تتجه العقول نحو بناء الأفكار وتطويرها كأحد مساعي العقل في كسب المهارات لإيجاد الملائمة الفعالة في التعامل مع الواقع وقراءة فلسفة التاريخ لتضمين اليوميات بقضايا حدسية لتحقيق التوازن القيمي والاجتماعي والعاطفي وهذا لا يأتي صدفة او بتأثير الحظ او الربح والخسارة انما بالسعي الجاد والبحث ومواصلته لتحصيل المعارف وكسب العلم عبر بواباته المتعددة التي تبدأ من التربية وصولا الى برمجة العقل لتحبيبه نحو القراءة الفعالة واختيار الكتاب الذي يعد من ابرز معالم الرفقة الناهضة بالمستويات العلمية ومصداقا لخير جليس في مختارات المتنبي:
أعَزُّ مَكانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سابحٍ وَخَيرُ جَليسٍ في الزّمانِ كِتابُ
اذ يقدم الكتاب عطاء وافرا سيما عندما تكون العناوين المختارة تلامس الحاجة الفعلية للتعايش بين المجتمعات وقراءة التاريخ وإذا اردنا ان نقف قارئين لعنوان "القراءة بين التراث والعصر الرقمي ضمن اطر الملازمة والانفكاك" الذي تم اختياره من قبل مركز دراسات الكوفة ليكون لمحة محفزة للباحث على أروقة البيت الثقافي فإننا نجد ان الملازمة تتحدث عن أهمية القراءة على اختلاف الإمكانيات والوسائل فلا نستطيع القول ان عصر الرقمية اخفى معالم التراث من حيث الأدوات المستخدمة في القراءة وكما تؤكد فرضية الاديب الإيطالي أمبرتو إيكو في تاريخ الثقافة، "لم يحدث أن قام شيء بقتل شيء آخر، ولكن هناك شيء ما يغير صورة جذرية لشيء آخر".
حيث ان اختلاف الوسائل لا ينفي الركون الى الماضي والعودة به الى الرقي المعرفي فالقراءة قوة تمنح العز والطمأنينة وتفتح للإنسان أفاقا لم يكن يتصورها من قبل كما يقول في ذلك الكاتب عباس محمود العقاد "القراءة وحدها هي التي تعطي الانسان الواحد أكثر من حياة واحدة، لأنها تزيد هذه الحياة عمقا، وإن كانت لاتطيلها بمقدار الحساب"
لذلك عدت القراءة احدى اهم العمليات التفكيرية التي تشمل فك الرموز المختلفة للوصول الى المعنى المرجو منه، ولعل سائل يسأل عن سببية القراءة فتتجلى عند ذاك المكاسب التي تحققها فمنها الثقة الشخصية والقوة الذاتية التي ترتبط بالكفاءة والانجاز المعرفي والمهني والمهاري وفتح افاق ذلك بأساليب مختلفة تتجذر في تفاصيل الواقع والمكان كما تساهم مساهمة فعالة في تكوين واتخاذ القرارات المصيرية في تخطيط الشخصية والعمل وبناء الأفكار والرؤى الاستراتيجية فضلا عن الأهداف بعيدة المدى والقريبة ونجد ان الأشخاص الذين يحسنوا القراءة ويجيدون اختيار العناوين المطابقة لإحتياجاتهم يحققوا تطورا متميزا في الاعمال ويحصلون على الترقيات المتواصلة ويتمكنوا من إدارة الازمات بشكل منظم حيث تمنح القراءة فهما واسعا وشاملا للمحيط وتحديد الاحتياجات ولباقة في الحوار الذي يطغى عليه في كثير من الأحيان عامل العاطفة و ردات الفعل المصاحبة لقوة العصبية وغياب المنطقية ومن مخرجات القراءة الدقة والذكاء والبديهة وسرعتها ومواكبة التدفق في المعلومات من خلال توسع العقل والتفكير الإبداعي وتحسين التركيز وسعة النظرة المحللة وتوجد حلولا فعالة في تحسين مستوى الإحساس بالانتماء والوطنية.
وتتميز القراءة بأنواع عدة منها الصامتة والجهرية والسريعة والمتأنية (الموسعة الشاملة) كالفهم الشامل واثراء المعلومات والكفاءة كالإلمام بقواعد اللغة فضلا عن التحليلية الترابطية وهنا يكمن هدف الكُتّاب ومنها أيضا القراءة الناقدة والانتقائية كالتراكيب اللغوية والنحوية للجمل كما في قواميس اللغات، وتشير العديد من الدراسات الى ان القراءة التحليلية تختص بقراءة ما بين السطور في حين ان القراءة الالية هي فك الرموز فقط ونجد ان القراءة النقدية تحاول ان تقرأ ما وراء السطور والقراءة الحرفية تتناول قراءة السطور.
ولتحسين مهارات القراءة لابد لنا ان نراعي التركيز على الجمل المهمة ونتخذ منها خطوات في حياتنا والبحث عن المعاني الصعبة ما بين السطور وتفكيكها لتكون جزءً من مفرداتنا ولعل من الضروريات عند اختيار أي كتاب ان نراعي معرفة الكاتب وسيرته الذاتية وعدم التعجيل بإنهاء الكتاب وبذلك نفقد الحماس والشغف والفائدة؛ ولتحقيق قراءة جيدة علينا اختيار المحتوى المرتبط بالحياة ذو صلة بما نحتاجه ولابد من توظيفه بالنوافذ الإبداعية والعمل على تعليم الكتب والعناوين وربطها بواسطة الكلمات المفتاحية والتلخيص الرابط بين اللفظ والمعنى ويأتي ذلك بتحديد وقت يومي للقراءة ومحاولة صياغة المعنى الوارد في الالفاظ؛ وجميل ان يتم عقد جلسات لمناقشة كتاب ما فضلا عن اختيار الصديق الذي يتشابه بالميول.
ولعل من الأساليب الداعمة لتسهيل تلخيص الكتاب العمل بتقنيات الخرائط الذهنية للمتخصص توني بوزان الذي اعتبرها تمثيلا مرئيا للطريقة التي يرتب بها الدماغ المعلومات ويعتمد على الكلمة الرئيسة او صورة المعنى او رمز ثم يتفرع من المركز الى فروع تظهر في أولها الكلمات حتى تترابط مع بعضها وفق رسم عصبي حيث تعتبر الخرائط الذهنية أحد اهم أساليب تسهيل التخطيط للمشاريع وتدوين الملاحظات والكتابة وتنظيم الفعاليات والمهام والواجبات ووضع الأهداف وخطط الوصول لتحقيقها.
ان مهارة القراءة تحفز مهارات التفكير العالية وتزودها بالربط المعرفي حيث تشمل مهارة حل المشكلات، والتفكير المجرد، والتفكير الناقد أي مجموعة المهارات التي تتجاوز المهارات الأساسية المتعلقة بتذكر المعلومات واسترجاعها حيث يكشف الافراد عن مهارات التفكير العالية لديهم من خلال قدرتهم على حل المشكلات وجمع المعلومات وتحليلها ومعالجتها وتطبيقها على مواقف مختلفة وتشمل تلك المعالجة التجريب وتحليل المعلومات والمقارنة والمناقشة والاستنتاج والتعميم؛ ان مهارات التفكير العالية هي تلك التي تقع في أعلى هرم سلم بلوم المعرفي الذي وصفها وفقا لتحليله العلمي؛ وبهذا السلم ومخرجاته لا يمكن ان نحقق تقدما متقنا معه ما لم نباشر بالقراءة المتواصلة لنتمكن من تحقيق هذه المهارات العالية التي يعجز عنها الكثير.
لا يختلف اثنان على ان من يسعى للتزود بالعلم بواسطة القراءة سواء أكان يقرأ بالكتاب الورقي او الالكتروني رغم التباين الذي نشهده بين القراء فمنهم من يعتبر ان للكتاب الورقي مذاقا خاصا ولا يمكن ان تطغى عليه اية وسيلة أخرى كونه أفضل للتعلم بسبب ان الكتب الالكترونية قد لا تمنح الفترة المناسبة للتركيز وتتشتت القراءة بسبب الاشعارات الواردة للهاتف في كثير من الأحيان او إشكاليات تتعلق بالبرنامج او نفاذ البطارية في حين اعتبر البعض ان التكنلوجيا الرقمية اتاحت إمكانية وصول عالية وسريعة للمعلومات وإمكانية مقارنة الاخبار والعناوين.
وهناك عدد من الباحثين في علم الاجتماع يدعون الى ثقافة التعامل مع الكتاب الرقمي حيث قال د. حسين خزعل "نحن بحاجة لان يكون لدينا ثقافة التعامل مع الكتاب الرقمي بكيفية توعية الطالب الرقمي والمعلم الرقمي من خلال التأكد من المعلومات والبحث عنها وجودتها ونوعيتها والتأهيل للحصول على المعلومات"؛ وهناك عشرات الأفكار المحفزة للقراءة والداعمة لزيادتها لكنها تحتاج الى مرافقة التشجيع والاندماج المجتمعي لتعميقها كثقافة يومية عامة لتجد مكانا مناسبا في تفكير السواد الأعظم من الناس.