نهى ابن وغلام عمرو بن العاص إيّاه عن إعانة معاوية
المؤلف:
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
المصدر:
معرفة الإمام
الجزء والصفحة:
ج4/ص139-143
2025-12-10
47
عند ما وصل الكتاب إلى عمرو بن العاص ذهب به مذاهب شتّى، وفكّر ماذا يفعل، فاستشار ابنيه: عبد الله ومحمّد، فنهاه عبد الله عن الرحيل نحو معاوية قائلًا له: لستَ مجعولًا خليفة، ولا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا، فتستويا في عقابها. أمّا محمّد فقد قال له: أرى أنّك شيخ قريش وصاحب أمرها وإن تصرّم هذا الأمر وأنت غافل، تصاغر أمرك، فالحق بجماعة أهل الشام، طالباً بدم عثمان، فأنّه سيقوم بذلك بنو اميّة. فقال عمرو، أمّا أنت يا عبد الله، فأمرتني بما هو خير لي في ديني، وأنت يا محمّد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي، وأنا ناظر، فلمّا جنّه اللّيل رفع صوته وأهله يسمعون، فقال:
تَطَاوَلَ لَيْلِى بِالْهُمُومِ الطَّوارِقِ *** وَخَوْفِ التي تَجْلُو وُجُوهَ العَوَاتِقِ
وَأنّ ابْنَ هِنْدٍ سَألَني أنْ أزورَهُ *** وَتِلْكَ التي فِيهَا بَنَاتُ الْبَوائِقِ[1]
أتَاهُ جَريرٌ مِنْ عَلِيّ بِخُطَّةٍ *** أمَرَّتْ عَلَيْهِ الْعَيْشَ ذَاتَ مَضَائِقِ
فَإنْ نَالَ مِنِّي مَا يُؤَمِّلُ رَدَّهُ *** وَإنْ لَمْ يَنَلْهُ ذلَّ ذُلَّ الْمُطَابِقِ
فَوَ اللهِ مَا أدْرِي ومَا كُنْتُ هَكَذَا *** أكُونُ ومَهْمَا قَادني فَهوَ سَابِقِي
اخادِعُهُ أنّ الْخِدَاعَ دَنِيَّةٌ *** أمْ اعْطِيهِ مِنْ نَفْسِي نَصِيحَةَ وامِقِ
أمْ أقْعُدُ في بَيْتِي وفي ذَاكَ رَاحَةٌ *** لِشَيْخٍ يَخَافُ الْمَوْتَ في كُلِّ شَارِقِ
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللهِ قَوْلًا تَعَلَّقَتْ *** بِهِ النّفوسُ إنْ لَمْ تَقْتَطِعْنِي عَوائِقِي
وَخَالَفَهُ فِيهِ أخُوهُ مُحَمَّدٌ *** وَأنّي لَصُلْبُ الْعُودِ عِنْدَ الْحَقَائِقِ[2]
فلمّا أسفر الصبح، أراد عمرو أن يستشير غلامه وَردان، وكان داهية مارداً، ولكنّه قبل أن يطلق لسانه بالكلام، بادره وَردان قائلًا: إن شئتَ أنبأتُكَ بِما في قلبك؟ فقال عمرو: هات. قال وَردان: اعتركت الدنيا والآخرة على قلبك، فقلتَ: عليّ معه الآخرة في غير دنيا، وفي الآخرة عوض من الدنيا، ومعاوية مع الدنيا بغير آخرة، وليس في الدنيا عوض من
الآخرة، وأنتَ واقف بينهما! قال: قاتلك الله! ما أخطأتَ ما في قلبي فما ترى يا وَردان؟ قال: أرى أن تقيم في بيتك، فأنّ ظهر أهل الدين، عشتَ في عفو دينهم. وإن ظهر أهل الدنيا، لم يستغنوا عنك[3]. ولكنّ عمرو تهيّأ للرحيل، وهو يقول:
يَا قَاتَلَ اللهُ وَرْدَاناً ومِدْحَتَهُ[4] *** أبْدَى لَعَمْرُكَ مَا في النَّفْسِ وَرْدَانُ
لَمّا تَعَرَّضَتِ الدُّنيا عَرَضْتُ لَهَا *** بِحِرْصِ نَفْسِي وفي الأطْبَاعِ إدْهَانُ
نَفْسٌ تَعِفُّ واخرى الْحِرصُ يَغْلِبُهَا *** وَالْمَرءُ يَأكُلُ تِبْناً وهوَ غَرْثَانُ
أمّا عَلِيّ فَدينٌ لَيْسَ يَشْرَكُهُ *** دُنْيَا وذَاكَ لَهُ دُنْيَا وسُلْطَانُ
فَاخْتَرْتُ مِنْ طَمَعِي دُنْيَا على بَصَرٍ *** وَمَا مَعِي بِالذي أختَارُ بُرْهَانُ
أنّي لأعْرِفُ مَا فِيهَا وابْصِرُهُ *** وَفِيّ أيْضاً لِمَا أهْواهُ ألْوَانُ
لَكِنَّ نَفْسِي تُحِبُّ الْعَيْشَ في شَرَفٍ *** وَلَيْسَ يَرْضى بِذُلِّ الْعَيْشِ إنْسَانُ[5]
فجدّ عمرو بن العاص السير حتى بلغ مفترقاً يتشعّب إلى طريقين: أحدهما طريق العراق، والآخر طريق الشام. فمنعه عبد الله ووَردان من السير نحو الشام قائلين له: الآخرة في طريق العراق، لكنّ عمرو بن العاص لم يطاوعهما فعرّج نحو الشام[6]. ودخل على معاوية، وثبت له الأمر بولاية مصر، وعلّم معاوية كيف يخدع الناس بالأخذ بثأر عثمان خليفة رسول الله متظاهراً أنّ عليّاً وأصحابه هم الذين قتلوه. فأرسلا على شرحبيل بن السمط وهو شيخ الشام وأميرها فخدعاه بأنّ عليّاً هو الذي قتل عثمان فلا بدّ من قتاله أخذاً بثأر الخليفة المظلوم. فانخدع ذلك الرجل المسكين وأعلن للناس عن وجوب متابعة معاوية، وأن لا يألوا جهداً في الأخذ بثأر عثمان. وتمخّض ذلك كلّه عن حرب صفّين.
ذكروا أنّ مائة ألف قد قتلوا في تلك الحرب حتى كاد النصر أن يكون لأمير المؤمنين عليه السلام في ليلة الهرير، لو لا خطّة ماكرة جديدة طرحها عمرو بن العاص، وهي رفع المصاحف على الرماح ممّا أدّى إلى حدوث الاضطراب والتضعضع في جيش الإمام، وبدا عليهم الضعف والفتور واستغلّ المنافقون المندسّون في جيشه الموقف فأرغموه على التسليم لأمر الحكمين. وخدع عمرو بن العاص حكم أهل الشام أبا موسى الأشعريّ حتى حكم بعزل أمير المؤمنين عن الخلافة. وفي هذا الموقف لاحت البوادر الاولى لانشقاق الخوارج، فشكّلوا لهم جبهة في مقابل الإمام. ولم يقرّ الإمام عليه السلام بالتحكيم واعتبره خدعة ... ثمّ أنّه استعدّ مرّة اخرى لقتال أهل الشام للإطاحة بحكومة معاوية الفاسدة، وجهّز جيشاً عدّته مائة ألف، وكاد أن يتحرّك لو لا سيف ابن ملجم المراديّ أحد الخوارج الحمقى إذ فلق هامته، فانتقل من هذه الدار المتعبة إلى جوار ربّه حيث الأمن والأمان والسعادة.
تحرّك عمرو بن العاص إلى مصر أيّام خلافة الإمام أمير المؤمنين وقتل محمّد بن أبي بكر وإلى الإمام على مصر. وعمل كلّ ما في جهده لتوسيع رقعة حكومته، ولم يقصّر لحظة واحدة طيلة حياته عن عداء أهل البيت. وحدث مرّة أنّه عيّر الإمام الحسن عليه السلام وعابه في مجلس معاوية[7]. وكذلك وبّخ عبد الله بن جعفر[8]. لكنّ الإمام الحسن عليه السلام وعبد الله بن جعفر أجاباه جواباً شافياً وكشفا للملأ سيّئاته وقبائحه وجرائمه.
أنّ قصدنا من ترجمة عمرو بن العاص هنا هو: أوّلًا: ظهر لنا أنّ إيمانه كان سطحيّاً لم ينفذ إلى أعماق قلبه، فما أن أقبلت إليه الدنيا حتى طلّق دينه وباع نفسه ودينه بولاية مصر. ثانياً: على الرغم من العداء الذي كان يكنّه عمرو لأمير المؤمنين، بَيدَ أنّه أفصح في البداية عن مناقبه وفضائله، ولم يمتنع عن الاعتراف بها، وذكر في رسالته الاولى إلى معاوية بكلّ صراحة عشرين منقبة من مناقب أمير المؤمنين التي جاءت في الروايات المأثورة، والْفَضْلُ مَا شَهِدَتْ بِهِ الأعْدَاءُ. وممّا اعترف به هو الآية التي هي مدار بحثنا: {أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}، إذ صرّح على أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليّ عليه السلام.
[1] البائقة: الداهية، والجمع البوائق.(م)
[2] «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد، ج 2، ص 62.
[3] «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد ج 2، ص 63.
[4] في «مناقب» الخوارزميّ: وفِطْنَتَهُ.
[5] «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد ج 2، ص 63؛ و«مناقب» الخوارزميّ ص 131.
[6] «مناقب» الخوارزميّ ص 132.
[7] «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد ج 6، ص 287.
[8] «شرح النهج» ج 6، ص 295.
الاكثر قراءة في مقالات عقائدية عامة
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة