم قال : جملة المال كذا وكذا ديناراً حمل فلان كذا ، وفلان كذا ، ولم يزل يصف حتى وصف الجميع .
ثم وصف ثيابنا ورحالنا وما كان معنا من الدواب ، فخررنا سُجَّداً لله عز وجل شكراً لما عرفنا وقبلنا الأرض بين يديه وسألناه عما أردنا فأجاب ، فحملنا إليه الأموال ، وأمرنا القائم ( عليه السلام ) أن لا نحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال ، فإنه ينصب لنا ببغداد رجلاً تُحمل إليه الأموال وتَخرج من عنده التوقيعات ، قال فانصرفنا من عنده ، ودفع إلى أبي العباس محمد بن جعفر القمي الحميري شيئاً من الحنوط والكفن فقال له : أعظم الله أجرك في نفسك ، قال : فما بلغ أبو العباس عقبة همدان حتى توفي ( رحمه الله ) . وكنا بعد ذلك نحمل الأموال إلى بغداد إلى النواب المنصوبين بها ، وتَخرج من عندهم التوقيعات .
قال مصنف هذا الكتاب رضي الله عنه : هذا الخبر يدل على أن الخليفة كان يعرف هذا الأمر كيف هو ، وأين موضعه ، فلهذا كف عن القوم عما معهم من الأموال ، ودفع جعفراً الكذاب عن مطالبتهم ولم يأمرهم بتسليمها إليه ، إلا أنه كان يحب أن يَخفى هذا الأمر ولا ينشر لئلا يهتدي إليه الناس فيعرفونه ! وقد كان جعفر الكذاب حمل إلى الخليفة عشرين ألف دينار لما توفي الحسن بن علي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : يا أمير المؤمنين تجعل لي مرتبة أخي الحسن ومنزلته ! فقال الخليفة : إعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا ، إنما كانت بالله عز وجل ونحن كنا نجتهد في حط منزلته والوضع منه ، وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة لما كان فيه من الصيانة وحسن السمت والعلم والعبادة ، فإن كنت عند شيعة أخيك بمنزلته فلا حاجة بك إلينا ، وإن لم تكن عندهم بمنزلته ولم يكن فيك ما كان في أخيك لم نغنك في ذلك شيئاً ) .
وفد قمي آخر رده الإمام ( عليه السلام ) قبل وصوله
في الهداية الكبرى / 342 : « عن أحمد بن داود القمي ، ومحمد بن عبد الله الطلحي ، قالا : حملنا ما جمعنا من خمس ونذور وبر من غير ورق وحلي وجوهر وثياب من بلاد قم وما يليها ، وخرجنا نريد سيدنا أبا محمد الحسن ( عليه السلام ) فلما وصلنا إلى دسكرة الملك تلقانا رجلٌ راكبٌ على جمل ، ونحن في قافلة عظيمة فقصد إلينا وقال : يا أحمد الطلحي معي رسالة إليكم ، فقلنا من أين يرحمك الله ، فقال : من سيدكم أبي محمد الحسن ( عليه السلام ) يقول لكم : أنا راحل إلى الله مولاي في هذه الليلة فأقيموا مكانكم حتى يأتيكم أمر ابني محمد ، فخشعت قلوبنا وبكت عيوننا وقرحت أجفاننا لذلك ولم نظهره . وتركنا المسير ، واستأجرنا بدسكرة الملك منزلاً وأخذنا ما حملنا إليه ، وأصبحنا والخبر شائع بالدسكرة بوفاة مولانا أبي محمد الحسن ( عليه السلام ) ، فقلنا لا إله إلا الله ترى الرسول الذي أتانا بالرسالة أشاع الخبر في الناس ، فلما تعالى النهار رأينا قوماً من الشيعة على أشد قلق لما نحن فيه ، فأخفينا أمر الرسالة ولم نظهره ، فلما جَن علينا الليل جلسنا بلا ضوء حزناً على سيدنا الحسن ( عليه السلام ) ، نبكي ونشكي إلى فقده ، فإذا نحن بيدٍ قد دخلت علينا من الباب فضاءت كما يضئ المصباح وهي تقول : يا أحمد هذا التوقيع إعمل به وبما فيه ، فقمنا على أقدامنا وأخذنا التوقيع فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : من الحسن المسكين لله رب العالمين ، إلى شيعته المساكين : أما بعد ، فالحمد لله على ما نزل منه ونشكره إليكم جميل الصبر عليه ، وهوحسبنا في أنفسنا وفيكم ، ونعم الوكيل ، ردوا ما معكم ليس هذا أوان وصوله إلينا ، فإن هذا الطاغي قد دنت غشيته إلينا ، ولوشئنا ما ضركم ، وأمرنا يرد عليكم ، ومعكم صرة فيها سبعة عشر ديناراً في خرقة حمراء ، إلى أيوب بن سليمان ، الآن فردوها فإنه حملها ممتحناً لنا بها بما فعله ، وهو ممن وقف عند جدي موسى بن جعفر ( عليه السلام ) فردوا صرته عليه ، ولا تخبروه !
فرجعنا إلى قم ، فأقمنا بها سبع ليال ثم جاءنا أمر ابنه : قد بعثنا إليكم إبلاً غير إبلكم ، إحملا ما قِبَلَكُما عليها واخليا لها السبيل ، فإنها واصلةٌ إليَّ ! وكانت الإبل بغير قائد ولا سائق ، على وجه الأول منها بهذا الشرح ، وهو مثل الخط الذي بالتوقيع التي أوصلته إلى الدسكرة ، فحملنا ما عندنا واستودعناه وأطلقناهم ، فلما كان من قابل خرجنا نريده ( عليه السلام ) فلما وصلنا إلى سامرا دخلنا عليه فقال لنا : يا أحمد ومحمد ، أدخلا من الباب الذي بجانب الدار ، وانظرا ما حملتماه على الإبل ، فلا تفقدا منه شيئاً . فدخلنا من الباب فإذا نحن بالمتاع كما وعيناه وشددناه لم يتغير ، فحللناه كما أمرنا وعرضنا جمعه ، فما فقدنا منه شيئاً ، فوجدنا الصرة الحمراء والدنانير فيها بختمها ، وكنا قد رددناها على أيوب ، فقلنا : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقلنا : إنها من سيدنا ، فصاح بنا من مجلسه : فما لكما بدت لكما سؤاتكما ! فسمعنا الصوت فأتينا إليه فقال : من أيوب ، وقتَ وردت الصرة عليه فقبل الله إيمانه وقبل هديته ، فحمدنا الله وشكرناه على ذلك ، فكان هذا من دلائله ( عليه السلام ) » .
رأي الإمام المهدي ( عليه السلام ) في عمه جعفر
في كمال الدين / 483 : ( حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني رضي الله عنه قال : حدثنا محمد بن يعقوب الكليني رضي الله عنه ، عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان ( عليه السلام ) : أما ما سألت عنه أرشدك الله وثبتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمنا ، فاعلم أنه ليس بين الله عز وجل وبين أحد قرابة ، ومن أنكرني فليس مني ، وسبيله سبيل ابن نوح ( عليه السلام ) .
أما سبيل عمي جعفر وولده ، فسبيل إخوة يوسف ( عليه السلام ) .
وأما الفقاع فشربه حرام ، ولا بأس بالشلماب .
وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا ، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع ، فما آتاني الله خير مما آتاكم .
وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره ، وكذب الوقاتون .
وأما قول من زعم أن الحسين ( عليه السلام ) لم يقتل ، فكفر وتكذيب وضلال .
وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم .
وأما محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه وعن أبيه من قبل ، فإنه ثقتي وكتابه كتابي . وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله له قلبه ، ويزيل عنه شكه .
وأما ما وصلتنا به فلا قبول عندنا إلا لما طاب وطهر ، وثمن المغنية حرام .
وأما محمد بن شاذان بن نعيم ، فهو رجل من شيعتنا أهل البيت .
وأما أبو الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع فملعون ، وأصحابه ملعونون ، فلا تجالس أهل مقالتهم فإني منهم برئ وآبائي ( عليهم السلام ) منهم براء .
وأما المتلبسون بأموالنا ، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران .
وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث .
وأما ندامة قوم قد شكوا في دين الله عز وجل على ما وصلونا به ، فقد أقلنا من استقال ، ولا حاجة لنا في صلة الشاكين .
وأما علة ما وقع من الغيبة ، فإن الله عز وجل يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ . إنه لم يكن لأحد من آبائي ( عليهم السلام ) إلا وقد وقعت في عنقه بيعة لطاغية زمانه ، وإني أخرج حين أخرج ، ولا بيعة لأحد من الطواغيت في عنقي .
وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبتها عن الأبصار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم ، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج ، فإن ذلك فرجكم .
والسلام عليك يا إسحاق بن يعقوب ، وعلى من اتبع الهدى ) .
ملاحظات
1 . هذا التوقيع صحيح السند ، ويدل على وثاقة إسحاق بن يعقوب رواية هؤلاء الأجلاء عنه وعلو المتن . وقد صححه الشيخ الأنصاري ( رحمه الله ) في كتاب القضاء / 34 ، فقال : ( وقوله ( عليه السلام ) في التوقيع الرفيع : وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله ، عيَّن المرجع في مقام جواب السؤال عنه في الرواة ، فيدل على الحصر ) .
2 . قوله ( عليه السلام ) : ( ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح ( عليه السلام ) ، وأما سبيل عمي جعفر وولده ، فسبيل إخوة يوسف ( عليه السلام ) ) .
تعبيٌر دقيق عن الطريق الذي يسلكه منكروا إمامة الإمام المهدي صلى الله عليه لكن لم يبين إلى أين وصلوا أو يصلون . وقد تمسك بعضهم بهذا الحديث للقول بنجاة جعفر الكذاب وأولاده ، لأن إخوة يوسف ( عليه السلام ) قد تابوا وأنجاهم الله تعالى بعد حسدهم ليوسف ، وكيدهم له .
والحق أن أكثر أولاد جعفر قد نجوا وقالوا بإمامة الإمام المهدي والأئمة الطاهرين ( عليهم السلام ) . أما هو فقد رووا توبته ولم تثبت عندي ، فالله أعلم به .
3 . الفقاع الحرام المعروف باسم البيرة . والشلماب : أصله شليم آب ، ومعناه ماء الشليم ، والشليم شبيه الشعير ، ولعله الدُّخْن .
4 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما أموالكم فلا نقبلها إلا لتطهروا ، فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع ، فما آتاني الله خير مما آتاكم ) . يتفق مع عقيدتنا في مقام الإمام عند الله تعالى ، وما أعطاه من معجزات ، وأن الأرض كلها له ( عليه السلام ) .
5 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما ظهور الفرج فإنه إلى الله تعالى ذكره ، وكذب الوقاتون ) . يتفق مع أحاديث متواترة في أن ظهوره ( عليه السلام ) من غيب الله تعالى ، والنهي عن تحديد وقته ، نعم ذكر النبي والأئمة ( صلى الله عليه وآله ) علامات .
6 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما قول من زعم أن الحسين ( عليه السلام ) لم يقتل ، فكفر وتكذيب وضلال ) . يدل على القول بغياب الحسين ( عليه السلام ) وأنه سيظهر ، قد يكون كفراً ، أو تكذيباً لقول المعصومين ( عليهم السلام ) ، أو ضلالاً عن الحق .
7 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم ) . فهو دليل على المرجعية عند الشيعة للفقهاء المتخصصين بالقرآن الخبراء بحديث النبي وأهل البيت ( عليهم السلام ) .
8 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما محمد بن علي بن مهزيار الأهوازي فسيصلح الله له قلبه ، ويزيل عنه شكه ) . وقد أصلحه الله تعالى وألحقه بأبيه رحمهما الله .
9 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما المتلبسون بأموالنا ، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران . وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه في حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث ) .
أوجب الله الخمس على المسلمين قبل بدر ، ونزلت آيته في سورة الأنفال ببدر ، وهو فريضة واسعة تشمل كل ما يغنمه الإنسان ، فيجب أن يعطي خمس كل مدخوله إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ثم إلى الإمام المعصوم من عترته ( عليهم السلام ) .
وبما أنه يحق لصاحب الخمس ( عليه السلام ) رفعه ، فقد وردت الرواية بتحليله أو تحليل بعض موارده لشيعة أهل البيت ( عليهم السلام ) حتى لا يكونوا في حرج .
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ( هلك الناس في بطونهم وفروجهم ، لأنهم لا يؤدون إلينا حقنا ، ألا وإن شيعتنا من ذلك وأبناءهم في حل ) . ( علل الشرائع : 2 / 377 ) .
لكن أخبار التحليل لا تعني سقوط فريضة الخمس في عصرنا ولا في غيره ، ولذلك طالب بها الأئمة ( عليهم السلام ) وأخذوها من الشيعة في عصور مختلفة .
10 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما علة ما وقع من الغيبة ، فإن الله عز وجل يقول : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ . . الخ . ) .
يدل ذلك على أن غيبة المعصوم ( عليه السلام ) عقوبة للأمة تنتج عن أوضاع سيئة فيها ، ولم يرد الإمام ( عليه السلام ) الإفاضة فيها ، لأنها تسوء السائلين عنها .
11 . قوله ( عليه السلام ) : ( وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالإنتفاع بالشمس إذا غيبها عن الأبصار السحاب ، وإني لأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فأغلقوا باب السؤال عما لا يعنيكم ، ولا تتكلفوا علم ما قد كفيتم ، وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج ، فإن ذلك فرجكم ) .
دلت الأحاديث الصحيحة على أن وجود المعصوم ( عليه السلام ) ظاهراً أو مستوراً ضرورة تكوينية لعمل قوانين الطبيعة ، فلو خَليت الأرض من معصوم لخربت وساخت بأهلها . ونحن نؤمن بذلك ولو لم نعرف وجهه .
وقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( مثل أهل بيتي كمثل نجوم السماء ، فهم أمان لأهل الأرض ، كما أن النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم طويت السماء ، وإذا ذهب أهل بيتي خربت الأرض ، وهلك العباد ) . ( المعتبر : 1 / 23 ) .
ومعنى : لايعنيكم : لا يمكنكم فهمه واستيعابه أو يشق عليكم ، فلا تتكلفوه .
وقوله : فإن ذلك فَرَجَكم ، يدل على تأثير دعائنا فينا بتعجيل الفرج ، أما تأثيره على مقادير الله تعالى في وقت الفرج ، فهو بعيد .
قبري أمان لأهل الجانبين
روى الشيخ الطوسي في التهذيب ( 6 / 93 ) بسند صحيح : ( عن أبي هاشم الجعفري قال : قال لي أبو محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) : قبري بسرَّ من رأى أمانٌ لأهل الجانبين ) .
وقال العلامة الحلي ( رحمه الله ) في تذكرة الفقهاء ( 8 / 455 ) : ( تستحب زيارة الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي ( عليه السلام ) ، وولده الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري ( عليه السلام ) . قال أبو هاشم الجعفري : قال أبو محمد الحسن بن علي ( عليه السلام ) : قبري بسر من رأى . . ) .
وفسره في الوافي ( 14 / 1562 ) : ( يعني أهل البلاد التي من جانبي القبر ) .
وفي روضة المتقين ( 5 / 402 ) : ( الخاصة والعامة أو عراق العرب والعجم ) .
والصحيح أنه يقصد جانبي نهر دجلة ، والقدر المتيقن من هذا الأمان التأمين من الخسف والزلازل الكبيرة ، وأن وجود البلد محفوظ منها ببركة هذا القبر . وقد ورد شبيهه في بغداد ببركة قبر الإمام الكاظم ( عليه السلام ) وقبور الحسينيين فيها .
كما ورد في حفظ قم ببركة قبر زكريا بن آدم الأشعري ( رحمه الله ) .
				
				
					
					
					 الاكثر قراءة في  شهادة الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام)					
					
				 
				
				
					
					
						اخر الاخبار
					
					
						
							  اخبار العتبة العباسية المقدسة