جاء في كتاب الحج ضيافة الله للسيد محمد تقي المدرسي: عن منافع الحج: لذلك ترى الناس حين يأتي موسم الحج ترى قلوبهم تتلهف للحج، واذا بالامور تتهيأ لبعضهم فيوفقون للحج، ولا تتهيأ للبعض الاخر فلا يتوفقون. وهذا التوفيق، انما جاء منذ ذلك اليوم. بعد ذلك قال الله تعالى: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" (الحج 28) ان الحج ليس مجرد عبادة فردية، وانما اضافة الى ذلك هي عبادة تتصل بالحياة وبتطوير الامم. فقد جعل الله سبحانه ارض مكة منطقة حرة اعطاها حرمة كاملة، هو سماها البيت الحرام الذي لا يحق للانسان فيه ان يتجاوز ويعتدي على أي شيء، حتى النملة اذا كانت على بدنه فلا يحق له ان يأخذها ويرميها على الارض، وانما عليه ان يضعها في مكان أمين، وحتى الطير لا يحق للحاج ان يكشه. لذلك تجد ان كل شيء هناك آمن. وكما يقول الشاعر العربي قبل الاسلام النابغة الذبياني: والمؤمن العائذات الطير يمسحها ركبان مكة بين العين والسلم.
وعن الحج محطّة التقوى يقول آية الله السيد محمد تقي المدرسي: قوله تعالى "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَابِ" (البقرة 197) تختصر الآية الكريمة أعلاه احكام الحج وفلسفته، كما تمنح الحاج بصيرة نافذة عن كيفية الحج، وبماذا يمكن أن يعود به، وكيف يتحول الحج بالنسبة إليه إلى نقطة تغيير ذاته في حياته، ليكون من قبل الحجّ وبعده نمطين من الشخصية؛ الاول: شخصيته قبل الوقوف بعرفة، والثاني: شخصيته بعد الوقوف بعرفة. فمن الناس من يستفيد من هذه النقطة الاساسية فيعود بزاد عظيم وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، ومنهم من يقتصر الاستفادة القليلة. ولاريب إن أعمال ومواقف الحجّ كلّها فوائد تعود على الحاجّ، وفي الحديث المروي عن مولانا الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام جاء: (أعظم الناس ذنباً من طاف بهذا البيت مشيراً الى البيت العتيق ووقف هذا الموقف مشيراً الى الوقوف بوادي عرفة ثم ظنّ أن الله لم يغفر له ذنبه، فهو أعظم الناس ذنباً). "فَلا رَفَثَ" (البقرة 197) فكل ما يتصل بالجنس والشهوة يجب أن يتهاوى وأن يبتعد الحاجّ عنه، حتى قال الفقهاء: من ثبوت الاحرام يجدر بالحاج ان يمتنع حتى عن أن يكون شاهداً في عقد الزواج. فوجوب التخلص، ولو لفترة محدودة عن جاذبية الشهوات، أمر لابد من الالتزام به. "وَلا فُسُوقَ" (البقرة 197) وللفسوق تفسيرات عديدة، ولكنّ التفسير الاشمل هو كل ما يخرج الانسان عن جادة الصواب. أي ضرورة الالتزام بهجرة الذنوب؛ الصغائر منها والكبائر. بمعنى أن في الحجّ برنامج عمل متكامل لتربية وتزكية الحاج بصورة مباشرة. فكل ذنب من الذنوب له عقاب مباشر، وقد يصل بعض انواع العقاب الى بطلان الحجّ من الاساس، وذلك إذا تمادى الحاج في ارتكابها. هذا فضلًا عن مسألة قبول الله لها أو عدم قبوله. "وَلَا جِدَالَ" (البقرة 197) إن الانسان الذي يغفل عن حقيقة الوجود وعن حقيقة نفسه تجده مستميتاً في الذبّ والدفاع عن نفسه، "وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا" (الكهف 54) وهذه هي الإشكالية. إذن؛ فالحاج يقصد بيت الله ليتطهّر؛ ليس فقط من الذنوب، وإنما من تلك الجذور العميقة الضالة في عمقه، تلك الجذور التي تتفرع عنها الذنوب. فالمذنب يذنب بشهواته المادية أو بعصبياته وجدله ومفاخرته ومباهاته واستحقاره للآخرين جاء الحاج ليتطهّر منها في لحظات التجلي الربانية، اللحظات التي يتعرف فيها الانسان الى حقيقة نفسه المجردة العاجزة، فيزداد معرفة بربّه. وصدق الحديث الشريف القائل: (من عرف نفسه فقد عرف ربّه).
وعن علاقة الخير بالحج يقول السيد المدرسي حفظه الله في كتابه: قوله سبحانه "وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْه اللّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى" (البقرة 197). والخير الذي يمكن للانسان ان يفعله أثناء الحجّ بوجه خاص؛ الاخلاص لله سبحانه وتعالى، ووعي الاهداف الأصلية لأنواع المناسك والإتيان بها. والتزوّد الذي يأمر الله تعالى به، هو التزوّد بالتقوى. والتقوى عبارة عن حالة نفسية لا تنمو بالمال ولا بالدروس ولا بالمحاضرات، بل التقوى ملكة نفسية ينميها المرء من خلال تجارب عملية تترك في ذاته آثاراً ايجابية عميقة. إن قصد الهدف الاسمى من الحجّ بتجرد، والتوجه الى لبّ المسألة، هو المرآة الناصعة التي ينعكس فيها قوله تعالى: "وَاتَّقُونِ يَآ أُوْلِي الأَلْبَاب" (البقرة 197). فليس كل انسان ينخرط في عداد من سماهم القرآن الكريم "أُوْلِي الأَلْبَاب" (البقرة 197) بل هي تسمية تصدق على الذين يستهدفون عمق القضايا والمفاهيم فحسب. أما اولئك الذين يقنعون بالظاهر من الامور، فحري بهم العيش على السطح، أو يكتفوا من البحر بزبده.
وعن ايام مباركات يقول السيد محمد تقي المدرسي: ان الايام العشرة الاوائل من شهر ذي الحج، التي اشار اليها الله تبارك وتعالى في قوله: "وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ" (الفجر 1-3)، وقوله: "وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً" (الاعراف 142). هذه الايام تعتبر من الايام المباركة العظيمة، لان وفود الرحمان تستعد فيها للقيام بتلك الرحلة الالهية العظيمة. فلقد اذن مؤذن الرب تعالى ابراهيم الخليل عليه السلام في الناس بالحج، فاذا بقلوب الملايين تهوي الى الكعبة المباركة، والمسجد الحرام، والمشاعر المقدسة، وتتعلق بهذه الديار التي تتجلى فيها رحمة الله، وتستقطب نفوس المسلمين اينما كانوا. ولذلك فعلى الرغم من الصعوبات والاخطار التي كانت وما زالت تهدد الوافدين الى مكة المكرمة، وعلى الرغم من الاموال الهائلة التي لابد لكل انسان مسلم ان ينفقها ليصل الى تلك الديار على الرغم من كل ذلك ترى السلمن يعشقون الحج، ويبذلون الغالي والنفيس من اجل ادائه. وهذا دليل على ان هذه النفوس انما تهوي استجابة لنداء ابراهيم عليه السلام: "فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ" (ابراهيم 37). ومنذ ذلك الزمن البعيد والى الآن؛ اي بعد حوالي خمسة آلاف عام او اكثر مازال هذا البيت العتيق يستهوي الملايين من البشر، وكأنه مؤتمر الهي عظيم. فالذين يذهبون الى هذه الديار انما هم ممثلون عن المسلمين؛ اي عن اكثر من مليارد ومائتي مليون انسان مسلم منتشرين في بقاع الارض المختلفة، صهرتهم بوتقة التوحيد، وجعلتهم يحافظون على وحدتهم رغم انهم يتحدثون بلغات شتى، ويعيشون في بيئات مختلفة، ويتفاعلون مع مؤثرات متفاوته. فترى الواحد منهم ينتمي الى جنس من الممكن ان لايكون الآخر قد سمع به، ومع كل ذلك نرى هذه الامة المنتمية الى جميع الانبياء ما تزال هي الامة الواحدة كما يقول تعالى: "إِنَّ هَذِهِ امَّتُكُمْ امَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الانبياء 92) فالامة ماتزال بكل عنفوانها وشبابها ونظارتها وحيويتها، وما يزال الحج هو بوتقة هذه الأمة، والسبب الذي جعلها واحدة رغم كل الحواجز، لان الحج يصهر هذه النفوس انصهاراً عينياً واضحاً في تلك البوتقة الواحدة.







وائل الوائلي
منذ 3 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN